حقيقة سرايا و بعوث النبي محمد صلى الله عليه و سلم

حقيقة سرايا و بعوث النبي محمد صلى الله عليه و سلم

أيمن عودة

طبيب، باحث، كاتب وشاعر
  • أحد أهداف هذه السرايا هو حراسة حدود المدينة من قوافل قريش .
  • الحرب المعلنة من قبل قريش على المسلمين والخوف من انتشار الاسلام.
  • العذاب الوحشي للمسلمين والذي استمر ثلاثة عشر سنة في مكة.
  • وجوب الحذر والحيطة من قبل المسلمين بتشكيل سرايا تؤمن حدود المدينة المنورة.
  • اتهام المسلمين بالتخطيط للاعتداء والحرب اتهام باطل .

__

في سياق الاتهامات التي تصب ضد الدين الإسلامي الحـنيف، عبر وسائل الإعلام المختلفة، ولا سيما في البلاد الغربية، كثيرا ما يُطعن في طُهر هذا الدين، أنه قد انتشر بالقوة والعنف وإجبار الآخرين على اعتناقه. ولا يقتصر الحديث في هذا الموضوع عن الحروبات التي خاضها المسلمون مرغمين من أجل الدفاع عن أنفسهم، بل يذهب المغرضون من المؤرخين والمثقفين والسياسيين، إلى ما جرى بعد هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة من سرايا وغزوات حدثت قبل غزوة بدر الكبر، واصفين ما جرى فيها، وكأنها أعمال سطو مسلح لعصابات من الصعاليك المسلمين، وعلى رأسهم سيدنا محمد (لا سمح الله)، والتي كانت تُغير على القوافل التجارية التابعة لكفار مكة، عندما كانت تمر هذه القوافل قرب المدينة المنورة في رحلتها من مكة إلى الشام. ويذهب هؤلاء الحاقدون على الإسلام، إلى القول بأن هدف المسلمين من هذه السرايا، ما كان إلا أطماع مادية تتمثل  بالاستيلاء على القوافل التجارية وبضاعتها وحمولتها، من أجل قطع شريان الحياة الاقتصادي على قريش؛ هذا بالإضافة إلى استفزاز قريش لإشعال فتيل الحرب بين الطرفين، ولإيجاد ذريعة ووسيلة لنشر الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية بالقوة والإكراه.

وللأسف الشديد، نواجه شيئا من هذا الوصف لهذه السرايا، ليس فقط من قبل أعداء الإسلام، بل من قبل بعض المؤرخين المسلمين أيضا، الذين يتّفقون على أن دافع هذه السرايا مادي وديني من أجل نشر الإسلام؛ وبهذا يقدّم هؤلاء لأعداء الإسلام مادة للنّيل من الدين الإسلامي، فيأخذ الطاعنون بهذا الدين بتصويره أنه دين إرهابي، كما يُشيع اليوم الكثير من الكتاب والمثقفين والسياسيين الغربيين في بلاد الغرب؛ لدرجة أن هذا الوصف لأحداث  هذه السرايا، نجده حتى في منهاج الدراسة الثانوية في البلاد الغربية. وهكذا يُغذّى الطلاب والتلاميذ، منذ حداثتهم، بأفكار مشوهة عن الدين الإسلامي الحنيف، ما من شأنه أن يُسهم في تنفير الشعوب الغربية من الإسلام، وزعزعة الشخصية والهوية الإسلامية، لدى التلامـيذ والطلاب المسلمين القاطنين في البلاد الغربية.

وأن أحد الأهداف من هذه البعثات، إظهار الحراسة لحدود المدينة لكي لا تجرؤ القوافل على القيام بأي اعتداء عليها، إلا أنه ليس من المعقول اتهام المسلمين بالتخطيط للاعتداء والحرب.

لذا، رأيت أن أقف في هذا المقال، على دوافع هذه السرايا وأهدافها، وأهم الحوادث التي جاءت فيها، والتي من شأنها أن تلقي ضوءا على حقيقتها. وفي هذا السياق لا بد من تتبع الأحوال التاريخية والظروف التي اكتنفت هذه السّرايا، لنلمس بشكل جليّ أن الهدف منها ما كان إلا استطلاعا واستكشافا للطرق المحيطة بالمدينة المنورة، ورصدا لتحركات قريش، و ضمانا لأمن المدينة من الشر الذي تبيّته قريش أصلا للمسلمين؛ ولم تكن الحرب العدوانية هدفا من هذه السرايا البتة، كما لم يكن بنية النبي محمد إشعال فتيل الحرب مع قريش أو استفزازها، ولا قطع الطريق والاستيلاء على القوافل التجارية التابعة لها؛ إذ لم تكن هذه الأفعال والتصرفات من أخلاق المسلمين، ولا مما يتيحه القرآن الكريم، ضمن منظومة التعاليم الأخلاقية السامية، التي أقرها الله ، وأكدها سيدنا محمد بأقواله وأفعاله كقدوة حسنة للمسلمين والعالم بأسره؛ ولإثبات ذلك أسوق ما يلي من الحوادث والتحليلات للأوضاع السياسية والاجتماعية التي أحاطت بتلك الحِقبة الزمنية من حياة المسلمين في المدينة:

