تجلي عظمة الوعد الإلهي
  • تأثير الإثم ما لم يتم غفرانه
  • دور عبارة “إن شاء الله” في رقي الإنسان
  • الأنبياء دليل على وجود الله تعالى
__
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِين   (يوسف: 98)

التفسـير:

إن تأثير الإثم يبقى في القلب ما لم يتم غفرانه، لذلك نجد إخوة يوسف لم يزالوا يقعون في تقصيرات تدل على نقصان طهارتهم الباطنية، ولكن نجدهم قد تغيروا تماما بعد أن غفر لهم يوسف قائلاً: لا تثريب عليكم اليوم ، وبعد أن شملهم الله بغفرانه عنهم، إذ لا يرون الآن الكفاية فيما قاموا به بأنفسهم من استغفار وتوبة، بل راحوا يلتمسون من أبيهم أيضا أن يدعوَ ربه ليغفر لهم ذنوبهم، مع أن الإنسان العادي يكتفي في مثل هذا الموقف بالاعتذار إلى من أساء إليه فقط. ذلك أنهم حينما أخلصوا في توبتهم انكشفت عليهم الحقيقة أن سخط الإنسان أو عقابه لا يساوي شيئًا إزاء سخط الله وعقابه ، فقرروا أن يعقدوا الصلح مع الله تعالى قبل كل شيء، ويطلبوا منه العفو والغفران بواسطة نبيّه يعقوب. وهذا الطلب كان متضمنًا أيضًا العفوَ عنهم من قِبل أبيهم، لأنه إنما يستغفر لهم ربّه  إذا كان قد عفا عنهم بنفسه.

قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ   (يوسف: 99)

التفسـير:

ثمةَ حكمة فريدة يجب أن نتذكرها. فأبوهم يقول لهم: سوف أستغفر لكم ، والمعلوم أن (سوف) تفيد التأكيد ولكن في المستقبل البعيد، بينما نجد أخاهم يوسف قد أعلن العفو عنهم على الفور قائلاً: لا تثريب عليكم اليوم . لماذا؟ الحق أن القرآن قد قام هنا بتصوير الفطرة الإنسانية أصدق تصوير. ذلك أن يوسف كان يستعد منذ فترة للعفو عنهم لذلك عفا عنهم فورًا دون أن يقول لهم: (سوف أستغفر لكم ربي)، وأما سيدنا يعقوب فجاءه الخبر فجأةً، ولذلك ردّ على طلبهم قائلاً: حسنًا، ولكن هذا سيستغرق وقتًا، لأن حلول المحبة في القلب من جديد مكان السخط والألم أمرٌ لا يتم على الفور. فانتظروا حتى تهدأ عواطفي  ويزول السخط من قلبي ليميل إلى الدعاء لكم. ودفعًا للقلق الذي قد يصيبهم بقوله (سوف) لم يلبث أن قال إنه هو الغفور الرحيم . أي لا تُراعُوا، فإن الله سوف يزيل عن قلوبكم ما أصابها من صدأ الأخطاء ودرن الذنوب، وسوف يشملكم برحمته الواسعة.

كانت العادة في القديم أن يكون لنائب الملك أيضًا عرش إلى جانب عرش الملك، فقد يكون هناك عرش خاص بيوسف، فأجلس عليه أبويه بإذن من الملك.

هناك عادة عجيبة في بلادنا أن الناس يخطئون ثم عند الاعتذار يلحّون على من أخطأوا في حقه بقولهم: لن أبرح مكاني حتى تعفو عني، ويعنون بالعفو أن يخصهم صاحبهم بنفس المحبة والألطاف السابقة. ولكن هذا يتنافى مع الفطرة الإنسانية، لأن العفو نوعان: الأول: أن لا يُعاقَبَ الشخصُ المجرم، وهذا ممكن تحقيقه في اللحظة ذاتها، والثاني: أن يعود عليه بنفس المحبة والألطاف السابقة، وهذا ما لا يحدث على الفور، ولا يُكرَه عليه أحد قسرًا، وإنما يستغرق بعض الوقت.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْه أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ الله آمِنِينَ (يوسف: 100)

