الخطيئة الأصلية المنتقلة بالعدوى

الخطيئة الأصلية المنتقلة بالعدوى

التحرير

  • كيف يفسر الغباء الروحاني في هذا العصر ضرورة بعث النبيين ومنهم المسيح الموعود؟!

__

لا شك أن الأمراض الـمُعدية والأوبئة الفتاكة تصيب الناس بحالة فزع وهلع وسرعان ما يهرعون لأخذ التدابير اللازمة من وقاية وتصنيع الـمَصل.. ولكن مهما كانت حدة الداء الذي قد يصيب الأبدان فإنه ليس بأخطر من الأوبئة التي تهاجم روح الإنسان، فلئن كانت الأولى تودي بحياته في هذا العالم، فإن الأخيرة تودي بحياته في الدنيا والآخرة.. نعم، إن من الأوبئة ما ينتقل بطريق العدوى حتى دون تلامس أو اختلاط أنفاس، إنها عدوى أشد خطورة من سابقتها وغالبًا ما يتجاهلها عامة الناس، ويكفي لتفشيها شاشة تلفاز أو هاتف جوال فتجري في ابن آدم مجرى الدم. ورحم الله من قال «من علم خاف، ومن خاف سلم».

إن مستحدثات العصر ومخترعاته على الرغم من أنها أمر محمود بحد ذاته، إلا أنها جلبت معها آفات شتى، وبقدر ما أتاحت لنا من راحة، أصابتنا بضعف عضلي، وهشاشة عقلية! إن الإنسان ليحظى في هذا الوقت بما لم يكن يحلم به الأسلاف منذ قرون بل وآلاف السنين، ولكن مقدار الرفاهية هذا يبدو أنه يحمل في طياته نقمة كبيرة على الرغم من أنه يبدو في ظاهره نعمة، ولكن ليس علينا الاستغراب، فقد آل الشيطان على نفسه أن يدس لنا السُّمَ في العسل، لقد تمثل ذلك السم الزعاف ببساطة في فكرة أن ماكنة هذا العالم تعمل من تلقائها، وإن كان لها صانع أول، إلا أنه ضبطها برمجيا وتركها تعمل وشأنها دون أي تدخل.. إن هذا القول هو مجمل ما تدعيه فئة كبيرة من الناس في هذا العصر، يدعون أنفسهم بـ «الربوبيين»، لقولهم بأن للعالم ربًّا خالقًا، غير أنه لا يتدخل في مجريات الأحداث لا من قريب ولا من بعيد. وفي الواقع إن قول الربوبيين هذا لا يختلف كثيرًا عن دعاوى الملحدين الذين ينكرون وجود رب خالق من الأصل، فإنكار تصرف الله وقيوميته على مجريات حياتنا يساوي في المحصلة إنكار وجوده كلية، وببالغ الأسف، فإن تلك طامة أغلب المتدينين هذه الأيام، بل ومنذ زمن بعيد. ولم تقتصر هذه الطامة على شريحة كبيرة من المسلمين بل تعدتهم وشملت  مفكرين مسلمين ذاعت شهرتهم كدعاة نهضة وإصلاح، انطوت دعاويهم على إنكار قيومية الله تعالى وتصرفه في مجريات أمور الخليقة، فكان من جملة ما روجوا له في كتاباتهم أن الدعاء لا يغير قضاء ولا يدفع بلاء، فهو تحصيل حاصل، وسواء دعا المرء أم لم يدعُ، فالنتيجة مرهونة بعمله! ما لهم كيف يحكمون؟!

فتزامنا مع انطلاق تلك الدعاوى على ألسنة مسلمين، يُتَوقع منهم علاج العالم من وباء البعد عن الحضرة الإلهية، فإذا بهم يلتقطون العدوى! شاء الله تعالى أن يبعث من يعالج ملح الأرض قبل أن يفسد الملح كله، فكان مبعث المسيح الموعود تحقيقًا لهذا الغرض في المقام الأول، وهو إعادة أواصر العلاقة بين الناس وخالقهم، بحقنهم بالمصل الواقي من وباء الاعتقاد الخاطئ بوجود رب لا يحل ولا يربط! لأجل ذلك نشر حضرته إزاء تلك الدعاوى ما يصحح سوء الفهم أو الظن الحاصلين، وكتاب حضرته «بركات الدعاء» من الكتب التي ركزت على ذلك الأمر فعالجته خير علاج.

