في عالم التفسير

من تفسير القرآن المجيد الّذي نشرته الجماعة الإسلاميّة الأحمديّة بالّلغة الإنجليزيّة تحت إشراف الخليفة الثّاني للمسيح الموعود عليه السّلام، حضرة أمير المؤمنين المصلح الموعود مرزا بشير الدّين محمود أحمد رضي الله عنه. (التّقوى)

        الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا *

المفردات:

عوجا: مشتقّة من عوج يعني كان أو صار موجعاًأو منحنياً أو غير مستقيم، عوج الأمر أي صعب وأصبح مشكلاً ومعضلاً، عوج معناه اعوجاج، انحاء، عدم استقامة، تحريف، فساد، انحراف عن الصّواب، سوء طبع. يقال عوج العغود أي انحنى وانثنى اعوجّ وتشوّه.

قيّماً: مشتقّة من قام ومعناه وقف. يقال قام بالأمر أي دبّره وأداره، أشرف عليه أو رعاه، قام على المرأة أي أخذ على نفسه إعالتها وإعاشتها. قوّمه صحّحه أو جعله مستقيماً، قيّم الأمر مدبّره، مديره.الدّين القيّم الدّين الصّحيح أو الحقّ. قيّم إذاً معناه صحيح، كامل، مدير مشرف وصى قيمة أي مستقيمة تبيّن الحقّ من الباطل، ديناً قيّما أي ديناً ثابتاً مقوّماً لأمور معاشهم ومعادهم.

البأس: أي العذاب، الشّدّة في الحرب.

أبداً: الأبد أي الدّهر، الدّائم (أقرب) الأبد عبارة عن مدّة الزّمان الممتدّ الّذي لا يتجزّء.

التّفسير:

الآية 2: لقد سمّي القرآن في هذه الآية بالقيّم وحسب المعاني المختلفة الّتي أوردناها لهذا اللّفظ فإنّ القرآن المجيد يقوم بوظيفة مزدوجة. أوّلاً: القرآن وصي على الكتب السّماويّة السّابقة، وفي الوقت ذاته مصحّح ومطهّر لها من الأخطاء الّتي تسرّبت إليها. ثانياً: القرآن وصي على الأجيال القادمة من بني الإنسان لأنّه يأخذ على نفسه إرشادها وهدايتها إلى السّبل الّتي تمكّنها من معرفة وإدراك الغاية القصوى من حياتها.

الآية 3: لقد وعد المؤمنون في هذه الآية ((أجراً حسناً)) أنّ أهميّة إضافة الصّفة ((حسناً)) إلى كلمة ((أجراً)) الّذي وعد به المؤمنون في أماكن عديدة من القرآن الكريم تشير إلى الحقيقة بأنّ أجر المؤمنين هذا يأتي بأثمار طيّبة من نوع خاص. لن يكون في هذا الأجر ايّة معزّة لهم فحسب، بل يجعلهم مستحقّين المزيد من الأجر.

اللآية4: اذا اعتبرنا الآية مشيرة إلى الأجر في الجنّة فمعناه أنّ ذلك الأجر سيكون أبديّاً غير منقوص وغير مجذوذ، وأمّا إذا كان القصد الأجر في هذه الدّنيا فمعنى الآية أنّ المؤمنين سينالون الأجر ماداموا على فعل الخيرات. واستمرار الأجر لهم يتوقّف على استمرارهم في أعمال الخير والتّقوى.

الآية 5 :من المهم الإشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى أوّل مابدأ به في هذه السّورة الإنذار، ثمّ جاء بعده بالبشارة.كما ورد في الآية الثّالثة قوله تعالى(( لِّينذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ……)) ثمّ ها هو تعالى للمرّة الثّانية في هذه الآية. لقد أنذر الله الكافرين في المرّة الأولى والثّانية وبين هذين الإنذارين بشّر الله المؤمنين. قد يبدو هذا غريباً للقارئ كما وقد يبدو من أنّ الألفاظ استعملت بصورة عرضيّة.