التفسـير:

اعلم أن أم يوسف كانت قد توفيت عندئذٍ (التكوين35: 19)، ومع ذلك نجد أن كلمة (أبويه) قد تكررت هنا كثيراً. لماذا؟ ذلك ليشير إلى ما كان يبدي سيدنا يوسف من احترام وتبجيل عظيمين تجاه امرأة أبيه عليهما السلام. إن في ذلك لدرسًا عظيمًا للأولاد، هو أن زوجات آبائهم أيضًا بمثابة أمهاتهم، وأن الإسلام لا يفرّق بينهن فيما يتعلق بالاحترام وحسن المعاملة. فعليهم أن يكنّوا لهن على الدوام احتراماً وتقديراً كما يفعلون مع أمهاتهم الحقيقيات.

ويبدو من قول يوسف ادخلوا مصر أنه جاء خارج البلد مستقبلاً أبويه. وإذا كان النبي أيضًا يبدي هذه الحفاوة والتكريم لأبويه ويخرج لاستقبالهما، فمعنى ذلك أن استقبال الضيوف ليس بجائز فحـسب، بل هو أمر مسـتحب.

أنظروا كم كان يوسف رفيع القدر في الروحانية. فنحن نجد إخوته الكبار لا يستثنون ولا يقولون (إن شاء الله) عند القيام بأي مهمة من المهام، وإنما كانوا يعزون كل عمل إلى أنفسهم، وعلى النقيض نجد يوسف الذي كان بمثابة رئيس الوزراء وعنده المراكب الجاهزة يقول (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) .. أي لا شك أن الأسباب متاحة ميسرة إلا أنه من الممكن تماماً أن لا نستطيع دخول البلد إذا لم تكن هذه هي مشيئة الله تعالى.

ولكن هذا لا يعني أنهم سجدوا  للملِك أو ليوسف، كما زعم البعض، بل المراد أنهم سجدوا لله تعالى شاكرين على ما حقق ليوسف من رقي وشرف. فكان يوسف سببًا لسجودهم ولم يكن مسجودًا له.

الحق أن ترديد كلمة (إن شاء الله) بصدقٍ ويقينٍ قبل القيام بأي عمل يلعب دورًا كبيرًا في رقي الإنسان روحانيًا. ذلك أن الماضي من حياته يكون قد فاته وانفلت من يده، وأما الحال فهو قصير الأمد بحيث أنه بمثابة الحد الفاصل بين ماضيه ومستقبله، إذن فالمستقبل وحده هو الفترة الحقيقية التي يمكن أن يستغلها. فإذا قال الإنسان (إن شاء الله) بصدقٍ عندما ينوي القيام بعمل مستقبلاً فكأنه جعل الله تعالى يشاركه فيما يتوجه إليه من عمل، وبالتالي يحميه الله من تأثير الشيطان وشروره. ومن يفعل ذلك بصدق ووعي فسوف يسعى لتحقيق مطلبه بكل ورع وتقوى.

ثم إن الذي يكون من عادته قول (إن شاء الله) بصدق وتدبر فيما يريد فعله  فإنه يحمي نفسه من قصد الإثم، لأن هذه الكلمة لا تقال من أجل ارتكاب مَعصية. فكلما ينوي ارتكاب معصية سوف يشعر بالخجل والندم بسبب هذه العادة المباركة.

كما أن التعوُّد على قول (إن شاء الله) يساعد الإنسان على ذكر الله والتوكل عليه. وإن هذه هي الأمور التي تُعتبر لبَّ الروحانية وخلاصتها.

وقوله ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين دعاءٌ. ولربما كان قد علم بالوحي الأخطارَ التي كانت تنتظر آل يعقوب في مصر مستقبلاً، فابتهل إلى ربه أن يحميهم من تأثيرها المدمر.

المماثلة الثامنة عشرة:

فكما أن يوسف دعا ربه قبل أن يدخل بهم البلدة، كذلك كان من سنة النبي عند دخوله بلدًا ما أن يدعوَ بهذه الكلمات:

“اللهم ربَّ  السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خيرَ هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرِّ هذه القرية وشرّ أهلها وشر ما فيها. اللهم بارِكْ لنا فيها وارزقنا جناها (أوجياها)، وأعِذْنا من وباها، وحبِّبنا إلى أهلها، وحبِّب صالحي أهلها إلينا.”

