السفير الأول.. الداعية الأول حضرة المفتي محمد صادق رضي الله عنه

السفير الأول.. الداعية الأول حضرة المفتي محمد صادق رضي الله عنه

غلام مصباح

غلام مصباح

  • الجالية العربية في الولايات المتحدة الأمريكية تحظى بالرعاية والاهتمام
  • داعية الجماعة الإسلامية الأحمدية صحابي المسيح الموعود عليه السلام يحط الرحال لنشر تعاليم الإسلام السمحاء
  • بناء أول مسجد.. حلم قيد التحقق

__

الإسلام في العالم الجديد.. جالية ثم دعوة

الوجود الإسلامي في العالم الجديد وجود قديم، فإذا كان أسلاف الشعب الأمريكي قد جاءوا مهاجرين من أوروبا، ومن بريطانيا على وجه الخصوص منذ قرون، فعلى الأغلب قد جاء وسط هؤلاء المهاجرين بعض المسلمين، لا سيما وأن شبه القارة الهندية كانت في تلك الفترة مستعمرة بريطانية، شأنها في ذلك شأن مستعمرات عديدة للامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. نعم، يمكن الجزم بأن أقدام المسلمين وطئت الأمريكتين منذ قرون، ولكن الثابت أيضا أن الوجود الإسلامي الرسمي كدعوة ودعاة لم يأت إلا في وقت لاحق في الربع الأول من القرن العشرين، ممثلا في حلول المفتي محمد صادق (1872 إلى 1957)  سفيرا معتمدا للإسلام، ابتعثته الخلافة الراشدون الثانية على منهاج النبوة، وعلى رأسها يومئذ حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني للإمام المهدي والمسيح الموعود .

بالطبع هناك شخصيات أمريكية مسلمة عرف عنها إيمانها بسيدنا المسيح الموعود مثل السيد محمد رسل ويب، وهو شخصية دبلوماسية أمريكية عاصرت المسيح الموعود ولكن لم تتح له الظروف فرصة اللقاء المباشر، ولكن كان ثمة مراسلات أسفرت عن بيعة السيد ويب وانضمامه إلى جماعة المؤمنين.

وهذا المقال يتناول الفترة الزمنية التي تلت وفاة المسيح الموعود باثني عشر عاما، وتحديدا في 1920، حين أرسل الخليفة الثاني للمسيح الموعود أول بعثة رسمية لتبليغ رسالة الإسلام الحقيقية في العالم الجديد (قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية)..

كان المسلمون الموجودون في العالم الجديد قبل وصول هذه البعثة إليهم كمثل زرع اجتُث من أرضه الأم، تاركا جذوره فيها، لينقل إلى أرض جديدة، فكانوا في حال مزرية من السبات والكمون، فقدوا الحماس الديني، ولإن لم يفقدوا الحنين.. لم يكن وصول البعثة التبليغية الإسلامية الأحمدية الأولى إلى شمال أمريكا سببا لنشر نور الإسلام من مشكاة الخلافة الربانية فحسب، إنما سبّب وجودُها هناك إيقاظا روحانيا للمسلمين المهاجرين في أمريكا.

 

المفتي صادق وأول بعثة تبليغية

لقد كان يقيم عندئذ عددٌ كبيرٌ من العرب المسلمين السوريين واللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين وغيرهم في مدينة Detroit في ولاية Michigan وكذالك في ولاية New York ومقاطعاتها. وكان جميعهم مقسّمين من حيث الجنسية والقومية. أما من الناحية الدينية، فقد كانوا في غفلة عن دينهم. فأنّى لهم أن ينشروا دعوة الإسلام و هم على تلك الحال؟!

وخلال النصف الأول من عام 1920، وبعد قضائه بضعة أسابيع في مدينة Philadelphia ، انتقل حضرة المفتي محمد صادق ، وهو أحد صحابة المسيح الموعود المعروفين، انتقل للإقامة في ولاية نيويورك مبعوثا رسميا من قبل الخليفة الثاني لتبليغ دعوة الإسلام.  وبعد مرور أربعة أشهر فقط من مدة إقامته هناك، دعاه عرب المهجر المسلمون لأن يلقي محاضرة عن الإسلام في مدينة دترويت من ولاية ميتشيغان، فانطلق حضرته ملبيا الدعوة مسافرًا من نيويورك إلى دترويت في حزيران من عام 1920. وخلال الاجتماع الذي عقدته الجالية المسلمة في دترويت في 14 يونيو من عام 1920 على شرف حضرة المفتي صادق، افتتح حضرته الجلسة قائلا: “باسم الله والصلاة على النبي العربي” وكان خطابه باللغتين العربية والأمريكية حث من خلاله مسلمي شبه القارة الهندية لإعلاء الهمة والتفاني في تعزيز مجد الإسلام ومساندة

إخوانهم في مشارق الارض ومغاربها، فكان لخطابه وقع طيب في نفوس الحاضرين.

