الفتنة الكبرى بين قراءتين
  • المبدأ الذهبي لقراءة التاريخ
  • القول الفصل في تبرئة الصحابة

__

توحي نبضات قلب الشّارع الإسلامي بحالة مرضية مزمنة تمتد جذورها إلى أحداث وقعت في عصر الخلافة الرّاشدة الأولى، وما زالت سلسلة نكباتها الوخيمة حتى اليوم. وعلى رأسها الفتنة التي استُشهد فيها ذو النورين حضرة عثمان بن عفان ، أو ما بات يُعرف بـ «الفتنة الكبرى»، وهي مجموعة من الاضطرابات والنّزاعات، تطايرت شرارتها الأولى سنة 35 هـ، تلاها نشوب نيران النّزاعات والحروب طوال خلافة الإمام علي بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه)، التي كانت السّبب الرئيس لطي صفحة الخلافة الرّاشدة الأولى تصديقًا لنبوءة حضرة خاتم النبيين : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة…». (1)

لقد أسفرت أحداث تلك الفتن عن خسائر فادحة حُفظت بين دفات كتب التاريخ المنصفة وما زال المسلمون يسددون فاتورتها حتى هذه اللحظة، كما أسهمت في تحويل مسار التاريخ الإسلامي، إذ تسببت في انشغال المسلمين لأول مرة عن الفتوحات بقتال بعضهم البعض، ناهيك عن نشأة النزاع المذهبي بينهم، فبرز الخوارج لأول مرة، كفرقة تطالب بالإصلاح وردع الحاكم الجائر والخروج عليه، كما برزت جماعة السبئية الغلاة، والتي نشأ عنها أحد الفصيلين المتناحرين من المسلمين.

اجتهاد خاطئ

لا يُعدُّ وصف الأحداث الضارية ﺑ «الفتنة الكبرى» ضربًا من التهويل، فتلك الفتنة التي بدأت فعليًّا في عهد الخليفة الراشد سيدنا «عثمان» وامتدَّت إلى خلافة سيدنا «عليٍّ وبنيه» لم تزل تبعاتها محلَّ دارسة، حيث تناولتها العديد من الأقلام محاولةً الوصول إلى قاع بئر الحقيقة. وكان ممن خاضوا غمار البحث في قضية الفتنة الكبرى الدكتور «طه حسين» الذي حاول بأسلوب أدبيِّ مناقشة إحدى أخطر قضايا التاريخ الإسلاميِّ وأكثرها حساسية.

وتكون المغامرة أحيانًا مقامرةً، خصوصًا إذا كان المغامر لا يملك الأدوات المناسبة لاستيعاب كُنْهَ «الفتنة الكبرى» في تاريخ الإسلام، كونها تاريخية من جانب وعقدية من جانب آخر، وها هو «طه حسين» يقع في فخ هذه المقامرة حيث أقدم في مؤلَّفه الشهير «الفتنة الكبرى (عثمان)» والذي أتبعه بكتاب آخر في نفس الموضوع  عنوانه «الفتنة الكبرى (علي وبنوه)»  على القيام بهذه الرحلة،

فسعى إلى اتِّباع مذهب «الحياد التاريخيِّ» بين الفريقين، لكنه لم يفلِح في سعيه بهذا الصدد، فعلى الرغم من مناداته إلى الموضوعية والتجرد من الأهواء والأحكام المسبقة عبر صفحات كتابه المتعاقبة، إلا أنه سقط في فخ التحيز والركون إلى الأحكام المسبقة وترجيح بعض الروايات على البعض الآخر دون تقديم مستندات عقلية مقبولة، فقد تحامل طه حسين على الخليفة الثالث، سيدنا عثمان بن عفان ناسبًا إليه خطأ الاستئثار بالمال العام. كما يُؤخذ على المؤلف في  كتابه «الفتنة الكبرى» أنه قد استقى أغلب رواياته من كتاب «أنساب الأشراف» للبلاذري، ناهيك عن أنه أغفل تمامًا الآيات القرآنية الواضحة عن وعد الاستخلاف: حيث يقول تبارك وتعالى :

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (2)..

