في ظلال دلالات الباقيات الصالحات
  • ما المغزى القرآني الحكيم من إيراد قصة الرجلين، صاحب الجنتين ومحاوره؟
  • أي مثل ضربه الله تعالى للحياة الدنيا؟

__

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (الكهف 43)

شرح الكلمات:

أُحيطَ بثمره: أُحيطَ به: دنا هلاكُه. والسنةُ المجدبةُ تحيط بالأموال أي تُهلِكها (التاج). فالمراد من قوله تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي دُمِّر ثمرُه.

فأصبح يقلِّب كَفَّيه: أي يتندم (الأقرب).

خاويةٌ: اسم فاعل للمؤنث مِن خَوَتِ الدارُ تخوِي: أقوَتْ وسقَطتْ وتهدَّمتْ. وخوِيت الدارُ: خلَتْ مِن أهلها (الأقرب).

عروش: جمعُ عرشٍ، والعرشُ من البيت: سقفُه (الأقرب). فقوله تعالى وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يعني أنها متهدمة على سقوفها.

التفسير:

قولـه تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ يعني أن جهودهم لن تأتي بالنتائج المنشودة كسابق الأيام، فسيقولون أسفًا وحسرةً: لم تعد الأسباب التي جمعناها ببذل المال الكثير ذاتَ جدوى. ذلك أن الشعوب التي تنفق الأموال من أجل الشوكة الدنيوية تستولي الحسرة الشديدة على قلوبهم عندما يحيط بهم الدمار، لأن المباني التي يزهون بها لا يقدرون حينئذ حتى على إصلاحها. ولكن الأمم التي تنفق أموالها للنهوض بأفرادها في المجالات العلمية والأخلاقية لا تتحسر على ما أنفقت أبدًا.

علمًا أن في قولـه تعالى وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا إشارةً إلى هذه الشعوب التي ستصاب بعقدة نفسية لبناء المباني الشامخة؛ ذلك أن تعبيرَ «وهي خاوية على عروشها» لا يستخدم عن البساتين. إذًا فإنهم سيقولون متأسفين: يا ليتنا لم نقع في الشرك والوثنية، وليتنا نجونا من العذاب بقبول نصح الناصح.

كما أن قولـه تعالى وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا تومئ أيضًا إلى أنهم سيتعرّضون لعذاب يؤدي إلى دمار المدن وهدم المباني.

إن الله تعالى ينبهنا أنه بالرغم من أن المال والبنين زينةُ الحياة الدنيا، إلا أن الإنسان لو استخدمها بطريقة سليمة.. أي أنفق مالَه في سبيل إعلاء كلمة الدين وسَخَّر أولاده في خدمة الدين.. لكتب الله لأمواله وأولاده أيضًا الدوام. لا شك أن المال ينفد بالإنفاق، ولكن أثره الطيب يبقى؛ وبالمثل يفنى الأولاد، ولكن ذِكرهم الحسن لا يفنى؛ وبالتالي يخلد الصيت الحسن لآبائهم.

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (الكهف 44)

شرح الكلمات:

فئةٌ: الفئة: الجماعةُ؛ الطائفةُ (الأقرب).

منتصِرًا: اسمُ فاعل مِن انتصَر منه: انتقمَ منه. وانتصر عليه: استظهرَه (الأقرب).

التفسير:

أي أن هذه الأمة ستكون واثقة من أن المسيح سينصرهم، ولكنه أيضًا لن يستطيع نصرهم يومئذ أبدًا.

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (الكهف 45)

التفسير:

لقد كشفت هذه الآية جليًّا أن هذا البيان القرآني يتضمن نبأ عن المستقبل. ذلك أن الله تعالى يشير هنا إلى أن الـمُلك يومئذ سيصبح لله الحقِّ، وأنه تعالى سيتفضّل على عباده الموحِّدين الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (الكهف 46)

شرح الكلمات:

اختلطَ به: أي امتزجَ (الأقرب).