لكن الأمر ليس كذلك ، بل إنّ في هذا التّركيب غاية مفيدة وذات أهميّة. فالإنذاران الاثنان والبشارة الواحدة تشير كلّ منها إلى ثلاثة عصور هامّة في تاريخ الإسلام.فالإنذار الأوّل الوارد في الآية الثّالثة يتعلّق بكفّار مكّة، وجميع من عارضوا الإسلام وناصبوه العداء زمن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهؤلاء لاقوا عقابهم على مافعلوا. وأمّا البشارة المذكورة في الآية نفسها فتنطبق على المسلمين الّذين تمتّعوا بفضل من الله ولوقت طويل بعد أن دمّر الله أعداءهم، وتحقّق بذلك وعده تعالى((مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا)). فقد حكم المسلمون جزءاً كبيراً من العالم مدّة قرون وكانوا أصحاب العزّة والسّلطان. أمّا الإنذار الثّاني الوارد في هذه الآية فيتعلّق بالشّعوب المسيحيّة في الأزمان اللّاحقة، وفي ذلك نبأ بأنّ المسلمين بعد أن تمتّعوا بالسّلطة والقوّة زمناً طويلاً سيزول مجدهم، وستحلّ الشّعوب المسيحيّة محلّهم، وتسود العالم أجمع، وتصبح عقبة منحوسة في سبيل نشر الإسلام. وهنا ينذر الله هذه الشّعوب المسيحيّة الغربيّة بعقاب شديد ينتظرها، كما في الآية ((وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)). إذاً فورود الإنذار مرّتين وبينهما بشارة واحدة للمسلمين يتضمّن ثلاثة أنباء هامّة، الأوّل: انهزام وتدمير أعداء الإسلام في حياة النّبي صلّى الله عليه وسلّم. الثّاني : علو الإسلام والمسلمين إلى درجة المجد والقوّة. الثّالث: بعد زوال مجد الإسلام الإشارة إلى العقاب الّذي ينتظره الشّعوب الّتي ادّعت أنّ الله اتّخذ ولداً. وها نحن نرى بوادر هذا العقاب بادية في زمننا هذا بصورة لايمكن التغاضي عنها.

الآية 6: لفظ ((كبرت كلمة)) هو في الحقيقة((كبرت هي الكلمة)) ومعناه أنّ ذكر هذا اللفظ مؤسف ومؤلم، وأنّه مؤلم، إلى درجة أنّ الرّجل ليعضّ على شفتيه عند سماع هذا اللفظ، وبأنّه من غير العقل والمنطق التّلفّظ به. إنّ هذه الآية تشتمل على اتّهام شديد وتأنيب للعقيدة القائلة أنّ المسيح ابن مريم ابن الله. ليس فقط أنّ هذه العقيدة هي من قبيل الكفر بل إنّها تتعارض مع الفكر البشري. إنّ القول بأنّ رجلاً ضعيفاً لاقوّة له ولا حول لم يقدر على انقاذ نفسه من الصّليب كان هو الله او ابن الله كتحقير واهانة للعقل الانساني. لفق رؤساء الكنيسة المسيحيّة الضّالون التّائهون عقيدة هي في غاية الكفر والفظاعة، بدون أن تستند إلى أقلّ وأيسر قدر من العقل والفكر. لقد كان هؤلاء الرّؤساء على علم تامّ بأنّ أصحاب المسيح عليه السّلام كانوا حقّاً موحّدين بكلّ معنى الكلمة، لكنّهم مع ذلك انحرفوا عن عقيدتهم الأساسيّة. ثمّ إن المسيحيّين اللاحقين رافقوا ظهور تعاليم الإسلام السّامية عن التّوحيد، لكنّهم لم يستفيدوا منها، ولا حتّى عن عقائد أسلافهم حول التّوحيد، وإنّهم بلا أدنى تعقّل نسبوا الألوهيّة إلى إنسان ضعيف.

ثمّ إنّ اللفظ ((إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا )) يشير إلى أنّ المسيح ابن مريم لم يعلم أصحابه عقيدة باطلة كهذه أبداً، بل إنّ الّذين اخترعوها هم المسيحيون اللّاحقون، وعليهم تقع المسؤوليّة والتّبعة.حتّى أنّ الأناجيل نفسها لا تؤيّد في الواقع هذه العقيدة المقيتة. لقد استعمل الإنجيل لفظ ((ابن الله)) ككنية للمسيح كما استعمل بالنّسبة لأناس آخرين كثيرين (راجع خروج 4:22 تثنية 2:6، يوحنّا 35:10) .

باخع: اسم الفاعل من بخع. يقولون بخع الشّاة أي ذبحها بتشدّد حتّى بلغ السّكين منتهى الرّقب، ويستعمل الفعل بخع للدّلالة على فعل شيء بفاعلية وشدّة متناهية وإلى أقصى الحدود. بخع له نصحه بمنتهى الاخلاص. بخع نفسه أي قتلها من وجد أو غليظ، قتلها غمّاً والاسى.((لعلّك باخع نفسك)) يعني لربّما تهلك نفسك بحزن يتجاوز الحدّ وأنت حريص على إيمانهم وإسلامهم. أسف عليه أي حزن أشدّ الحزن وتلهّف (اقرب).

فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (7)إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (8) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا

المفردات :

باخع: اسم فاعل من بخع. يقولون بخع الشّاة أي ذبحها بتشدّد حتّى بلغ السّكين منتهى الرّقب، ويستعمل الفعل بخع للدّلالة على فعل شىء بفاعلية وشدّة متناهية وإلى أقصى الحدود. بخع له نصحه بمنتهى الاخلاص. بخع نفسه أي قتلها من وجد أوغيظ، قتلها غمّاً وأسى.((لعلّك باخع نفسك)) يعني لربّما تهلك نفسك بحزن يتجاوز الحدّ وأنت حريص على إيمانهم وإسلامهم.