وفي هذا المقام تقتضي الحكمة والموضوعية وضع تأليف طه حسين «الفتنة الكبرى» في الميزان فهو أمرٌ لا ينتقص من مكانة الرجل العلمية والأكاديمية  بحال من الأحوال، لا سيما إذا كان قد ذكر شيئًا وغابتْ عنه أشياء، ولكن هذا لا يمنعنا من القول بأن كتاب «الفتنة الكبرى» يُعد بلا شك تحفة أدبية، غير أن كون العمل مُتقَنًا أدبيًّا لا يعني بالضرورة أن يكون صحيحًا تاريخيًّا ومنهجيًّا.

المبدأ الذهبي لقراءة التاريخ  

              

يفرض مبدأ جوهري نفسه خلال عملية التّحقق من أي معطيات تاريخية، بأن تُدرس الأحداث العالمية باعتبارها سلسلة، وبهذه الصورة يخول لنا التحقيق فيما إذا كانت الروابط (أي صلة الوصل) في مكانها الصحيح أم لا. وبالتالي لا يمكن للمرء أن يدرس تاريخ أي حقبة ما لم يضع في اعتباره تسلسل الأحداث، خاصة الحقبة التي نحن بصدد دراستها الآن (3). وإنَّ ما كُتِبَ عن الفتنة الكبرى وظهور الفرق الإسلامية بلغ من كثرته حدًّا بحيث لم يعد هناك أي جديد يُقال بعد كل ما قِيل، لا سيما إذا انتُهج المنهج القديم في البحث التاريخي، والقائم على إعادة سرد الروايات المبثوثة من  كل حدب وصوب، دون النظر فيها في إطار المبدأ الذهبي آنف الذكر.

إن كتاب «بداية الخلافات في الإسلام»، على صغر حجمه، يُعلن ميلاد منهج منطقي يصلح للتطبيق على كافة الروايات التّاريخية وتمييز غِثِّهَا مِنْ سَمِينها.. وذلك الكتاب القيِّم في أصله محاضرة ألقاها المصلح الموعود سيدنا بشير الدّين محمود أحمد، الخليفة الثاني بتاريخ 26/2/1919م في جلسة جمعية مارتن للتّاريخ في الكلّية الإسلامية بلاهور.

لم ينتهج المؤلف في عمله هذا منهجًا وصفيًّا في كتابة التّاريخ، وإنما انتهج منهجا تحليليًّا وتقصَّى الحقائق بأسلوب منقطع النظير استعصى حتى على أولئك المعاصرين للحدث. فقد توجه حضرته إلى أصل الدّاء مباشرة، فشخصه أوضحَ تشخيص، وأزال التّراب المتراكم حول جذور شجرة الفتنة الخبيثة، تمهيدًا لاجتثاثها من أصلها بكل اقتدار، إذ أماط حضرته اللثام عن أسباب الفتنة وملابساتها، وكيفية تطور أحداثها. (4)

شفاء الجراح القديمة

ولم يدّخر مؤلف «بداية الخلافات في الإسلام» جهدًا على مدى صفحات الكتاب لتبرئة ساحة الصحابة الكرام جميعهم مما نُسب إليهم من تهمِ تَسبّبهم في إشعال فتيل الفتن في الإسلام.. هذه التهم التي أُلصقت بهم بسوء النية أو عن غير قصد، وأكّد على عدم تبرير سوء الظن بالصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم. ولا شك أن هذا الدفاع المنقطع النظير  تعذّر على مَن سواه مِن المؤرخين والمفكرين إلى عصرنا هذا نظرًا إلى ميلهم المسبق إلى أحد المعسكرين وافتقادهم الموضوعية. فلا نبالغ لو قلنا أنَّ هذا الكتاب يُعد بكل صدق وأمانة فرصةً ثانيةً للأمة لتتشبث من جديد بأهداب الخلافة الراشدة بعد أن أفلتتها من يدها منذ أربعة عشر قرنًا (5). والمؤلف في ذلك الموقف الموضوعي من الصّحابة جميعهم يستحق عن جدارة لقب المصلح الموعود، فهذا الكتاب أحد آثار إصلاحاته للفساد المستشري في جسد الأمة منذ قرون على الصّعيد الفكري التّاريخي والعقائدي، حتى إنّ القارئ للكتاب سيلمس بنفسه الموضوعية التّامة للمؤلف، ووقوفه على المسافة نفسها من كلا المعسكرين، الأمر الذي لا يتأتى إلا لحكمٍ عدل، حيث بيّن بأسلوب فريد أحداث الفتنة الكبرى وأماط اللثام  عن حقائق وأحداث جرت في عهد الخليفتين عثمان وعلي رضي الله عنهما، وفسّر سبب بروز رأس الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه تحديدًا  وغير ذلك من أحداث تُظهر ما خفي على مر الزمان، فهذا الكتاب على صغر حجمه عظيم المحتوى بالغ الأثر في شفاء الجراح القديمة.