 

الانتقال إلى شيكاغو

من خلال جولات مفتي صادق بين المدن الأمريكية، لاحظ حضرته أن شيكاغو تصلح أكثر من غيرها  لأن يُؤسّس فيها المركز الإسلامي مستقبلًا، لذا فقد انتقل حضرته إلى مدينة شيكاغو في آب أو أيلول من عام 1920. ومن هناك استمرّ في مهمة نشر دعوة الإسلام. غير أن صلته بديترويت والجالية العربية المسلمة فيها لم تنقطع، إذ دُعيَ حضرته مرّةً أخرى لأن يحضر ويلقي محاضرات عن الإسلام في شباط من عام  1921  في مدينة دترويت. وعليه وصل حضرته الى دترويت في الخامس من شباط عام 1921. وقد استقبله حينها العرب المسلمون بحفاوة حسب العادات العربية في إكرام الضيف. وهكذا مكث حضرته مع أصدقائه العرب في دترويت وضواحيها لمدة شهر، وأُتيحت له الفرصة خلال هذا الشهر أن يُلقي العديد من المحاضرات عن الإسلام. ولقد نشرت جريدة “صحافة دترويت الحرّة” “The Detroit Free Press”وهي الجريدة الأكثر شهرة باللغة الإنجليزية في دترويت، جانبا من نشاطات حضرة المفتي محمد صادق في العديد من طبعاتها. وهنا نقتبس نصًّا مما جاء في هذه الجريدة تحت عنوان “المسلمون يعلنون وفاءهم للولايات المتحدة”: لقد نسق المسلمون ندوة دعوا فيها كبار رجال الاعمال وبعض من السادة السياسيين من مدينة “سندى” المجاورة وقدموا فيها أشهى الأطباق الشرقية على شرف المفتي محمد صادق الهندي الداعية من الحركة الأحمدية”

لقد أبدى الداعية مفتي محمد صادق  تقديره وشكره للإخوة العرب بكلماتٍ طيبةٍ نشرها في مجلة “المسلم سن رايز) قائلا: “إن العرب مشهورون على مستوى العالم بحُسن الضيافة، فالحمد لله أنه قد أُتيحت لي الفرصة لأن أشاهد حسن ضيافتهم هنا في أمريكا حيث قدمها كلٌّ من السيد و السيدة رستم والسيد الشامي من ديترويت، وكذالك السيد خروب والسيدة زهرة من Highland Park (1)

 

مجلة مسلم سن رايز حديث المجلات

لقد استقر حضرة المفتي صادق في Highland Park واتخذها مركزًا لتقديم خدماته كداعية إسلامي. وبعد ذالك بفترة وجيزة بدأ بنشر مجلته المشهورة إلى يومنا هذا باسم “the Muslim Sunrise” التي كان عنوانها كائنا في شارع 74 Victor Ave. وقد نشرت مجلة The Detroit Free Press مقالة بعنوان “شاهدوا، هاي لاند بارك تصبح مركزًا إسلاميًّا”.(2) وفي إعلان نشره المفتي صادق في مجلة صحافة ديترويت الحرة تنويها عن مجلته الوليدة مسلم سن رايز كتب يقول:

“بزوغ الشمس الإسلامية.. هي مجلة سياسية ادبية فلسفية يتولى تحريرها العالم العلامة الاستاذ المفتي محمد صادق الهندي المبشر بالطريقة الاحمدية الاسلامية في امريكا، تصدر هذه المجلة باللغة الانكليزية مرة كل ثلاثة اشهر، اشتراكها السنوي ريال امريكي وثمن العدد الواحد 25 سنتا، شعارها ظهور الحق واتباعه والدين الاسلامي والذود عن حياضه وخدمته خاصة وخدمة ابناء الشرق عامة وبيان شرائع الدين الاسلامي وعقائده ومدينته الصالحة لكل امة في كل مكان وزمان وتبحث في المسائل الروحية كافة، فالمرجو من كل غيور واديب مناصرة هذه المجلة والسلام على المجاهدين والانصار”(3)