أسف عليه أي حزن أشدّ الحزن وتلهّف (أقرب) صعيداً مشتقّة من صعد في السّلّم، صارت الحديقة صعيداً أي أصبحت قفراً لانبات فيها ولا شجر. صعيد تعني أرضاً مرتفعة لاشجر فيها البتّة، سطح الأرض، مكان واسع رحب، طريق أو قبر. جزراً مشتقّة من جرز يقولون جرزه أي قطعه وأناده، جرزه الزّمان أي دمّره واستأصل جذوره. تقول العرب جرز ماعلى المائدة أي أكل كلّ ماكان عليها ولم يبق شيئاً أو أكل بسرعة. أرض جزر أي أرض لانبت فيها أو أرض قطع عنها الماء فجفّت وخلا منها العشب أو الأرض لاينبت فيها العشب (لين واقرب الموارد).

التّفسير:

يظهر من سياق الكلام أنّ الأقوام المشار إليها في هذه الآية هي شعوب الغرب المسيحيّة. لقد أنعم الله عليهم بكثرة المال وبالرّخاء المادّي، وأعطاهم القوّة والسّلطان، لكنّهم وقعوا في خطأ مؤسف باتّخاذهم إنساناً ضعيفاً ابناً للّه تعالى. وإنّ قلق الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم واهتمامه لخير هذه الشّعوب روحيّاً ، ثمّ حزنه العميق على معارضتهم للحقّ كاد يؤدي بحياته. فقد قوبل هذا الجميل بالنّكران، ولم يلق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من هؤلاء النّاس الّذين حزن من أجلهم سوى السّباب والاهانة والسّخرية، وأثيب على حبّه الخالص لهم وترحّمه لهم أسوء الجزاء. ويشير قوله تعالى ((إن لم يؤمنوا بهذا الحديث)) إلى سبب حزن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنّ القرآن مع اشتماله على الحلول لجميع مشاكل الّتي ستواجهها الشّعوب المسيحيّة في أطوارها إلّا أنّ هذه الشّعوب رغم تقدّمها في مجال العلوم الماديّة فستظلّ متخلّفة في العلوم الرّوحانيّة بحيث ستجلب لنفسها الموت والهلاك برفضها قبول الهداية الصّحيحة- القرآن.

الآية8:  الكلمات ((ان جعلنا ماعلى الأرض زينة لها …)).تشير إلى درس روحي عظيم وهو ان ليس هناك شيء واحد لاحاجة له او لافائدة ولا خير فيه. بل كلّ ماخلق الله من شأنه أن يزيد في حسن الحياة البشرية وجمالها ومعناها. ولقد طلب إلى المسلمين أن يبقوا هذه الحقيقة العظيمة المعبّر عنها في هذه الألفاظ البسيطة نصب أعينهم، وبأن يكرّسوا من أوقاتهم وطاقاتهم للتّعمّق والتّفحّص في أسرار هذه الطّبية وكشف خواص عناصرها الغير محدودة. لكنّهم تجاهلوا هذا الدّرس العظيم الأهميّة، بينما تنبّهت له شعوب الغرب المسيحيّة فأصبحوا نتيجة ذلك أرقى وأقوى شعوب الأرض.

ولكن ممّا يؤسف له أنّ هذه الشّعوب الغربيّة بينما استفادت الكثير من هذا الدّرس المتضمّن في الآية ((ان جعلنا ماعلى الأرض زينة لها…)) تجاهلت الشّطر الثّاني من الدّرس الّذي تعبّر عنه بقيّة الآية ((لنبلوهم أيّهم أحسن عملا)). لاشكّ أنّ شعوب الغرب خطت نحو العلم والمعرفة خطوات واسعة وأحرزت تقدّماً عظيماً في مختلف العلوم. أمّا الغرض المنشود من هذا التّقدّم والتّوسّع في العلوم فهو إصلاح سلوك الإنسان  كي تصبح الحياة البشريّة أكثر سلاماً وأمناً. لكن هذه الشّعوب الغربيّة بدل ان تستخدم العلم والإمكانيّات الهائلة لديها لصالح الغنسانيّة انتهى بهم الأمر إلى جعل حياة الإنسان  تعسة مريرة وفشلوا في تقديم المثال الصّالح لسلوك الإنسان في الحياة. وبسوء استعمالهم لأبحاثهم العلميّة وضعوا الأسس للفساد والظّلم والطّغيان. إلى هذه الحقيقة تشير هذه الآية على مايبدو.

