الشر الذي لا بد منه
  • الفتنة واقع حتمي بحسب قانون الطبيعة.
  • لماذا جعلنا الله تعالى عرضة للفتن؟!
  • ماذا يمكن أن نستفيد من أحداث الفتنة الكبرى؟!

_

كلما كانت التطلعات عظيمة، كانت الحرب أعتى وأشد، هذه العبارة البادية في ثوب الحكمة ليست فقط مقتصرة على الأفراد، بل تنطبق كذلك على المجتمعات، فسمو الغاية وضراوة الصعوبات أمران لا يفترقان، كوجهي العملة الواحدة، ألا نرى أن مسألة إيمان المرء على سموها تستلزم تعرضه لفتن عظيمة؟!

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (1)،

ولعل البعض يتساءل مستنكرًا: لماذا يُعرضنا الرب للفتن الـمُهلكة، التي قد تودي بدنيانا وديننا؟! والحق أنه تساؤل مشروع، وإن كان لا يخلو من السذاجة بعض الشيء! فقضية «حتمية الفتنة» في واقع الأفراد والجماعات تتجاوز التأملات والتنظيرات لتتجلى في واقعنا اليومي المـُعاش، فلكي يتسنى للاعبٍ أو فريق رياضي اجتياز مسابقة ما، عليه خوض مرحلة تمرينات شاقة، بل تبدو مميتة بالنسبة للبعض، وإلا فلا داعي للتفكير أصلا في خوض المنافسة! أم حسب اللاعب الرياضي أن يفوز ويحرز الكأس وهو لا يتمرن حد الشقاء؟!

من هنا علينا أن نتيقن من مسألة حتمية ذلك الشر الذي لا بد منه على ما يبدو، فكل امرئ كي يرتقي سيُفتن ويُبتلى، وإلا فلا.. والناس جميعًا دون استثناء، ناهيك عن المؤمنين، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات، هم عرضة للفتن لا محالة.. وسواء كانت فتنة فقر وثراء، أو فتنة فرقة وعداء، فالحتمية واحدة، والفلسفة كذلك واحدة.. حتمية مقاساة الفتن إذن أمر علينا التسليم به. بقي أن نفهم فلسفة تلك الحتمية، أي لماذا نقع في الفتن على اختلافها؟!

إننا بالفعل مخلوقون جميعا بلا استثناء لنعاني ولنئن، من أثرى ثري إلى أفقر فقير، وإذا كان الفقير يعاني وطأة الجوع، وربما يقضي نحبه ضحية له، فحتى مترف العيش لا يسلم من المعاناة، ولا تخلو خزانته، إلى جانب الأموال، من أدوية الاكتئاب، وربما أقدم على الانتحار، فالنتيجة واحدة، وهي الموت، والسبب واحد، هو المعاناة.. باختصار، كلنا نعاني، الضحية فينا وحتى الجاني.. وقد عبرت كلمات الوحي القرآني أبلغ تعبير عن هذه القضية (قضية حتمية المعاناة)، حيث قال الله تبارك وتعالى:

وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡما مَّقۡضِیا (2)..

نعم، إنها حتمية المعاناة، ووراء هذه المعاناة حكمة بالغة، وهي أن إقامتنا في هذا العالم الذي نعاني فيه هي مجرد إقامة مؤقتة، وليست نهاية المطاف، وحياتنا هذه مرحلة إعداد لحياة أرقى، والترقية تتطلب شيئا من المعاناة والتمرين، ألم نرَ أن عضلاتنا إن لم نُجهِدْها ونمرنها فإنها تضمر؟! فكذلك أرواحنا تموت ما لم تعانِ.. فمعاناة المؤمنين، أو باصطلاح آخر «فتنتهم»، ضرورة حتمية يفرضها سعيهم للحصول على شهادة الانتقال إلى العالم الآخر، ذلك العالم الذي يستحيل بلوغه دون تنقية وتطهر من آثار عالم الدنيا هذا.

ومن جمال تعاليم الإسلام العظيمة أنها حتى في أحلك الظروف، تُعد النهج الأمثل للحياة الطيبة، وهي ليست مجرد توجيهات نظرية كما قلنا، بل لها تطبيق عملي أكمل ومتمثل في السُنَّة العملية للنبي ، وسُنَّة خلفائه الراشدين المهديين من بعده. وقد أتاح لنا القرآن الكريم فرصة الاطلاع على اختبارات مرَّ بها أبناء الأمم الخالية، كما وفَّرت سنة خاتم النبيين وخلفائه الراشدين تطبيقا عمليًّا ناصعًا لاجتياز الفتن على اختلافها.

ففي أحلك أوقات الفتن والابتلاءات كان النبي ومن بعده خلفاؤه يدركون تماما أن الله تعالى لم يُهملهم، لهذا لم يتخلَّ حضرة عثمان الخليفة الثالث عن قميص الخلافة الذي ألبسه الله إياه. وهكذا، فإنَّ الفتنةَ التي نشأت في زمنه ،  كانت فرصةً لإظهار استقامة المؤمنين وثباتهم، ولإظهار توكّلهم العظيم على الله تعالى..   إن الله تعالى لا يحذرنا، حين يحذرنا، من شيء غير موجود أو محتمل الحدوث، يقول تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (3) ..

.وتشير الآية الكريمة إلى حقيقة أن الفتنة قديمة قدم النوع الإنساني على هذه الأرض. وطالما نظرنا إلى الفتن الحادثة على مر العصور نظرة اشمئزاز، وهذا رد فعل طبيعي، فالفتن أمراض فتاكة، ومنها ما هو مُعْدٍ أيضا. ولكن، لـِمَ لا نجرب أن ننظر إلى النصف المملوء من الكأس؟! بمعنى أن نتحرى إيجابيات الفتن، إن كانت ثمة إيجابيات لها، فهي كالسم الزعاف، نستخرج منه الترياق أيضا..      أيها القارئ الكريم، منذ عدة أيام هلّ علينا هلال شهر الله المحرَّم، لذا رأينا أن نحتفي به على طريقة التقوى، فبالإضافة إلى درة العدد المتمثلة في خطبة حضرة أمير المؤمنين (نصره الله)، التي انتقيناها لك من أرشيف خطب الجمعة التي تزامنت مع مطلع هلال هذا الشهر الحرام، وتناولت بالطرح قضية الفتنة الكبرى وتداعياتها المعاصرة، ننتخب لك أيضا باقة مقالية تبدو على اختلاف ألوانها منظومةً بخيط واحد متمثل في التركيز على الفتن أيضا كأبرز عوامل قطع العلائق التي أراد لها الله تعالى أن تُوصل. والحديث عن الفتن حديث ذو شجون، وما زال المسلمون قاطبة من أقصى المعمورة إلى أقصاها تغص حلوقهم بمرارتها التي كان من تداعياتها المبكرة مذبحة كربلاء المشؤومة، وكما كانت الفتنة الكبرى، كما تُعرف في التاريخ الإسلامي، حربًا على الخلافة الراشدة الأولى، كذلك الفتنة التي أصابت جماعة المؤمنين الثانية، هي حرب على الخلافة الراشدة الثانية، لتتأكد مماثلة الآخِرين بالأولين. فليكن هذا العدد من مجلة التقوى مضادًّا حيويًّا روحيًّا ضد سموم الفتن على أنواعها، ولننظر من خلال صفحاته كيف تتأتى لنا مواجهتها واجتيازها، بالله تعالى نستعين، وهو الموفق والمعين.

  1. (العنْكبوت: 3)
  2. (مريم: 72)
  3. (الأعراف: 28)
Share via
تابعونا على الفايس بوك