إننا نؤمن أن دعاء بلا عمل لا يقل خطورة عن عمل بلا دعاء، وأن اقتصار الإنسان على مساعيه الدنيوية هو جذام روحاني، ومعناه عبادة الأسباب والاتكال عليها والغفلة عن المسبب، فكما أن الجذام المادي يعني جذم الأعضاء الجسدية وضمورها وتقطعها، كذلك الجذام الروحاني تقطع الأسباب، يقول جل في علاه:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (1)

ولكي لا يسيء أحد فهم المراد من عدم التكالب على الأسباب المادية، يقدم لنا المسيح الموعود ما يصلح لأن يكون ميزانًا دقيقًا للحيلولة دون الوقوع في شرك الأسباب المادية الجاذمة المجذومة من جانب، ودون القعود بتكاسل عن السعي ابتغاء فضل الله، فيعلمنا : “لا أمنعكم من اتخاذ الأسباب باعتدال، إنّما أمنعكم من أن تكونوا عبدة للأسباب مثل الأقوام الأخرى، فتنسَوا ذلك الإله الذي هو  يهيئ الأسباب أيضا»(2). نعم، إن إلهنا يهيئ كافة الأسباب، ويأخذ بأيدينا من الباب إلى الباب، وهذا جوهر دعاء «اهدنا الصراط المستقيم».. إن الاتكال على الأسباب والانشغال عن المسبب لهو بحق طاعون العصر الذي يفضي بالروح إلى موت محقق، ومثله الانشغال بالنعم عن المنعم (سبحانه).

والتفتيش عن أصل الشرور كلها يوصلنا إلى أن سوء الظن بالله الخالق الحي القيوم هو تلك الخطيئة الأصلية التي ما زال بنو الإنسان يعانون عواقبها الوخيمة.. لا نقصد بالخطيئة الأصلية ما عناه الإخوة المسيحيون من تلك الخطيئة المنتقلة عبر الأجيال بالتوارث، إنما نقصد بها ذلك الاعتقاد المسموم بتخلي الله عن مسؤولية التصرف في أدق أمور خلقه. إن هذا الاعتقاد خطيئة تتطور بمضي الوقت وتقدم العصور، حتى اتخذت من التقنيات الحديثة أداة لاستشرائها وتَغَوُّلِها. فكيف تتسنى لنا مجاهدة هذه الآفة الفتاكة؟! إن هذا بالضبط هو مربط الفرس، وضرورة بعث المسيح الموعود في هذا الزمان..

تتهلل الدنيا كلما لاحت في الأفق بوادر اكتشاف مصل واق من عدوى كوفيد-19، أفلا يحق لنا أن نبتهج بمناسبة إتاحة المصل الروحاني الذي أرسله الرب الرحيم بمبعث المسيح الموعود ؟! فبهذه المناسبة نحتفل بتاريخ الثالث والعشرين من مارس، وهو يوم أخذ البيعة وتأسيس الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1889م..

وكما عودت التقوى قراءها الكرام منذ أعوام، فإنها تُصدِر عدد هذا الشهر مُزيَّنًا ومعطَّرًا بالحديث عن سيرة المسيح الموعود وسر بعثته المباركة، بدءًا بخطبة حضرة إمام الجماعة سيدنا أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز)، ثم بتناول بعض الكُتَّابِ الموضوعَ من زوايا مختلفة، نسأل الله الحيَّ القيوم أن يحيطنا بعنايته ويتكفل كل شؤوننا بفضله ورعايته، ويلهمنا المصل الواقي من عدوى الأرواح كما يلهم أهل المختبرات الدنيوية الأمصال واللقاح، آمين.

الهوامش:
  1. (البقرة: 166-167)
  2. مرزا غلام أحمد القادياني – كتاب “سفينة نوح” – الطبعة الحديثة 2012 م – ص32
Share via
تابعونا على الفايس بوك