الآية 9: تعني هذه الآية أنّ كلّ ماعلى هذه الأرض زائل لا محالة، والحصول على متاع الدّنيا ليس هو الغرض والغاية من الحياة البشريّة. بل بعكس ذلك خلق الله كلّ ما في هذا الكون وسخّره لنا كي نصل إلى غاية أسمى وأعلى باستخدامه لصالح البشريّة وسعادتها. لكن الشّعوب المسيحيّة الغربيّة بعد حصولها على المال والقوّة والسّلطان وبعد أن حقّقت اكتشافات واختراعات عظيمة فإنّها لم تحوّل منجزاتها العلميّة لخدمة الإنسان، بل استخدمتها على العموم لتزيد من شقاء البشريّة. وحيث أنّ اختراعاتهم واكتشافاتهم هذه لم تحقّق حياة السّعادة والاطمئنان لبني آدم لذا فإنّ كلّ مافعلته وأنجزته هذه الشّعوب سيكون  مصيره الزّوال والدّمار. وقوله تعالى: ((وإنّا لجاعلون ماعليها صعيداً جرزا)) لا يعني أنّ العالم بأسره سيدمّر، بل الاشارة هنا إلى أعمال وإنجازات تلك الشّعوب المسيحيّة الغرية الّذين تشير إليهم هذه الآيات.

وحيث أنّ اصطلاحاً مشابهاً قد جاء في الآية 41 من هذه السّورة أي قوله تعالى((صعيداً زلقا)) وذلك في سياق الحديث عن ((الجنّتين)) الوارد ذكرهما في السّورة، وهذا الاصطلاح ينطبق تماماً وبوضوح على أعمال الشّعوب الغربيّة. لذا يجب أن نعتبر الاصطلاح((صعيدا جرزا)) متعلّقاً بهم أيضاً. ثمّ إنّ لفظ ((صعيداً جرزا)) متعلّقاً بهم أيضاً .ثمّ إنّ لفظ ((صعيداً جرزا)) متعلّقا بهم أيضاً. ثمّ إنّ لفظ ((صعيداً جرزا)) تعني كما جاء في المفردات أرضاً لا نبت فيها، أو أرضاً انقطع عنها العشب، أو أكل كلّه، كذلك يعني لفظ عشب في الاصطلاح القرآني أعمال الإنسان، وبحسب هذا المعنى للكلمة يصبح مفهوم الآية أنّ كلّ التّقدّم الّذي سيحرزه الغربيّون وكلّ مايصنعون ويعمرون من قصور شاهقة ضخمة وأراضيهم الجميلة المنظر وعظمتهم ومجدهم وجلالهم كلّه سينهار ويدمّر. وهذا يعني أنّ عقاباً شديداً من الله تعالى ينتظرهم.

((أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرّقيم كانوا من آياتنا عجبا)))

المفردات :

الكهف: اكتهف الكهف يعني دخل الكهف، كهف يعني مغارة حفرت في جبل على شكل مسكن، مغارة واسعة، ملجأ.

الرّقيم مشتقّة من رقم وتعني كتب أو ختم أو وقع أو حفر، رقّم الكتاب أي علّم خطّه بالنّقط والاشارات، وجعل كلماته واضحة جليّة، رقمه أي نقشه، لوّن الثّوب أو القماش خططه وعلّمه بخطوط، رقمت الشّىء أي علّمته كي أميّزه عن غيره كما في الكتابة وغير ذلك.وتعني أيضاً كتاباً أو كتابة، وتعني الرّقيم كذلك ماكتب بطريقة الحفر(لين واقرب الموارد). أصحاب الرّقيم هم الّذين يصنعون النّقوش والرّسوم، كتب المفسّرون أنّ معناه الّذين ينقشون على الحديد أو على الحجر أو على القراطيس يحفرون فيها، الّذين يملكون أشياء مرقومة أو مكتوبة وتعني الكتب الاسفار أو مايكتب فيها أو أصحابها.

التّفسير:

تفيد الآية أنّ موضوع أصحاب الكهف ليس خياليّاً أو ماهو خارق للعادة، بل آية من آيات الله تعالى. وليس في موضوع أهل الكهف مايمكن اعتباره مخالفاً لقوانين الطّبيعة المألوفة، ومن المؤسف أن نرى الكثيرين من مفسّري القرآن قد نسجوا حول هذا الموضوع أساطير خرافيّة بينما لانرى فيه مايبعث عللى الاستغراب والحيرة.

من كان أصحاب الكهف هؤلاء؟ وأين عاشوا؟ وفي أيّ أحوال وظروف؟ مثل هذه الأسئلة أدهشت عقول المفسّرين على مدى مئات السّنين إلّا أنّه من الممكن أن نجد في بعض القصص الّتي يرويها بعض المؤرّخين المسلمين وعلى رأسهم ابن اسحاق مايمكن أن يهدينا إلى حلّ لهذه الأسئلة المحيّرة. نخلص هذه القصص بما يلي:

الأولى: يروي ابن اسحق أنّ الوثنيّة عندما أخذت تتسرّب إلى المسيحيّة أوّل الأمر استاء الموحّدون الحقيقيّون لحالة أبناء دينهم فاعتزلوهم. وكان ذلك زمن الامبراطور الرّوماني ديسيوس الّذي اشتهر باضطهاده للمسيحيّة. فاعتقل بعض الشّبّان المسيحين الّذين رفضوا عبادة الأوثان. وعندما مثلوا أمامه طلب منهم أن يعيدوا النّظر في معتقداتهم ويغيّروا موقفهم، وذهب هو في رحلة إلى مكان بعيد. فبدلاً من أن يخضع هؤلاء الشّباب لأمر الامبراطور أن يقتلهم، فتوسّلوا إلى الله ودعوه بحرارة كي ينجيهم من هذه المحنة. وماكادوا يتمّوا صلواتهم حتّى غطّوا في سبات عميق، وهم في كهفهم وأمتعتهم من حولهم، وعلى باب الكهف يحرسهم كلبهم، فانطلق رجال الامبراطور يبحث عن هؤلاء الشّبّان وعند وصولهم باب الكهف لم يجرأ أحد على دخوله، فاقترحوا أن يغلق باب الكهف بجدار وقبل الامبراطور ذلك. (المعاني مجلد 5 ص 16)

الثانية: هناك قصة اخرى حول هذا الموضوع مفادها أن احد تلاميذ حواري عيسى عليه السلام اتى إلى مدينة اصحاب الكهف، واراد ان يدخلها، فقيل على بابها صنم لا يدخل احد الا سجد له، فكره ان يدخل. فأتى حماما قريبا من المدينة، وآجر نفسه من صاحبه، فكان يعمل فيه. ورأى صاحب الحمام البركة والرزق. وجعل يسترسل إليه، وعلقه فتية من أهل المدينة. فجعل الحواري يخبرهم خبر السماء وخبر الآخرة حتى آمنوا وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة. وكان يشترط على صاحب الحمام ان الليل لي ولا تحول بيني وبين الصلاة اذا حضرت. حتى جاء ابن الملك بامرأة يدخل بها الحمام، فعيره التلميذ. فقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه الامرأة التي صفتها كذا وكذا. فاستحيا وذهب. فرجع مرة اخرى. فسبه، وانتهره. فلم يلتفت. حتى دخل ودخلت معه، فباتا الحمام فماتا فيه. فأتی الملك، فقيل له: قتل ابنك صاحب الحمام. فالتمس فلم يقدر عليه. وهرب من كان يصحبه. والتمس الفتية، فخرجوا من المدينة. فمروا بصاحب لهم في زرع له وهو على مثل امرهم، فذكروا له انهم التمسوا. فانطلق معهم حتى آواهم الليل إلى كهف. فدخلوا فيه، فقالوا: نبیت ههنا الليلة، ثم نصبح ان شاء الله تعالى فنرى رأينا. فضرب على آذانهم. فخرج الملك بأصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف. فكلما اراد الرجل منهم أن يدخله ارعب، فلم يطق أن يدخل. فقال للملك قائل: ألست لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال بلى. قال فابن عليهم باب الكهف، ودعهم يموتوا عطشا وجوعا، ففعل. ثم كان ما كان. (روح المعاني مجلد 5 ص ۱۹) الثالثة: يروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه انه قال: كنت في غزوة مع معاوية إلى بلاد الروم. وقد شاهدنا الكهف الذي عاش فيه اصحاب الكهف. فأرسل معاوية بعض رجاله ليدخلوا الكهف، ولكن سرعان ما هبت عاصفة، فحالت دون دخولهم الغار. وحسب رواية أخرى يقال إن ابن عباس قد شاهد بعينه رفات اصحاب الكهف، وكان قد مضى عليه ۳۰۰ سنة. (الدر المنثور مجلد 4 ص ۲۲ و214)

الرابعة: حسب قول ابن حيان هناك كهف قرب لوشا في اسبانيا يعتقد انه يحوي اجساد اصحاب الكهف وكذلك كلبهم. ويقول ابن عطية ايضا انه رأى الغار الذي ظلت فيه رفات اصحاب الكهف لمدة 400 او 500 سنة. ويكتب أنه يوجد قرب غرناطة بقايا مدينة تدعى مدينة دقيوس، وفيها قبور مسدودة جيداً ومبنية من الاحجار. (البحر المحيط مجلد 6 ص ۱۰۲)

الخامسة : لقد اورد ابن كثير وعبد الرزاق وابن حاتم في الدر المنثور مجلد 4 ص 334 روايات مشابهة. وقد ذهب بعض المفسرين بعيداً بحيث ذكروا اسماء اصحاب الكهف وعددهم : ميكسل مینا وتمليخا ومرطونس وبیرونس وكشطونس وويلنموس وبطونس وقابوس، مستندين على ابن علاس (ابن کثیر مجلد 6 ص ۱۳۱). السادسة: أن قصة «النائمين السبعة» الشهيرة كما يرويها لنا کَيبون في كتابه «انهيار وسقوط الامبراطورية الرومانية» تساعدنا على حل هذا الغموض الذي اكتنف قصة اهل الكهف. يقول كَيبون :