ولكننا نجد كبار القوم عندنا في هذه الأيام إذا تحدثوا مع أحد لا يتجهون إلى المخاطب بشكل مرضٍ بل يولون عنهم وجوههم، وحينما يحدثهم أحد لا يستمعون له ولا يلقون لحديثه بالاً. هذه كلها عادات تتعارض مع الإيمان، وعلى المؤمن اجتنابها كلية، وإلا رانت على قلبه وأصابته بالكِبر والغطرسة.

ولقد جربت أنا ورفاقي وكذلك الصلحاء قبلنا أن من يدعو بهذا الدعاء قبل دخوله أي بلد يكون الله في عونه وينجيه من الآفات والمصائب.

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (يوسف: 101)

 شرح الكلمات:

رفَعَه رفعاً: ضدُّ وضعه. رفعَ زيداً إلى الحاكم رفعاً ورُفعاناً: قدّمه إليه ليحاكمه. ورفعه إلى السلطان رُفعاناً: قرّبه (الأقرب). الرفع يقال تارةً في الأجسام الموضوعة إذا أَعْلَيتَها عن مقرها، وتارةً في المنـزلَة إذا شرَّفتها. وقولُه تعالى وإلى السماء كيف رُفعتْ فإشارة إلى المعنيين: إلى إعلاء مكانه، وإلى ما خصَّ به من الفضيلة وشرف المنزلة (المفردات).

العرشُ: سرير الملك (الأقرب). العرش في الأصل شيء مسقَّف. ومنه قيل: عرشت الكَرْم وعرَّشته: إذا جعلت له كهيئةِ سقفٍ. وسُمِّي مجلسُ السلطان عرشًا اعتبارًا بعلوّه، وكنِّي به عن العز والسلطان والمملكة (المفردات).

خرَّوا: خرَّ: سقط سقوطاً يُسمَع منه خريرٌ، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك أيضًا مما يسقط من علوّ. وقوله تعالى: وخروّا له سُجَّدًا فاستعمال الخَرّ تنبيهٌ على اجتماع أمرين: السقوطُ وحصولُ الصوت منهم بالتسبيح (المفردات). خرَّ الماء يخِرُّ خريرًا: صاتَ وكذلك الريحُ والقصبُ. وخرَّ العُقابُ: صاتَ خُفوقُ جَناحيْه. وخرَّ النائم: غطَّ. وخرَّ ساجداً: انكبّ على الأرض. وخرَّ الحجر: صوَّت منحدرًا (الأقرب).

نزَغَ: نزَغَه نزْغًا: طعن فيه واغتابه وذكره بقبيح. ونزغَ بين القوم: أغرى وأفسد وحمل بعضهم على بعض، ويُقال نزغ الشيطان بينهم (الأقرب).

الشيطان: فيعالٌ من شَطَنَ. شَطَن عنه: أبعد؛ وشطَنت الدار: بعُدت (الأقرب). أو هو فَعلانٌ مِن: شاط الشيءُ: احترق. وشاط فلان: هلك. والشيطان: روحٌ شرير؛ كلُّ عاتٍ متمرِد؛ الحيةُ (الأقرب).

لطيف: لَطَفَ به وله لُطْفًا: رَفَقَ به. لطف الله للعبد وبالعبد: رفق به وأوصل إليه ما يحب برفقٍ؛ وَفَّقَه؛ عصمه، فهو لطيف. لطُف الشيء لُطفاً ولَطافةً: صغُر ودقَّ. واللطيف من الأسماء الحسنى معناه: البَرّ بعباده المحسنُ إلى خلقه بإيصال المنافع إليهم برفق ولطف؛ أو العالم بخفايا الأمور ودقائقها (الأقرب).