– لا يمكننا – والحديث هنا عن الحِقبة المدنية من تاريخ المسلمين- أن لا نرجع إلى الحقبة المكية، لنتذكر شراسة وقساوة وبربرية الاضطهاد الذي عاناه المسلمون من قبل الكفار، وهي حوادث معروفة للجميع لا يتسع هذا المقال لتفصيلها؛ كذلك إصرار قريش وعزمها على قتل الرسول ، مما حدا به وبغيره من المسلمين لترك مكة والهجرة إلى المدينة، فهنا نسأل السؤال التالي: هل يمكن لهذا الحقد وهذه الكراهية وهذا الإصرار أن يفتُر بعد الهجرة إلى المدينة؟

فالتاريخ يثبت أن حالة العداء هذه، بقيت على ما هي عليه، بل ازدادت نظرا للصدمة التي انتابت قريش لإفلات الرسول من أيديها؛ فمجرد خروج الرسول من مكة لم يكن ليزيل غضبهم وحقدهم عليه، والدليل على ذلك أنهم وضعوا جائزة مقدارها مئة جمل لمن يأتي برأس النبي وصاحبه أبي بكر حيّين أو ميتين؛ ولذا فالحال قد بقيت حال عداء مضمر، لا بل وحتى علنيّ من قبل قريش تجاه المسلمين.

– لقد أكد التاريخ علنية هذا العداء، بغضب الكفار على أهل المدينة، الذين آووا المسلمين بين ظهرانيهم؛ حيث أرسل هؤلاء إلى عبد الله بن أبي بن سلول، زعيم المنافقين في المدينة، يوبّخونه على إيواء المسلمين ويؤلبونه عليهم، إذ جاء في خطابهم له تأكيدهم وعزمهم على مقاتلة الرسول وأهل المدينة كلها، إذا أصروا على إيواء المسلمين. فقد ذكر أبو داود في سننه نص هذا الخطاب كما يلي: ” إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم”. فكان هذا الخطاب بمثابة إعلان حرب، حيث جاء تأكيدا على استمرار النوايا العدائية من قبل الكفار تجاه الرسول وأتباعه.

– ومما يؤكد هذا العداء المعلن قولُ أبي جهل لسعد بن معاذ زعيم الأوس، حين قدم  إلى مكة للطواف بالكعبة إذ قال له: ” أتتوقعون أن بإمكانكم المجيء إلى مكة والطواف بالكعبة آمنين، بعد أن قدّمتم الحماية لهذا المارق محمد؟ أتظن أنك تستطيع منع محمد وإنقاذه؟ أقسم بالله أن هذا لن يكون، ولن تستطيع أن تعود إلى أهلك سالما”؛ فرد سعد بن معاذ    قائلا :” خذها مني كلمة، لو منعتمونا من الطواف بالبيت والحج، فلن تجدوا سلاما في الطريق إلى الشام”. وبقدر ما تؤكد هذه الحادثة تخطيط قريش لمعاداة المسلمين، فهي تؤكد أيضا حسب قول سعد بن معاذ، أن التعرض للقوافل التجارية التابعة للكفار هو أمر مشروط ببدء مكة العداء، كما أنه لن يكون إلا كردة فعل على جرائم الكفار تجاه المسلمين، إذا ما أنفذت قريش خططها العدائية بشكل فعلي.

– يظـهر تخطيط قريش للحرب ضد المسـلمين أيضا من أقوال زعماء مكة، عندما أشرف الوليد بن المغيرة -أحد سادات مكة- على الموت، وقد اجتمع حوله سادات مكة وهو على فراش الموت، وقد أخذ يبكي، ليثير بذلك عجب من حوله، فسألوه عن سبب بكائه فقال: أتظنون أني أخشى الموت؟ ليس الموت ما أخشاه، بل أخشى أن ينتشر دين محمد وأن يتبعه الناس حتى تبايعه مكة نفسها”.فأقسم له أبو سفيان أنهم سيقاومون هذا، باذلين أرواحهم ضد انتشار هذا الأمر.