هشيمًا: الهشيم: المهشومُ؛ نبتٌ يابسٌ متكسرٌ، أو يابسُ كلِّ كلأٍ وكلِّ شجرٍ (الأقرب).

تَذرُوه: ذَرَتِ الريحُ الترابَ: فرَّقتْه وأطارتْه وأذهبتْه (الأقرب).

مقتدِرًا: اقتدرَ عليه: قَوِيَ عليه وتَمكَّنَ منه (الأقرب).

التفسير:

بضرب مثل الحياة الدنيا هنا قد زاد الله تعالى المثالَ السابق وضوحًا وجلاءً. يوضح هنا : إن الحياة المادية تبدو في أول أمرها جميلة جدًّا، ولكن مصيرها مريع تمامًا. أما الحياة الروحية فتبدو في بدايتها عارية من الجمال وقاسية، ولكن عاقبتها تكون جميلة جدًّا. فمع أن نـزول الماء المادي من السماء يُكثر النبات والخضرة لدرجة أن أغصان الأشجار تتشابك بعضها في بعض لكثرتها، لكن هذه الخضرة كلها تيبس حتى تصبح هشيمًا تطير في الرياح. بيد أن الزرع الذي يُسقى بالماء الروحاني لا يذبل ولا ييبس أبدًا.

وقد يعترض على هذا المثال أحد فيقول: الزرع إنما يصلح للأكل بعد أن ييبس ويتهشم؟ والجواب أن الله تعالى لا يضرب هنا مثل الآكل بل مثل الزرع، ليبين أن الشعوب إبان ازدهارها المادي تبدو كزرع نضر يهتز ويتمايل، ولكن لا أحد يلوي عليها زمن انحطاطها. وعلى النقيض فإن الأمم التي تهتم بالدين تنال عزةً أبدية في الدنيا، بالإضافة إلى ما لها في الآخرة من تكريم. خذوا على سبيل المثال قوم نوح، فلم تبق لهؤلاء الكافرين اليوم من باقية، ولكن نوحًا لا يزال يُذكر بعزة واحترام. وكذلك كان إبراهيم. والحال نفسه ينطبق على موسى إذ ما زال موضع احترام في العالم بالرغم من أن قومه اليهود قد ضُربت عليهم الذلة. إن الفتوحات المادية التي أحرزها المسلمون في القرون الأولى قد انمحى أثرها واختفى، ولكن لا زال لخدماتهم الدينية تأثير عميق بحيث تجدون حتى اليوم أناسًا يريدون أن يضحّوا بأرواحهم حفاظًا على كرامةِ حتى أقلِّ هؤلاء المسلمين الأوائلِ درجةً.

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً   (الكهف 47)

التفسير:

في المثال الأول ذكَر الله تعالى الجنةَ، ثم ساق قولَ صاحبها للشخص الآخر: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ، وذلك لبيان المراد الحقيقي من تلك الجنة. وبالمثل ذكر في هذا المثال «نبات الأرض»، ثم أردفه بقولـه الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وذلك لبيان المقصود الحقيقي من «نبات الأرض» هنا.

إن الله تعالى ينبهنا أنه بالرغم من أن المال والبنين زينةُ الحياة الدنيا، إلا أن الإنسان لو استخدمها بطريقة سليمة.. أي أنفق مالَه في سبيل إعلاء كلمة الدين وسَخَّر أولاده في خدمة الدين.. لكتب الله لأمواله وأولاده أيضًا الدوام. لا شك أن المال ينفد بالإنفاق، ولكن أثره الطيب يبقى؛ وبالمثل يفنى الأولاد، ولكن ذِكرهم الحسن لا يفنى؛ وبالتالي يخلد الصيت الحسن لآبائهم.

أما قولـه تعالى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا فاعلم أن الباقيات الصالحات تعني كل عمل صالح طيب.

ولقولـه تعالى خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً مفهومان: الأول أن العمل الطيب يأتي بنتيجة طيبة في هذه الدنيا، كما تُعقَد به الآمال الطيبة في الآخرة؛ وكأن كلمة «ثوابًا» تشير إلى نتيجة العمل الصالح في الدنيا، بينما تومئ كلمة «أملاً» إلى نتيجته التي ستظهر في الآخرة.