«عندما أخذ الامبراطور دقایانوس يضطهد المسيحيين اختفى سبعة من الفتية (وكانوا من عظماء مدينتهم واسم المدينة افسوس وفي بعض الروايات طرسوس) في كهف واسع في سفح جبل قريب. وقد حكم الامبراطور بالقضاء عليهم، فأمر بإغلاق باب الكهف بكومة هائلة من الاحجار. فغط هؤلاء السبعة في سبات عميق امتد بصورة عجيبة معجزة الى ۱۸۰ سنة دون أن يضر ذلك بحياتهم. وبعد انقضاء  هذه المدة كان هذا الجبل قد اصبح ملكا لادولیوس، فأرسل هذا عبيده يوماً لجمع الحجارة من اجل اقامة بناء فخم له. فأزالوا تلك الكومة من باب الكهف، فدخلت اشعة الشمس إلى داخل الكهف، فأفاق السبعة النائمون. وكان قد أضر بهم الجوع بعد هذا السبات الذي دام حسب ظنهم بعض ساعات فقط. فقرروا أن يرسلوا أحدهم ويدعى جيمليكس الى المدينة متخفيا ليشتري لهم خبزاً. لكن هذا الشاب لم يعد يميز مظاهر بلده التي ألفها من قبل وزاد من دهشته آن رأى على باب المدينة صليباً ضخماً شاهقاً. كذلك لباسه الغريب ولغته المبتذلة حيرت بائع الخبز سيما لما دفع إليه عملة مع عهد دقیانوس. فأدى كل ذلك إلى إلقاء القبض على جيمليكس وتقديمه إلى القضاء بتهمة حيازته على كنز. وقد اظهرت التحقيقات أنه قد مضى حوالي قرنين منذ أن فر جیملیکس ورفاقه من ظلم الطاغية الوثنی دقیانوس. بعدها أسرع كل من مطران مدينة افسوس وكهنتها وقضاتها والشعب ويقال حتى الامبراطور ثيودوسس نفسه إلى الكهف حيث أقام السبعة النائمون وهنا بارك هؤلاء السبعة. وصلوا وسردوا قصتهم، وانتقلوا في الحال إلى خالقهم بهدوء» (المجلد ۱ ص ۱۹۷)

كذلك يمكن أن تعزى قصة اصحاب الكهف الى يوسف من اريماثايا ورفاقه. فحسب رواية وليام من ماليزبوري أرسل يوسف إلى بريطانيا بواسطة مار فيليب، فأقام في الجزيرة الصغيرة التي أعطيت له في سومر ستشير اول كنيسة في بريطانيا من الأغصان المنحنية والتي اصبحت فيما بعد كنيسة جلاستونبري. ويقال حسب رواية أخرى أن يوسف هذا وصل إلى بريطانيا سنة 63م وحسب الاساطير التي نشأت بين الرهبان كانت أول كنيسة اقيمت في جلاستونبري فعلاً بناء صغيراً من الأغصان اقامه يوسف الذي جاء من اريماثايا بصفته قائد الاثني عشر المبعوثين من قبل فيليب الى بريطانيا من جاول.

(الموسوعة البريطانية الاعداد العاشرة والثالثة عشر تحت عنوان يوسف من اريماثايا وجلاستونبری).

كل هذه الروايات على ما يبدو لا تتجاوز ان تكون اساطير جميلة واشياء دست فيما بعد، ويمكن أن نعتبر ضرباً من خيال الشعر أكثر منه روايات حقيقية. الا انها تبدو غير خالية كلية من شيء من الحقيقة او بعض الصدق، ولا بد من اتخاذ اهمية لها. فقد يكون يوسف من اريماثايا ذهب الى بريطانيا او ربما لم يذهب. والكهف الذي نحن بصدده قد يكون في تلك البلاد او لا يكون، الا أن قصة اصحاب الكهف تمثل لنا فعلاً موضوع اضطهاد المسيحية في زمنها الأول، ثم انتشارها وعلو امرها في ازمنة لاحقة.

اما تحقيقاتنا الأخيرة فتدل وتعين القبور الواقعة في سراديب تحت الأرض في روما، والمسماة بكتاکومز، كما أن «الكهف» الذي نحن بصدده ليس جلاستونبري في بريطانيا، وان دراستنا للمسيحية في عصورها الأولى لتؤيد هذه التحقيقات. كما أن الروايات التي نقلها إلينا ابن اسحاق وغيره من المؤرخين عن اصحاب الكهف تبدو مؤيدة ومثبتة لهذه النظرية الجديدة اذ نستخلص من جميع هذه الروايات الحقائق التالية:

اولاً: أن المسيحيين الأوائل كانوا موحدين بالله، وبسبب اعتقادهم هذا لاقوا اضطهاداً كبيراً.