– لم يقتصر الأمر على الأقـوال والتصـريحات العدائية لسادة قريش، بل أرسل هؤلاء إلى القبائل المحيطة بالمدينة لتحريضهم على قتال المسلمين، هذا بالإضافة إلى تحريض المنافقين من المسلمين داخل المدينة لتأليبهم على المسلمين. كل هذا جعل من حياة المسلمين في المدينة محفوفة بالمخاطر الكبيرة، مما يتطلب مهنم حيطة وحذرا شديدين، فكان لا بد لهم من التناوب على حراسة الرسول ورصد تحركات الكفار والمنافقين، فجاءت البعثات الإستكشافية والسرايا لخدمة هذا الغرض لا غير.

– لا بد من التدقيق في وصف القوافل التجارية التي كانت ترسل بها قريش من مكة إلى الشام، فهي رغم كونها بالأساس تجارية، إلا أنها كانت مدججة بالسلاح والعتاد الحربي، وبعدد لا يستهان به من المقاتلين، يعادل في بعض الأحيان بضع مئات من المقاتلين بهدف حراستها؛ الأمر الذي كان يشكل خطرا كبيرا على المدينة، عند مرور هذه القوافل قربها، وقد حدث أن اعتُدي على ضواحي المدينة، مثلما حدث قبل غزوة سَفوان (بدر الأولى)، فكان هذا الاعتداء هو السبب لهذه الغزوة؛ وأما المسلمون -لا سيما سيدنا محمد – فكانوا على دراية كافية بما يلازم هذه القوافل من المقاتلين والعتاد الحربي، ونظرا لمعرفة المسلمين بنوايا قريش العدائية كانت هذه القوافل تشكل مصدر قلق كبير، فكان لا بد من رصد تحركاتها.

– إذا ما قارنا عدد الأفراد المسلمين المشتركين في هذه السرايا، مع عدد المقاتلين الملازمين للقوافل التجارية، يتبين لنا بشكل يقيني أن هدف المسلمين من هذه البعوث، ما كان الاستفزاز أو بدء عدوان أو تسلط على القوافل؛ ففي بعض هذه البعثات، كان عدد المسلمين يعادل عُشر أو خُمس عدد الكفار الملازمين للقافلة، فكانت تخرج البعثات الاستطلاعية وعدد المسلمين فيها  عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو ستون، مقابل أعداد كبيرة نسبيا من الكفار، فلا يُعقل أن يرسل الرسول   عشرة أو عشرين أو ثلاثين شخصا، لمقاتلة قافلة لا يعرف عدد مقاتلتها بالتحديد، أو وهو يعرف أن عددهم قد يكون بالمئات، وقد خرجت إحدى السرايا، وهي سرية سعد بن أبي وقاص، مؤلفة من تسعة أشخاص، مشيا على الأقدام، فهل يُعقل أنها كانت تنوي الاعتداء و القتال؟! لا شك أن هؤلاء المسلمين، كانوا على استعداد لمواجهة أي اعتداء، والتضحية بأنفسهم إذا ما اعتُدي عليهم، وأن أحد الأهداف من هذه البعثات، إظهار الحراسة لحدود المدينة لكي لا تجرؤ القوافل على القيام بأي اعتداء عليها، إلا أنه ليس من المعقول اتهام المسلمين بالتخطيط للاعتداء والحرب.

– ورغم اختلاف المؤرخين في تأريخ هذه السرايا والغزوات، إلا أنه مما لا شك فيه، أن بعض هذه السرايا قد حدثت في الأشهر الحرم  (رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، ومحرّم)، والتي كان متعارفا عليه بين العرب أنه لا قتال فيها، فما كان للنبي محمد أن يخالف هذا العُرف، وأن يأمر المسلمين بالقتال في هذه الأشهر. فقد سجلت كتب التاريخ وقوع هذه السرايا في الأشهر الحرم. ومما يؤكد ما نقوله هنا، ما حدث في سرية عبد الله بن جحش الأسدي، والتي وقع فيها القتال بالفعل، وكان ذلك في آخر يوم من شهر رجب وهو من الأشهر الحرم، إلا أن هذا كان خلافا لأمر الرسول ؛ حيث وبّخ الوفد الذي أرسله فيها، وقال لهم: “ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام”، فاتخاذ القرار بالقتال في هذه السرية لم يكن بأمر من الرسول ، بل كان خطأ لبعض المشتركين في هذه السرية، ثم إن قول الرسول يدل دلالة واضحة، أنه لم يكن في نيته من هذه السرايا أي قتال، بل كانت كما اسلفنا استطلاعا واستكشافا وترقبا.

