القضية الفلسطينية والتبكيت على خطية!

القضية الفلسطينية والتبكيت على خطية!

عبادة بربوش

رئيس تحرير "التقوى"
  • هل يمكن القول بأن وقوع فلسطين في قبضة الاحتلال عقوبة إلهية للمسلمين على إعراضهم عن مسيحهم الموعود؟
  • ما الخدمات التي قدمتها الجماعة الإسلامية الأحمدية في سبيل هذه القضية؟

____

فلسطين والمؤشر الروحاني

من نِعَم الله تعالى على المؤمنين أنه علَّمهم سننه الثابتة تاركا لهم الخيار ما بين السير عليها أو إهمالها، ومن ثم عليهم تحمل النتائج، ومن ضمن سننه تلك جَعْلُهُ تلك الأرض المقدسة مؤشرا فعالا يبين مستوى الأمة الروحاني. والأمر ليس مقصورا على هذه الأمة الخاتمة، بل شمل كل الأمم التي تواجدت في تلك البقعة خلال زمان خلا، فقد قرر عز وجل:

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (1)،

كما قرر سبحانه وتعالى على لسان نبيه موسى :

إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (2)،

فأرض فلسطين إذن، كانت منذ القدم وستظل، إلى أن يشاء الله تعالى، مؤشرا على مستوى صلاح الأمة المعنية، أفلا يدعونا هذا الأمر إلى البكاء والعويل؟! إن واقع الحال شاهد عيان على فساد أغلب المسلمين وإفسادهم في الأرض، لهذا، ولهذا فقط، سُلبت منهم تلك الأرض التي جُعِلت للصالحين حصرا. إننا لا نعني من هذا القول صلاح الطرف الغاصب، معاذ الله، وإن كنا نرجو للطرفين الصلاح والإصلاح، وإنما نقول أنه في حال تنافُسِ سيئين، فالغلبة تكون لأحسن السيئين، وأحلى المُرَّين(3).

وعبر تاريخ أمة النبي الخاتم لم تكن هذه المرة الأولى التي تُسلب فيها الأرض المقدسة، ولكنها سلبت أول مرة عام 1099م، ولم تُسْتَعَدْ إلا بعد مرور قرابة القرن، على يد صلاح الدين الأيوبي، حينها يبدو أن الأمة أخذت تستعيد شيئا من عافيتها الروحانية، بما أهلها لحيازة الأرض المقدسة مجددا.

وطالما يدفع تصاعد الصراع بين الكيان الإسرائيلي الدخيل من جانب والفلسطينيين الذين هم أهل الأرض من جانب آخر، حذرت الأمم المتحدة من مخاطر «اندلاع حرب شاملة» في المنطقة الإقليمية بأسرها. وعلى الرغم من أن هذا الصراع مستمر منذ عقود، إلا أن موجة العنف الأخيرة جاءت في أعقاب شهر من التوترات المتصاعدة في القدس، وأحداث حرب غزة الأخيرة ومواجهات حي الشيخ جراح بالقدس ال

شرقية نارها لم تخمد بعد.

وقد عدد لنا التاريخ الحديث أسماء طائفة من المدافعين عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه، والتاريخ لا ينسى، ولكن كثيرا من المؤرخين يتناسون! نعم، لا سيما إذا كان تأريخهم في سبيل سياسة ما، من هنا نجد أنفسنا مدفوعين إلى تبيان شيء من الحق، بكشف اللثام عن بعض أسماء أبطال القضية الفلسطينية الحقيقيين، من باب عزو الفضل إلى أهله، فهذا أقرب للتقوى!

المصلح الموعود مُنذرا

في عام 1924م شرفت ديار العرب بأن وطئتها أقدام حضرة الخليفة الثاني سيدنا المصلح الموعود والوفد المرافق لحضرته، حين كان ماضيا في رحلته البحرية نحو لندن لحضور مؤتمر ويمبلي للأديان الحية، فسلك طريق قناة السويس، ورأى أن ينزل أرض مصر وما جاورها من البلدان العربية تفقدا للأحوال وإلقاء لأولى بذور التبشير، التي أنبتت شجرتها فيما بعد، وكان التقى خلال مكوثه في القدس بعض كبار قادة المسلمين وزعمائهم، فقال عن هذه اللقاءات: «لقد قابلت كبار المسلمين هناك، ولاحظت أنهم مطمئنون من قبل اليهود ويرون أنهم ينجحون في إخراجهم من تلك البلاد. غير أنني أرى أنهم على خطأ. إن اليهود مصممون على استعادة بلاد آبائهم (حسب اعتقادهم)، ويبدو من النبوءات القرآنية وبعض إلهامات المسيح الموعود أن اليهود سوف ينجحون في استيطان هذه البلاد. وأرى أن شعور زعماء المسلمين بالاطمئنان سيؤدي إلى دمارهم.»(4)

وقتها لم تكن المؤامرات الصهيونية قد تكشفت بعد، ولم يكن أحد عام 1924 ليتخيل ما حدث بعد هذا العام بأربع وعشرين سنة، حيث تأسس الكيان الغاصب عام 1948 بقرار الأمم المتحدة المجحف بتقسيم فلسطين. إن أربعا وعشرين سنة كانت كافية ليجمع العرب شتات أمرهم وينصتوا لداعي السماء الذي أتاهم من قِبل المشرق بشيرا ونذيرا، ولكن هيهات! فيا للأسف! لم يأخذ العرب حذرهم من اليهود وتحققت مخاوف الخليفة، فنشأ الكيان الغاصب، مما أقضّ مضاجع المسلمين ليس في فلسطين فقط، بل في العالم كله.. لقد جاء المصلح الموعود ليصف الدواء حتى قبل أن يطرأ الداء، عملا بمبدأ «درهم وقاية خير من قنطار علاج».