إن كتاب «بداية الخلافات في الإسلام»، على صغر حجمه، يُعلن ميلاد منهج منطقي يصلح للتطبيق على كافة الروايات التّاريخية وتمييز غِثِّهَا مِنْ سَمِينها.. وذلك الكتاب القيِّم في أصله محاضرة ألقاها المصلح الموعود سيدنا بشير الدّين محمود أحمد، الخليفة الثاني بتاريخ 26/2/1919م في جلسة جمعية مارتن للتّاريخ في الكلّية الإسلامية بلاهور. لم ينتهج المؤلف في عمله هذا منهجًا وصفيًّا في كتابة التّاريخ، وإنما انتهج منهجا تحليليًّا وتقصَّى الحقائق بأسلوب منقطع النظير استعصى حتى على أولئك المعاصرين للحدث.

منحة إلهية لمن ارتضى  

الخلافة والخلاف ضدان، وذلك لأن أحدهما نافيًا للآخر عند أولي العقل وأهل العرفان. وما يُعرف في تاريخ أمة الإسلام بالفتنة الكبرى هو بدون أدنى مبالغة مرض مُزمن كما بيّنت في بداية هذه السطور، وما زالت الأمة تقاسي آلامه وأوجاعه منذ أكثر من 14 قرنًا. والحديث عن اشتعال تلك الفتنة بين المسلمين واستحالة وحدتهم وعن بقائهم في معسكرين متناحرين حديث متشعب ومتشابك، حتى أنه بات جُرحًا لا يكادُ يندمل  بسبب ما اشتمل عليه من قيح البغض وصديد العناد، فكل محاولة لإصلاح ذات بين الطرفين والتقريب بين الفرق المتورطة في تلك الفتنة لا تبوء إلا بفشل ذريع، بل لا يزداد طين الخصومة بعدها إلا بلة.

ولكن آن لنا الآن أن نعيد قراءة أحداث الفتنة متسلحين بالمنهج القويم في فهمها وفهم دواعيها وملابساتها وظروفها، بحيث لن تكون قراءتنا الجديدة لذلك الحدث القديم ضربًا من المقامرة أو مضيعة للوقت.

وأود أن أشير في هذا المقام أن التاريخ لم تخطه أيادٍ أمينة حيث أثّرت الانتماءات العرقية والميول الشّخصية في عملية تدوينه وبالتالي فإنَّ تحليل الأحداث التّاريخية الشّائكة أمر مستعصٍ لم يتم بأساليب أكاديمية دقيقة كما يعتقد البعض.. وذلك لعدم إدراك شريحة كبيرة من المؤرخين والمحققين المسلمين حقيقة جوهرية وهي أن أحداث الماضي يستحيل إدراك كنهها بمقاييس عقلية مادية بحتة ولكنها تحتاج إلى إرشاد خاص من الحضرة الأحدية. فما انقضى من أحداث التاريخ صنفه المولى عز وجل ضمن علم الغيب الذي لا يظهره إلا لمن ارتضى من الأطهار المقربين فهو أعلم بالأمور كلها، حيث قال سبحانه وتعالى:

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (6)

وهذا عزيزي القارئ مربط الفرس والأمر الذي ندعوك للوقوف على معالمه من خلال مطالعة هذا الكتاب القيم الجدير بالاهتمام، وتذوق رحيق التبيان السماوي. (7)

 

المراجع
  1. رواه أبو داود، والحاكم، والطبراني بلفظ: “خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء”. ورواه الترمذي، وأحمد، والنسائي في “السنن الكبرى”. بلفظ: “الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك”.
  2. (النور: 56)
  3. بداية الخلافات في الإسلام – المبدأ الذهبي لتصحيح التاريخ
  4. بداية الخلافات في الإسلام – مقدمة الناشر
  5. المرجع السابق
  6. (يوسف 4)
  7. رابط كتاب “بداية الخلافات في الإسلام” لحضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد :
Share via
تابعونا على الفايس بوك