التفسـير:

قوله تعالى: ورفع أبويه على العرش يمكن أن يفسَّر بمفهومين:

الأول: أن يكون من قولهم: رفعه إلى السلطان أي قرّبه إليه. فالمعنى: أنه قدّم أبويه إلى الملك المصري. والتوراة تصدّق  هذا المعنى، إذ جاء فيها أنه عرضهما على الملك (التكوين47: 7).

والثاني: كانت العادة في القديم أن يكون لنائب الملك أيضًا عرش إلى جانب عرش الملك، فقد يكون هناك عرش خاص بيوسف، فأجلس عليه أبويه بإذن من الملك.

وقوله: وخرّوا له سُجّدًا . فاعلم أن كل المشتقات من (خرور) تتضمن معنى الصوت، ولذلك قال بعض المفسرين: يقال: خرّ ساجدًا عمّن يقع ساجدًا على الأرض وهو يكثر من ترديد كلمة (سبحان الله، سبحان الله). ولا  يقال ذلك إذا قام بمجرد السجود (المفردات). فالمراد من قوله تعالى (خرّوا له سُجَّدًا) أنهم اندفعوا ساجدين على الأرض قائلين (سبحان الله، سبحان الله)، أو أنهم وقعوا ساجدين على الأرض بكل حماس بحيث سُمع لسجودهم صوت.

ولكن هذا لا يعني أنهم سجدوا  للملِك أو ليوسف، كما زعم البعض، بل المراد أنهم سجدوا لله تعالى شاكرين على ما حقق ليوسف من رقي وشرف. فكان يوسف سببًا لسجودهم ولم يكن مسجودًا له.

وأما قوله تعالى وقد أحسَنَ بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو فيكشف لنا سمو أخلاق الأنبياء عليهم السلام. الحق أن أهل يوسف جاءوه فارِّين من معاناة القحط والمجاعة إلى مقام العز والراحة، ومع ذلك يقول سيدنا يوسف إنه من فضل الله ورحمته عليّ أن جاءني بكم من البدو.

على المؤمن أن يضع هذه الأُسوة نصب عينيه دائمًا، فلا يتسبب في تجريح مشاعر الآخرين، بل يجب أن يخاطبهم بكلام مهذب ينم عن تقديرٍ واحترام لهم. فهذا الخُلق لا يساعد على ازدهار المدنية فحسب، بل يُكسب صاحبه أيضًا مرضاة الله تعالى. هنالك من الناس من لا يراعون الحيطة والحذر في حديثهم مع الناس ويسمّون عملهم هذا بساطةً منهم. ولكن هذا الأسلوب لم يكن من سنة الأنبياء، الذين كانوا يراعون في حديثهم احترام الآخرين دائمًا، وهذا هو الطريق الذي يجب أن يسلكه كل مؤمن. وقد روي عن النبي أنه عندما أراد الحديث مع أحد اتجه إليه بوجهه، وإذا خاطبه أحد أصغى إلى كلامه إصغاءً تاماً (الشفاء ج1 ص49). ولكننا نجد كبار القوم عندنا في هذه الأيام إذا تحدثوا مع أحد لا يتجهون إلى المخاطب بشكل مرضٍ بل يولون عنهم وجوههم، وحينما يحدثهم أحد لا يستمعون له ولا يلقون لحديثه بالاً. هذه كلها عادات تتعارض مع الإيمان، وعلى المؤمن اجتنابها كلية، وإلا رانت على قلبه وأصابته بالكِبر والغطرسة.

اعلم أن كل رغبة شريرة لا يُعرف مصدرها يعزوها القرآن إلى الشيطان، لأنها وليدة أفكار دقيقة. وإن كلمة الشيطان – بالنظر إلى مصدرها (شطن) – تعني كائنًا يثير الوساوس في القلوب وهو بعيد، وأحيانًا تطلق على تلك الروح الشريرة التي تحفز الإنسان على الشر إزاء ترغيب الملائكة له في الخير، وتطلق أحياناً أخرى على الدوافع الخفية التي تتولد في قلب المرء نتيجة أعمال خاطئة سابقة، وهي التي تدفعه إلى ارتكاب المعصية في حين لا نرى أي سبب ظاهري لذلك.