ثانياً: أن بعض هؤلاء المسيحيين التجأوا إلى كهف خوف الاضطهاد والقتل زمن ملك يدعى دقیانوس او عقيوس الرومي او كما في اللاتينية دسيوس. وفي رواية أنه جاء حواري عيسى عليه السلام إلى روما، وقبل بعض شبان المدينة المسيحية، فأراد الملك ان يقتلهم، فالتجأوا إلى كهف. ثالثا: إن مضطهدي هؤلاء المسيحيين الأوائل كانوا من عبدة الأوثان، وسعوا لإرغام المسيحيين على عبادة اوثانهم وتقديم القرابين لها.

رابعاً: أن هؤلاء الشبان المسيحيين خرجوا من الكهف زمن الملك تندوسيس او كما يدعي کيبون ثيودوسيس.

خامساً: حسب رواية ابن عباس أنه شاهد رفات اصحاب الكهف وكان قد مضى عليه ۳۰۰ سنة.

هذا، ومن الحقائق التاريخية المسلم بها أن المسيحيين الأوائل لاقوا اضطهاداً شديداً على ايدي ملوك الرومان الوثنيين بسبب اعتقادهم بوحدانية الله تعالى. وقد بدأ هذا الاضطهاد زمن الامبراطور الشهير نيرون (سنة 54 الى 68 بعد المسيح) الذي يقال انه احرق روما، وكان يغني ويطرب وهو يرى هذه المدينة العظيمة التي كانت مركز الحضارة والعالم تلتهمها ألسنة النيران. وقد استمر هذا الاضطهاد ولو على فترات متقطعة حتى حكم الامبراطور قسطنطين الذي قبل النصرانية، وجعلها دين الدولة. وحسب رواية تاکيتوس اوقع نیرون بالمسيحيين اشد العذاب بغية إلقاء اللائمة لإحراق روما عليهم. وقد تسبب هذا الطاغية في شنقهم وحرقهم احياء ورميهم للكلاب الجائعة حتى أن مار بطرس على ما يقال لاقي حتفه هو ايضاً على يد هذا الامبراطور اللئيم الظالم. ويروي ترتوليان أن القديس بطرس صلب بواسطة نيرون. ويضيف اوریجن ان القديس بطرس صلب ورأسه إلى أسفل حسب طلبه. وفي أوائل القرن الثالث كان يعرض في الفاتيكان ضريحا بولس والقديس بطرس، ثم نقلت آثارهما سنة 258م إلى الكتاکومز سراديب القبور التي جاء ذكرها) ومن بين القبور التي اكتشفت حديثاً في الكتاکومز قبور بعض تلاميذ المسيح ممن جاء ذكرهم في الأناجيل والذين كما يقال مكث بطرس بينهم. (الموسوعة البريطانية، الموسوعة لكل انسان، الامبراطورية الرومانية لكيبون تحت موضوع بطرس، الكتاکومز ونيرون، قصة روما لنو ودينك).

استمر الاضطهاد والظلم زمن حكم دومتيان ، لكن هذا الاضطهاد لم يجر فقط على ايدي الطاغين نيرون ودوماتيان، بل كان من كبار السادات والأمراء الأبرار امثال تراجان وماركوس أوريليوس ، كذلك من انزلوا بهؤلاء الاناس الخالين من وسائل الدفاع عذاب السجن والنفي والقتل. لقد توقف الظلم والاضطهاد مع ذلك نسبياً فترة قصيرة حوالي 40 سنة، لكنه تجدد بشراسة وعنف زمن الامبراطور دقیانوس (249 – 251م) وقد بلغ من الشدة هذه المرة إلى درجة أن ما سبقه من اضطهاد يمكن اعتباره بالنسبة لهذه الفترة عهد أمن وحرية. لقد اراد دقیانوس ان يعيد لروما دينها ومؤسساتها القديمة، وبينما تحدوه هذه الغاية اخذ يقتلع جذور المسيحية بطريقة محكمة. فالمراسيم الصادرة سنة ۳۰۳ م بواسطة ديوكاليتيان تعدت بصراحتها كل اجراء اتخذ قبله، اذ بموجب هذه المراسيم هدمت جميع الكنائس في كل مقاطعات الامبراطورية، وحرقت كتبهم المقدسة علناً، وصودرت جميع ممتلكات الكنيسة وحرم المسيحيون من حقهم في حماية الدولة لهم (الامبراطورية الرومانية لكيبون)