المفتي صادق وقصة أول مسجد

حيثما حل المسلمون الأحمديون نزلت بركات السماء، وحيثما وطأت أقدام دعاتهم وجدت مسجدًا يُذكر فيه اسم الله تعالى، لذا كان شاغل حضرة المفتي صادق منذ أن وطأت قدماه أرض الولايات المتحدة أول مرة أن يقيم هناك مسجدا يكون مركزا لنشر نور الإسلام، وفي مجلته  Muslim Sunrise  نشر رسالة بعنوان “نصيحتي للمحمديين في أمريكا” يعني بالمسلمين المحمديين هنا عموم المسلمين، حتى من لم تصلهم دعوة المسيح الموعود ولم يرمنوا به، خاطبهم المفتي صادق قائلا:

“عليكم أن تبنوا مسجدًا في كل قرية لتعبدوا إلهًا واحدًا، حتى ولو كان مسجدًا صغيرًا وبسيطًا، المهم أن يكون مسجدًا. وإن لم تستطيعوا أن تبنوا مسجدًا فعلى الأقل يجب أن تعينوا غرفة من بيت أحدكم لتجتمعوا بها وتصلوا جماعةً بشكل يومي. عليكم أن تقرأوا القرآن و التاريخ الإسلامي وأن تشتركوا في مجالس الذكر”(4)

وبينما كان حضرته يؤدي مهمته كداعية إسلامي في مدينة شيكاغو، نشب خلافٌ بين المسلمين بصدد تصميم المسجد من الداخل. عدا عن هذا الخلاف بين الطرفين المختلفين بالآراء، فقد كان كلا الفريقان أيضًا يتسائلون فيما بينهم فيما إذا كانوا سيقصرون هذا المسجد على إقامة الصلوات فقط أم أنهم سيستخدمونه أيضًا لعقد مراسم اجتماعية و ثقافية للجالية العربية. وقد استخدم كلا الفريقين جريدة البيان ميدانا لمعركة الجدل العقيم الذي دار بينهم. ولكن الجدير بالذكر هنا على الرغم من كل هذا الخلاف أن السيد خروب  استمر في بناء المسجد، و على الرغم من عدم اكتمال بنائه، فقد عُقدت فيه صلاة العيد  مباشرة بعد إنقضاء شهر رمضان المبارك في حزيران عام 1921. وكان حضرة المفتي صادق قد عاد إلى highland Park   وأمّ صلاة العيد  ثم قام السيد حسين خروب الأخ الشقيق لمحمد خروب بإلقاء الخطبة، وريثما انتهت الخطبة كان قد تجمع حشد كبير من المسلمين خارج المسجد في شارع  Victor Ave.. ودوّن هذه الواقعة السيد أحمد بدر الذي كان مندوبا للمؤسسة العربية في أمريكا في مجلة البيان على النحو التالي:

“لم تر الجالية الإسلامية في مدينة دترويت يومًا أروع من ذلك اليوم، ولم تشاهد تجمعًا مؤثّرا قط مثل ما شاهدت في نهار ذالك اليوم. ولم تشاهد مدينة دترويت ولا الولايات المتحدة كلها بل ولا قارة أمريكا  كلها تجمعا إسلاميا من هذا النوع وبهذه الأهمية من قبل”(5) .. وعلاوة على أن الحزب المنافس كان ما زال مصرّا على الخلاف والجدل، فقد أخذوا أيضا يعترضون على حضرة مفتي محمد صادق زاعمين أنه يتبع نبيًّا جديدًا ودينًا جديدًا. قبل أن ينطق حضرته بالدفاع عن نفسه من اعتراضاتهم، وقف بجانبه مجموعة من الإخوة العرب المخلصين لكي يدافعوا عنه. لقد كتب الأخ عقل علي المقدسي، صديق حضرة المفتي من مدينة دترويت مقالة لرئيس تحرير مجلة البيان، رد فيها على ما وجه إلى حضرة المفتي صادق من ازدراءات.

ورغم جو التنازع السائد بين عرب المهجر من المسلمين، استمر حضرة مفتي محمد صادق في أداء مهمته كداعية إسلامي وزار المسلمين العرب الآخرين في المدن المجاورة له. وقد ذكرت زياراته هذه بمجلات وجرائد مختلفة، منها  News-Bee of Toledoفي ولاية أوهايو(6)

وبعد مرور عدة شهور من الخلافات التي دارت بين الاطراف المساهمة في بناء المسجد، قرر السيد خروب أن ينسحب من المشروع و أن يعرض البناء للبيع.. لقد كانت هناك أسباب عديدة لاتخاذ قرار إلغاء بناء المسجد، وقد ذكرت صحيفة “Detroit Free Press” إحدى تلك الأسباب في صحيفتها على النحو التالي: “خلال السنة كلها لم يستلم السيد خروب سنتاً واحدًا من الأموال التي كان يستوجب إعادتها له، فبناءًا على هذا بعد شهرين أعرب السيد خروب عن نيته هدم المسجد”(7).. في تلك الفترة، عاد حضرة مفتي محمد صادق إلى شيكاغو كي لا تتسبّب تلك الخلافات في عرقلة مهمته كداعية إسلامي، ولا سيما أنه كان هو السبب لتجمع واتحاد المسلمين في مسجد هاي لاند.  لقد ذكر صاموئيل مارينوس، وهو أحد علماء النصارى هذا المشهد في مجلة “العالم الإسلامي” يقول فيها:

“عندما رحل المفتي عن أتباعه من هنا، وذهب إلى شيكاغو ليتابع مهمته كداعية إسلامي، أخذ عدد حضور المسلمين إلى المسجد يتناقص شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى درجة أنه لم يأت أحد إلى المسجد حتى في أعيادهم… قال السيد خروب: لقد خاب أملي بالمسلمين، حيث أنهم لم يُقدّروا أنني بنيتُ مسجدًا لإفادة الناس. فبما أنني قد أنفقت ومازلت أنفق الكثير من الأموال لبناء هذا المسجد وصيانته ودفع ضرائبه، والآن أنا لا أرى أي دافعٍ يمنعني من هدم المسجد وبيع الأرض التي بُني عليها. لن أتكلم بكلام لومٍ عن قومي، فإذا خالفوني بتفاسير عقائد النبي محمد ، فهذا شأنهم ومن حقهم أما أنا فأؤمن بحرية التفكير بالكامل”(8)

أما بالنسبة لحضرة مفتي محمد صادق نفسه، فهو لم يعرب عن سبب مغادرته لمدينة دترويت، لكنه الله سخر له أصدقاءًا أوفياء من تلك المدينة فقد هيئوا له مكانا دائما يستقر فيه. ولكنه شكرهم وقدّر إخلاصهم وقرر أن يذهب إلى شيكاغو حيث أنه أنسب بلد لنشر دعوة الإسلام.

بنى حضرة مفتي محمد صادق مسجدًا فور وصوله إلى شيكاغوا، وبدأ مباشرةً بنشر عدد ثانٍ لمجلته The Moslem Sunrise. وقد استطاع حضرته القيام بكل هذه الإنجازات بفضل الله تعالى و بفضل الدعم المالي الذي كان يصله من مركز الجماعة الإسلامية الأحمدية في قاديان في الهند. فهذا أيضًا يزيل المفاهيم الخاطئة التي ذكرت آنفا في صحيفة Detroit Free Press  أن حضرته كان مدعومًا بالمال من قِبل السيد خروب.(9)

لقد عبر بعض الإخوة العرب وآخرون من المسلمين المقيمين في Midwest و Northeast في الولايات المتحدة عن رغبتهم في زيارة حضرة مفتي صادق لهم، فطلبوا منه مباشرةً أن يزورهم. بناءًا على هذا، زار حضرته مدينة Ross و Stanley من ولاية North Dakota في نهاية عام1922. لقد تمت هذه الزيارة وفقًا لدعوة بعض الإخوة العرب أو الأتراك المسلمين المقيمين قريبًا من مدينة رووس. فألقى حضرته محاضرةً عندهم شكر فيها الأخ حسن حسين جاها، والأخ فرحت و الأخ عمر وغيرهم من الإخوة المسلمين. وفي طريق عودته، قضى حضرته بضعة أيام لنشر دعوة الإسلام في مدينتي Crookston و St. Paul من ولاية Minnesota.(10).. وأخيرًا، عندما بدأ حضرة مفتي بالتحضير لعودته إلى الهند، ذهب في زيارةٍ وجيزة إلى West Virginia والتقى ببعض المسلمين الذين كانوا يعملون كعمال في مناجم الفحم في Williamson و Logan(11).. ثم بعد وصول حضرته إلى قاديان، بدأت تصله رسائل من بعض الأخوة المسلمين في أمريكا، واستمر ت هذه المراسلات مدة سنوات.

الهوامش:

  1. The Moslem Sunrise, No. 1- July 1921 page 16
  2. Detroit Free Press 25 حزيران 1921 ص 11
  3. 25 June 1921 page 11 Detroit Free Press
  4. The Moslem Sunrise, issue 2, 1921 page 29)
  5. Detroit Free Press 25 حزيران 1921 ص 11
  6. The Toledo News-Bee 12 July 1921page 1
  7. The Detroit Free Press 24 September 1922 page 75
  8. The Moslem World Vol. XIII, 1923 page 83
  9. Detroit Free Press, 24 Sep 1922 page 75
  10. The Moslem Sunrise, Issue I, 1923, p. 166, 167
  11. Al-Fazl, 4 September 1923
Share via
تابعونا على الفايس بوك