– لقد كان من بين هذه الحملات الاستطلاعية ما اشترك بها الرسول بنفسه، ولذلك قد  أُدرجت في عداد الغزوات، وقد تسهم هذه التسمية – الغزوات- بعض الشيء، في إضفاء صورة مغايرة لواقع هذه الحملات، إذ قد تومئ للقارئ بنوع من العداء ونية الحرب من قبل المسلمين، غير أن تفاصيل هذه الغزوات  تؤكد أنه لم يكن في نية الرسول أي نوع من العدوان  أو بدء القتال. ففي غزوة ودّان (غزوة الأبواء)، خرج الرسول بعد أن وصلته أخبار قافلة لقريش تصحبها قوة عسكرية كبيرة، إلا أنه  رأى أن القافلة قد مرت ولم يحدث أي قتال فيها، فأمِن شرها وعاد أدراجه إلى المدينة بعد أن وادع بني ضَمرة -إحدى القبائل المجاورة للمدينة-، فلماذا لم يُرغم المسلمون بني ضمرة على الإسلام إذا كان هدفهم نشر الإسلام بالقوة؟ ونفس هذا السؤال لا بد أن يُسأل  في موادعة بني مُدلج في غزوة العُشَيرة أيضا؟

وأن أحد الأهداف من هذه البعثات، إظهار الحراسة لحدود المدينة لكي لا تجرؤ القوافل على القيام بأي اعتداء عليها، إلا أنه ليس من المعقول اتهام المسلمين بالتخطيط للاعتداء والحرب.

– في أغلب هذه الحملات لم يحدث أي قتال، فهكذا كان الأمر في غزوة ودّان والعُشيرة وبُواط وبدر الأولى والسرايا الأخرى، سوى سرية عبد الله بن جحش الأسدي كما بيّنا سالفا، وكذلك رمي بالنبال دون المسايفة، في سرية عبيدة بن الحارث ولكنه سرعان ما انتهى بفرار المشركين. ففي أغلب الأحيان كان المسلمون يخرجون بعد توجسهم خيفة من القوافل التجارية المارة قرب المدينة، إلا أنه بعد التأكد من نواياها وضمان كونها قد مرت دون اعتداء على المدينة، كان المسلمون يعودون دون قتال يذكر؛ فلو كان الاستيلاء على هذه القوافل هدف المسلمين، لقاموا على الأقل بملاحقة هذه القوافل- رغم عدم اعتدائها على المدينة- ولو مرة واحدة، ،إلا أن هذا لم يحدث.

بناء على ما تقدم، نرى أن الدافع الأساسي لهذه السرايا والطلعات الاستكشافية، هو حالة الخوف والترقب التي كان يعيشها المسلمون بعد الهجرة إلى المدينة، وهي في الحقيقة ما كانت إلا حالة حرب معلنة من قبل قريش، وفق التصريحات التي أدلى بها زعماؤها تجاه المسلمين بعد هجرتهم للمدينة؛ وبعد كل هذه التصريحات العدائية وبعد مكابدة ثلاثة عشر سنة من العذاب الوحشي من قبل الكفار في مكة، كان من حق المسلمين لا بل من واجبهم، إرسال هذه السرايا الاستطلاعية لحفظ أمن المدينة من شر القوافل التجارية، بالإضافة إلى تفقّد الطرقات والأماكن المحيطة بالمدينة. ولو حدثت هناك بعض الأخطاء، في بدء القتال من قبل المسلمين،  فليس أغرب -والأوضاع هذه- من إلقاء اللوم على المسلمين؛ إذ إنه عند إعلان الحرب من قبل طرف واحد، فإن هذا الإعلان يعطي الطرف الآخر حق الهجوم وليس فقط الدفاع، وفق قواعد الحرب في عصرنا الراهن، فعلام يدين الغرب المسلمين في تصرفهم هذا؟ وبالأخذ بعين الاعتبار كل هذه الظروف، وعدم حدوث قتال في أغلب هذه الطلعات الاستكشافية، أيصحّ بعد هذا ، وصف هذه الطلعات، أنها أعمال سطو وقطع طرق، بهدف الحرب ونشر الإسلام ؟!

المصـادر:

  1. حياة محمد لسيدنا بشير الدين محمود أحمد .
  2. السيرة النبوية لابن هشام الجزء الثاني
  3. البداية والنهاية لابن كثير
  4. التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر
  5. الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البَر
Share via
تابعونا على الفايس بوك