والمفهوم الثاني هو أن كلمة «ثوابًا» تختصّ بصاحب العمل الحسن، أما كلمة «أملاً» فتختص بأجياله القادمة.. والمعنى أن أعمالكم الصالحة ستأتي بنتائج مرضية لكم ولأولادكم أيضًا، لأن من سنة الله تعالى أنه ينفع الأولادَ أيضًا بسبب آبائهم الصالحين.

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (الكهف 48)

شرح الكلمات:

بارزة: اسم فاعل للمؤنث مِن برَز يبرُز بروزًا أي خرَج (الأقرب).

حَشَرْنا: حشَر الناسَ يحشُر حشْرًا: جمَعهم. ويومُ الحشر: يومُ البعث والمعاد، وهو مأخوذ مِن حَشَرَ القومَ إذا جمَعهم. والحاشر اسمٌ من أسماء نبي المسلمين (الأقرب).

لم نغادِرْ: غادَره: ترَكه وأبقاه (الأقرب).

التفسير:

اعلَمْ أن من معاني الجبل سيد القوم، ومعنى التسيير المشيُ بأحد (الأقرب). والجبال هنا تعني كبارَ القوم، لأن الحديث هنا يدور عن الناس لا عن الجبال والأنهار.

والمراد من الأرض هنا أهلها، لأن من أساليب اللغة العربية حذف المضاف أحيانًا، ومثاله قول الله تعالى: وَاسْئَلِ القريةَ التي كنّا فيها والعِيرَ التي أقبَلْنا فيها (يوسف: 83).. أي اسئلْ أهلَ القرية وأهلَ العير. يوضح الله هنا أن هذه الأنباء ستتحقق في الزمن الذي ينفر فيه كبار القوم، وترى الأرض، أي جميعَ أهلها، قد خرجوا ووقفوا وجها لوجه لحرب طاحنة لن تغادر منهم أحدًا.

وفي الإنجيل أيضًا إشارة إلى هذا الأمر حيث يقول المسيح : «تقوم أمة على أمة ومملكةٌ على مملكة» (متى 24: 7).

وهناك مفهوم آخر: لهذه الجملة إذ قد تعني الأرض هنا الطبقة السفلى من أهلها، بينما تعني الجبال كبار الناس؛ والمراد أنه في ذلك الزمن سينقسم العالم إلى معسكرين متنازعين فيخرج كبار الناس أي الدكتاتوريون من جهة، ومن جهة أخرى يخرج أهل الأرض أي حماة الديمقراطية وممثلو الشعوب. وسوف تحدث حرب طاحنة بين هذين المعسكرين.

أما قولـه تعالى وحشَرْناهم فاعلمْ أن الحشر يعني جمع الناس وإيقافهم وجهًا لوجه، ومن معاني الحشر العسكر لأن الجنود أيضًا يقفون وجهًا لوجه.* فالمراد أننا سنجعلهم يحاربون بعضهم بعضًا، وهكذا سنعاقبهم على سوء أعمالهم.

وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (الكهف 49)

التفسير:

المراد من عرضهم على ربهم صفًّا أن الله تعالى سيُصدر فيهم حكمه، لأن المثول أمامه تعالى لا يكون بالصف الظاهر، بل بالصف المعنوي. وأي شك في أن صدور القرار الإلهي بهلاك قوم هو بمثابة حشرهم وقيامتهم.

وقولـه تعالى لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني أنكم وقعتم مرة أخرى تحت قبضتنا.

وقولـه تعالى بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا يعني أنكم ظننتم أننا لم نحدد لهلاككم موعدًا.

لقد اتضح من هذه الآية أيضًا أن هذا المثال جاء شرحًا للمثال السابق، إذ ورد فيه أيضًا نفس المعنى الذي هو لقوله تعالى مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا .

Share via
تابعونا على الفايس بوك