إن ربي لطيف لما يشاء .. إذا وُصف الله تعالى بكونه (اللطيف) فمعناه العالِم بخفايا الأمور، أو المشفق على العباد، والنافع لهم بلطف ومحبة. وكأنه إذا تفقّد حالتهم فيتفقدهم عن محبة، وإذا هيأ  لهم الوسائل والمرافق فأيضًا عن محبة، وإذا أحسن إليهم فأيضًا عن حب ورفق، فكل أفعاله تتم عن محبته ولطفه بالعباد.

فكأنه سبحانه وتعالى رغم كونه غنياً عن كل شيء يخفي عنهم  غناه ليزدادوا حبّاً لله .

وأشار بقوله تعالى لطيف لما يشاء أنه يخص بلطفه ومحبته من شاء من العباد، وأن كل إنسان يحظى بفضل الله ولطفه وفق سعته ومقدرته. وجاء هنا بصفة الله (الحكيم) دفعًا للاعتراض هو: أن الرؤيا التي رآها يوسف كانت تشير إلى رقيّه، ولكن ما حدث هو أنه اضطر للمرور بشتى الخطوب والمحن لفترة طويلة؟!

إنّنا  إذا أمعنّا النظر فيما حدث تَبَيَّن أن هذه الشدائد نفسها مهدّت الطريق لرقيه، كما تسببت في توبة إخوته وطهارتهم. فلم يكن ما فعله الله بيوسف خالياً من الحكمة أبدًا. لو أن يوسف نال العز دون هذه المصائب ما تجلّت عظمة الوعد الإلهي بهذا الشكل، كما لم يتم تطهير قلوب إخوته. فكل ما حدث كان وراءه حكمة عظيمة.

رَبِّ قَـدْ آتيْتَنِي مِنَ الْمُـلْكِ وَعَلَّمْتـَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَـادِيثِ فَاطِرَ السَّـمَـاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْـتَ وَلِيِّي فِـي الدُّنْـيَا وَالآخِـرَةِ تَوَفَّـنِي مُسْـلِـمًا وَأَلْـحِقْـنِي بِالصّـَالِـحِـينَ   (يوسف: 102)

 شرح الكلمات:

فاطر: فَطَرَ الأمر: اخترعه (الأقرب).

التفـسير:

هذه الآية تكشف لنا مدى حب الله وعشقه الذي تعمر به قلوب عباده الأخيار. فما أن نالت يوسفَ الفرحةُ والبهجة بلقاء الأقارب حتى اشتعلت في قلبه قبسة المحبة الإلهية، فنسي كل شيء حوله، وتغيبت الدنيا وما فيها عن أنظاره، وهو يناجي ربه في لهفة قائلاً: ربِّ قد آتيتني من الملك… أي كل هذا يا رب عطاؤك ومن فضلك أنت.

هذا هو السجود الحقيقي الذي يحقق لصاحبه الرقي في الروحانية. إن السجود الظاهري سجود مؤقت عابر. وإنما السجود الحقيقي هو أن يركّز الإنسان أنظاره إلى الله دائماً، ويصبو إليه قلبه لاهفًا هائمًا سواء في الفرحة أو الترحة. أما بدون هذا فلن يحقق الإنسان أي رقي في الروحانية، ولن يدخل الجنة الدنيوية التي إذا لم يدخلها هنا فسوف يستحيل عليه الدخول في الجنة الأخروية.

لقد طعن القسيس وهيري في القرآن الكريم بسبب قوله تعالى هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًا ، وقال: هذا البيان يعكس لنا ما يعلّم القرآن أتباعه من كبر وغطرسة. (تفسير وهيري).

وأقول ليس الأمر كما زعم القسيس أبداً، بل  هو تعبير عن المحبة الإلهية التي يعلّمها القرآن، حيث يخبرنا أن يوسف كان يذكر ربّه عندكل صغيرة وكبيرة، ولا يقول القرآن- كما زعمت التوراة- وكأن يوسف كان قد نسيَ ربّه وأعرض عنه بعد أن أنعم عليه وحقق له بغيته.