فلأجل انقاذ أنفسهم من هذا الاضطهاد البشع واللاإنساني اضطر هؤلاء المسيحيون الضعفاء أن يخفوا أنفسهم، ولدي دراسة سراديب المقابر (الكتاکومن) في روما يظهر أن هذه السراديب كانت أقرب الى ملاجئ يحتمي بها، وهذه قبور الكتاكومز التي أشير إليها في القرآن المجيد باسم «الكهف» مناسبة لحاجة المسيحيين في اخفاء أنفسهم فترات طويلة. لقد بنوا فيها مدارس وكنائس لهم ودفنوا فيها صلحاءهم وقديسيهم. ومع أن هناك بعض المبالغة في الحديث عن استعمال الكتاکومز زمن الاضطهاد الا انه من الثابت انها كانت ملاذاً للمؤمنين من المسيحيين وخاصة الكهنة الذين كانوا الهدف الاول لغضب الوثنية. وكلما هبت عليهم عاصفة الاضطهاد كانوا يخفون أنفسهم فيها. كان هذا ولا شك من اهم الاغراض التي من اجلها استعملت هذه الكتاکومز بما اشتملت عليه من ممرات ملتوية ومعقدة بحيث يضيع فيها كل من يجهل الطريق بما فيها من دهاليز ومخابئ عديدة جهزت على مستويات مختلفة يمر بها الإنسان دون أن يدركها في الظلمة. ولهذه القبور أكثر من باب واحد وكثيراً ما كانت تتصل بالسراديب المحفورة حتى اذا ضبطت احدى هذه المداخل امكن الخروج من باب آخر والى اتجاه اخر. وهذه الكتاکومز اقيمت على طبقات مختلفة وتصل الواحدة بالأخرى قاعات مستطيلة ضيقة بينها غرف صغيرة حفرت على ارتفاعات متتالية. وهذه القاعات الضيقة والمظلمة تمتد إلى مسافة مئات الأميال. ولقد قدر بادري ماشي طول هذه القاعات بـ 800- 900 میل وعدد القبور من ستة ملايين إلى سبعة ملايين. اما تقدير مارتجني فهو أن طول هذه القاعات يبلغ 587 میلاً. وقد قدر نورثكوتس بأن طولها لا يقل عن 350 میل. (الموسوعة البريطانية الطبعة التاسعة تحت لفظ كتاکومز).

ويظهر من الكتابات المحفورة على احجار القبور في الكتاكومز أن المسيحيين الأوائل كانوا موحدون بالمعنى الصحيح اذ لا توجد ولا كلمة واحدة بين هذه الكتابات تدل على انهم كانوا يعتقدون بالمسيح إلهاً او ابناً لله. ولم يأت ذكره عليه السلام الا كراع او نبي من الله كما كان فعلاً. كذلك أمه مريم لم تذكر بأكثر من امرأة صالحة. أما قصة قوم النبي يونس عليه السلام وطوفان نوح عليه السلام فمذكورة بتكرار وبشكل بارز بين هذه الكتابات. كل هذا يظهر أن المسيحيين الأوائل كانوا ينظرون إلى «العهد القديم» بإجلال واعتبار أکثر من المسيحيين في عصرنا هذا. كذلك يظهر أن المسيحيين الذين التجأوا إلى هذه السراديب كان معهم كلاب تحرس مداخل هذه السراديب كي يعلموا من نباحها ان كان قدم نحوهم اناس غرباء.

وخلاصة القول فإن قصة اصحاب الكهف تقدم لنا وصفاً لتاريخ المسيحيين الأوائل، وكيف قاموا بحملة عنيفة ضد الوثنية واعتقادات إلحادية أخرى، ولاقوا اضطهاداً شديداً لاعتقادهم بوحدانية الله. كذلك تبين لنا قصة اصحاب الكهف كيف انتهى الأمر مع من خلفهم من المسيحيين الذين تنكروا لمعظم تعاليم دينهم الأساسية. ومع أن مكان وموضع «الكهف» هو ذو اهمية ثانوية الا انه يتبين من الحقائق التي اوردناها اوصاف الكهف كما شرحت في الآية 18 تنطبق أکثر ما تنطبق على السراديب او الكتاکومز في روما.

وهناك روايات متشعبة وغريبة جداً عن الرقيم ذكرها المفسرون، فقال بعضهم انها كانت لوحات من الرصاص او النحاس او الحجر حفرت عليها اسماء اصحاب الكهف وآبائهم واجدادهم … الخ، وقال بعضهم أن «الرقيم» هو اسم البلد او القرية التي عاش فيها اصحاب الكهف، او اسم الجبل او الوادي الذي كان يقع فيه ذلك الكهف. وهناك آخرون قالوا هو اسم كلبهم، أو العملة التي تداولوها بينهم. لكن صاحب فتح البيان» يقول: «لا اري اي تعلق لهذا التدقيق والتحقيق لتفسير الكتاب العزيز، وما الذي حملهم على هذا الفضول الذي لا مستند له في السمع ولا في العقل» (فتح البيان المجلد 5).

واذا وضعنا جانباً حيرة عقول المفسرين فإن هاتين الكلمتين «الكهف» و «الرقيم» تمثلان ناحيتين هامتين من نواحي المعتقد المسيحي وهما أن المسيحية بدأت كدين انعزال وابتعاد عن الدنيا وانتهت كدين انكب كلية على الدنيا اي دين مصالح وتجارة في عالم يسوده الخط والكتابة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك