ماهية ابتغاء فضل الله في الحج
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ(199)

شرح الكلمات:

كما – تأتي أيضا بمعنى “بما” وضرب سيبويه لذلك مثالا فقال: كما إنه لا يعلم تجاوز الله عنه.. أي بما أنه لا يعلم (البحر المحيط، تحت هذه الآية).

وإن كنتم –إنْ مخففة من إنَّ. ويقول الفرّاء إنها نافية، أما الكسائي فيقول إنها بمعنى قد (المرجع السابق). وهي هنا بمعنى قد.

التفسير:

يقول الله تعالى إنه ليس من الإثم أن تبتغوا في أيام الحج فضلا آخر من ربكم. يقول البعض: المراد هنا بالفعل التجارة.

وهذا صحيح عندي، ولكن حصر الفضل في التجارة تحديد لموضوع واسع. الواقع أن من أكبر المصائب على الإسلام اليوم أن الكُفر غالبٌ ومستول على العالم في كل النواحي، والمسلمون مصابون بالجمود وانعدام الإحساس، ولا يتولد في قلوبهم شعور بأن عليهم أن يعملوا لنشر الإسلام بنفس (الجنون) الذي عمل به المسلمون في القرون الأولى، فتمكنوا في فترة قصيرة جدا من جعل الإسلام غالبا على العالم المعلوم عندئذ. أرى أنه تعالى بذكر ابتغاء فضل الله في أيام الحج وجّه النظر إلى أن عليكم كسب منافع وأفضال أخرى من هذا الاجتماع العظيم.. مما يخرج بالمسلمين من قاع المذلة، ويوصلهم إلى قمة المجد. يجب عندئذ أن تتفكروا وتتشاوروا مع الشخصيات الكبيرة ذات النفوذ من بلاد أخرى لوضع مخططات لنشر الإسلام.. بالعمل بها ينـزل فضل الله تعالى، ويصبح الإسلام غالبا على الدنيا كلها. يجب أن تبتغوا هناك فضلا منه تترتب عليه غلبة الإسلام. وأسلوب الكلام الذي اختاره في قوله (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) أسلوب ينبه إلى خير كبير. يقول تعالى: هذه فرصة ذهبية سانحة، فهل ابتغاء فضل الله فيها إثم حتى تتركوا هذا العمل، ولا تنتهزوها؟ في هذه المناسبة اجتمعتم بهذه الكثرة من كل أنحاء العالم، وهذه فرصة ثمينة، يجب ألا تدعوها تنفلت من أيديكم.

وقوله (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) هو كقوله من قبل (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (البقرة: 159).

(فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام). عرفات ميدان واسع في شمال شرق مكة على تسعة أميال تقريبا. ويجتمع هناك كل الحجيج في التاسع من ذي الحجة. والإقامة في هذا المكان وعبادة الله هناك على درجة من الأهمية بحيث أنه لو أدى الإنسان كل مناسك الحج ولم يقف بعرفات لا يصح حجُّه.

والمشعر الحرام جبل صغير في المزدلفة. يقول الله تعالى، إذا فرغتم من العبادة في موقف عرفات ورجعتم من هناك، فينبغي أن تذكروا الله كثيرا عند المشعر الحرام. ومن سنة الرسول أنه كان يدعو الله في المشعر الحرام (المشكاة، المناسك). ولكن الناس عامة لا يدْعون في هذا المكان الآن، بل في العثور عليه صعوبة كبيرة، وهذا ما حدث معي، فقد بذلنا جهدا كبيرا للعثور عليه ولكن لم ننجح، فدعونا هكذا وانصرفنا من هناك. ويبدو أن المشعر الحرام ليس جبلا كبيرا وإنما هو تل، وهناك تلال كثيرة وازدحام كبير من الناس لذلك لا يسهل العثور عليه.

هذه فرصة ذهبية سانحة، فهل ابتغاء فضل الله فيها إثم حتى تتركوا هذا العمل، ولا تنتهزوها؟ في هذه المناسبة اجتمعتم بهذه الكثرة من كل أنحاء العالم، وهذه فرصة ثمينة، يجب ألا تدعوها تنفلت من أيديكم.

وبقوله (أفضتم) أشار إلى أنكم عندما ترجعون من عرفات يجب أن تكون قلوبكم مليئة بالبركات وفياضة بأنوار من الله تعالى كما يمتلأ الإناء بالماء حتى يفيض منه، وأن تصِلوا إلى المشعر الحرام وأفئدتكم مفعمة تماما من الخمر الروحاني لساقي الكوثر، وأن تذكروا الله هناك. أي أن مياه مطر النعم الإلهية الذي نزل عليكم بعرفات يجب أن يفيض بكم إلى المشعر الحرام. ويوصلكم إلى قدم حبيبكم تبارك وتعالى.

قوله تعالى (واذكروه كما هداكم) له معنيان: الأول –اذكروه ذكرا كما هداكم، أي اذكروه بما أمركم به وبيّنه لكم، وثانيا-اذكروه لأنه هداكم. وكما هنا كقوله تعالى (كما أنزلنا على المقتسمين) (الحجر: 91).. أي لأننا أنزلنا عليهم.

(وإن كنتم من قبله لمن الضالين). إنْ هنا مخففة.. ويقول الفراء إنها بمعنى النفي، واللام بمعنى إلا.. أي لم تكونوا من قبله إلا من الضالين. وقال الكسائي. إن بمعنى قد، واللام زائدة والمعنى: قد كنتم من قبله من الضالين.

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (200)

شرح الكلمات:

أفيضوا-قال الإمام الراغب: أفيضوا من حيث أفاض الناس: ادفعوا [أي ارجعوا ]منها بكثرة تشبيها بفيض الماء (المفردات).

التفسير:

هنا سؤال: إن الإفاضة قد تمت من قبل في الآية السابقة، فبأي إفاضة يأمر الله هنا في قوله (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)؟ لقد رجع الناس من عرفات فمن أين يرجعون بعد ذلك؟

فلنتذكر أن “ثم” هنا لا تعني الترتيب. وفي قوله (فإذا أفضتم)لم يذكر الله أمره بالإفاضة، وإنما ذكر الأمر الواقع. وهنا يأمر أن ترجعوا من حيث يرجع الناس. وقد أمر بذلك لأن قريشا وأصحابهم كانوا يرجعون من المزدلفة ولا يذهبون إلى عرفات، وكانوا يحتجون بأن عرفات ليس من الحرم وإنما هو خارج حدوده. لذلك نبقى داخل الحرم عند المزدلفة نحن سكان الحرم ولن نخرج منه. أما القبائل الأخرى فكانت تذهب إلى عرفات في الحج (المشكاة، المناسك). وهنا خاطب الله قريشا وأصحابهم وأخبرهم بضرورة أن يذهبوا إلى عرفات كما يذهب الآخرون، ويرجعوا منها كما يرجعون.

وإذا كانت “ثم” للترتيب فالمعنى أن عليكم بعد الرجوع من عرفات أن ترجعوا من مزدلفة من حيث يرجع الناس، وحتى إن قريشا وبني كنانة الذين كانوا يسمون “الحُمْس” أي المتدينين الكبار أيضا كانوا يرجعون هناك (المرجع السابق).

وحكم الرجوع من مزدلفة بيانه أن على جميع الحجاج أن يخرجوا من مزدلفة بعد صلاة الفجر والدعاء، ويصلوا إلى منى قبل طلوع الشمس.. حيث يقومون برمي الجمرات، ويقدمون الهدي ويحِلّون.. أي يخرجون من حالة الإحرام.

فهذه الآية حجة على الجكرالويين[1] لأن الله تعالى لم يذكر هنا المكان الذي يرجع منه الناس. فَلِفَهْم الآية وتطبيقها لا بد من تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

(واستغفروا الله إن الله غفور رحيم).. مع أداء هذه المناسك عليكم أن تطلبوا المغفرة من الله تعالى، لأن الحج ابتلاء كبير. لقد ذكر لي كثيرون أن قلوبهم بعد أداء الحج قد قست أكثر من ذي قبل. كذلك قال لي آخرون أنهم كانوا في حماس شديد في الحج، ولكن بعد ذلك كان التأثير سلبيا. ومما لا شك فيه أن في الحج تركيزا كبيرا على الظاهر بحيث يختفي الباطن من هذه العبادات إلى حد كبير. فمثلا يقومون بتقبيل الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة، والطواف ببيت الله. ثم برمي الجمار عند ثلاثة تلال أصبحت كأبراج. كما يضطر الإنسان هناك للقيام بالعبادة لحوالي خمس ساعات، فإذا لم يكن مع أداء هذا المناسك استغفار لأصاب الصدأ القلوب. إنني لم أر في جموع الآلاف هذه شخصا واحدا يدعو، وإنما يرون أن الحج هو أن يحرك الإنسان منديله عندما يحرك المطوِّف منديله. لكن الله تعالى وفقني لدعاء كثير هناك. فبما أن هذه العبادة ليست عبادة معينة كالصلاة مثلا، لذلك لا يعرف الناس أهمية الدعاء فيها. لقد ركزت الشريعة على الظاهر وتركت أمر الباطن في يد الإنسان. ولكن ما يحدث أن الكثير لا يعرفون أن عليهم الإكثار من الدعاء والعبادة هناك. لذلك قال الله تعالى إن عليكم الإكثار من الاستغفار في أيام الحج، وأنتم في حاجة ماسة إلى ذلك.. لأن الحج يركز على الظاهر أكثر ويختفي فيه الباطن الذي هو جوهر العبادة. فإذا لم يهتم الإنسان بالباطن وقام بأعمال الظاهر فقط وظن أنه عمل بأوامر الشرع.. فلا بد أن يصاب قلبه بالصدأ.

[1] فرقة بالهند. . لا تأخذ بالحديث والسنة النبوية، وتقول إن القرآن فيه الكفاية.
Share via
تابعونا على الفايس بوك