وأما قوله ربِّ قد آتيتني من الملك فقد ظن البعض أن يوسف كان قد وصل إلى منصب ملِك (تفسير البغوي). ولكن هذا خطأ، لأن المُلك هنا يعني: السلطة والاقتدار، وكان قد نال هذا بإذن من الملك المصري.

ويعني بقوله وعلّمتني من تأويل الأحاديث أنك يا رب حققت أمام عيني ما أريتني من رؤيا وعَرّفتني على فحواها، أو معناه: لقد وهبتني علمَ تعبير الرؤى.

فلم يكن ما فعله الله بيوسف خالياً من الحكمة أبدًا. لو أن يوسف نال العز دون هذه المصائب ما تجلّت عظمة الوعد الإلهي بهذا الشكل، كما لم يتم تطهير قلوب إخوته. فكل ما حدث كان وراءه حكمة عظيمة.

الحق أن شخصيات الأنبياء -عليهم السلام- تمثل دليلاً على وجود البارئ تعالى، وهذا ما يؤكده سيدنا يوسف بقوله: فاطر السماوات والأرض.. أي أن حياتي برهان ساطع على كونك، يا ربِّ فاطرَ السماوات والأرض. إذ بشّرتني بالرقي العظيم حينما كنت صغيرًا حقيراً لا يأبه بي أحد. ثم أكرمتني بسلطة واقتدار على بلد كبير، وكأنك يا رب قد خلقتَ من أجلي سماءً وأرضًا جديدتين، فثبت أنك أنت الذي فطر السماوات و الأرض.

وقوله أنت وليي في الدنيا والآخرة دعاءٌ أي يا رب انصُرْني في الدارين. وقد فصّل دعاءه هذا بقوله (توفَّني مسلما) .. أي اجعلْ عاقبة أمري عاقبة خير، وأدخِلْني في الآخرة في عداد الصالحين الذين يصلحون للرقي الروحاني. فقوله توفَّني مسلماً تفسير للولاية الدنيوية، وقوله وألحِقْني بالصالحين تفسير للولاية الأخروية.

ولو قيل: ما الداعي لقوله وألحِقْني بالصالحين بعد قوله تَوفَّني مسلمًا ، فإن الذي يموت مسلماً لا بد أن يُبعث في الصالحين؟ فالجواب: لا شك أن كل مؤمن يسمّى مسلمًا -بحسب كل الشرائع- وإن كان إسلامه ضعيفاً في حقيقته، ومثل هذا الإنسان سوف يدخل الجنة ولو بعد عقوبة قليلة، ولكن سيدنا يوسف لا يتمنى لنفسه مثل هذا الإسلام، وإنما يريد أن يرتحل من الدنيا على إسلام يُلْحقه على الفور بالصالحين في الآخرة .. أي يكون إسلامه كاملاً بحيث  لا ينفك بعد الموت أيضا يصعد إلى الدرجات العليا. وهذا هو المقام الذي يجب على المؤمن أن يسعى لإحرازه.

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ   (يوسف: 103)

شرح الكلمات:

أجمعوا: أجمع القوم على الأمر: اتفقوا عليه. (الأقرب)

التفسـير:

لقد بيّن الله هنا أننا لا نسرد قصة يوسف كحكاية مسلية، وإنما تحتوي على أنباء غيبية.. أي أنها أخبار عمّا سيحدث بالنبي في حياته المقبلة. ولقد أثبتُّ  من قبل في تفسير العديد من الآيات كيف أنه وقعت في حياة النبي أحداثٌ مشابهة لما حدث بيوسف في حياة النبي عليهما السلام.

وأما قوله وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون فالحديث هنا ليس عن إخوة يوسف  بل عن إخوة النبي الكريم، إذ الخطاب موجه هنا إليه ، والمراد: ما كنتَ، يا محمد، لتطلع على ما ينسجه إخوتك أي أهل مكة من مكائد ومؤامرات ضدك ليحقق الله بها المماثلة بينهم وبين إخوة يوسف، فلا شك أنها أخبار جاءتك من الله الذي هو عالم الغيب، وليست وليدة أفكار الإنسان.

Share via
تابعونا على الفايس بوك