وقد عدد لنا التاريخ الحديث أسماء طائفة من المدافعين عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه، والتاريخ لا ينسى، ولكن كثيرا من المؤرخين يتناسون! نعم، لا سيما إذا كان تأريخهم في سبيل سياسة ما، من هنا نجد أنفسنا مدفوعين إلى تبيان شيء من الحق، بكشف اللثام عن بعض أسماء أبطال القضية الفلسطينية الحقيقيين، من باب عزو الفضل إلى أهله، فهذا أقرب للتقوى!

ظفر الله خان، الرجل الثاني

السير محمد ظفر الله خان  (1893-1985)، أحد أهم آباء باكستان المؤسسين، وكان سياسيا بارزًا ورجل قانون دولي، عرف بشكل خاص بأنه أول وزير خارجية لباكستان على الإطلاق منذ استقلالها عن الهند عام 1947 إلى عام 1954. وكان أول رئيس مسلم لمحكمة العدل الدولية في “لاهاي” من عام 1954 إلى عام 1961. كما كان عالما بارزا يحظى باحترام كبير من الجماعة الإسلامية الأحمدية، وحاز شرف صحبة سيدنا المسيح الموعود حضرة مرزا غلام أحمد القادياني وبهذا يُعد السير ظفر الله خان من جملة الصحابة في جماعة المؤمنين الثانية، وله علاوة على الإسهامات السياسية المبذولة خدمة للإسلام والعرب، له العديد من الإسهامات الفكرية أيضا، فقد ألَّف الكتب بالإنكليزية تعريفا بالإسلام الحقيقي، وترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، فكان من أبرز المبشرين المسلمين بالإسلام في بلاد الغرب. وعلى ذكر قضية فلسطين فإن جهود حضرة السير ظفر الله خان لا ينكرها مبصر، ولا يجحدها إلا أعمى البصيرة، ويشهد بعظمة جهوده أصحاب القضية من العرب أنفسهم، والذين ما أن رأوا حجم الغبن الذي تعرض له ذلك المجاهد على أيدي وألسنة شراذم المشايخ وأرباب الفتوى والتفتيت في بلاد العرب، من طعنهم وتجريحهم في دين حضرته، غاضين الطرف عن خدماته الجليلة في خدمة المصالح العربية، ولسان حالهم يقول، إذا أتانا الخير من الأحمدية فلا نريده! وقد تحقق لهم ما أرادوا، ولم يُرزقوا خيرا قط إلى هذه اللحظة!

تبكيت القوى الغربية على خطيَّة

في خضم المباحثات والسجالات الدائرة في أروقة الأمم المتحدة وفي قاعتها الرئيسة، ألقى ظفر الله خان خطابا ممتلئا حكمة ودلائل من شأنها إرجاع الحق إلى أهلِه، شريطة أن يتعاضد أهلُه، ولكن هذا ما لم يحدث، فكان ما كان.. على أية حال، نرى مناسبا اقتطاف بعض مقتبسات من ذلك الخطاب الجليل مع التعليق عليها، ثم قراءة رد فعل الشارع العربي على الخطاب ككل..

قال السير محمد ظفر الله خان، مؤنبا الدول الاستعمارية، في سياق خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبيل القرار الغاشم بتقسيم فلسطين: «… نحن غالبا ما نقرأ التاريخ قراءة عكسية، وهذا في رأيي طريقة خاطئة جداً لقراءة التاريخ. فالطريقة الصحيحة لقراءة التاريخ هي أن يقرأ وفقاً للترتيب الزمني. يجب على المرء أن يضع نفسه وراء الأحداث التي يرغب تقييمها ومن ثم الحكم عليها وتقييمها. واسمحوا لي، سيدي الرئيس، أن أدعو الممثلين إلى قراءة التاريخ بهذه الطريقة لبضع لحظات، على الأقل ذلك الجزء من التاريخ الذي يتعلق بالجمعية العامة. قبل اثنين وثلاثين عاماً، حتى لا نعود إلى فترة بعيدة جداً، كان الصراع على أشده بين معسكر دول الحلفاء ومعسكر دول المركز، ودخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا، ومصير قضية الحلفاء غير مؤكد. ودعي العرب، الوحيدون الذين كان بإمكانهم المساعدة في تصحيح التوازن في الشرق الأوسط الذي كان منطقة حيوية، إلى نبذ ولائهم لتركيا والاصطفاف مع الحلفاء. مقابل ماذا؟ مقابل تعهد من المملكة المتحدة، ثم من فرنسا، بأن العرب سيكونون أحراراً في أراضيهم عندما ينتهي الصراع. ووافقوا على ذلك وقاموا بدورهم. كيف تم الوفاء بالتعهدات التي قدمت لهم؟ وكثيراً ما ذُكرنا بأنه وُفي بتسعة أعشار هذه التعهدات، وأنه كافٍ. هل هذا هو المعيار الذي نود أن نراه راسخاً ونتمسك به في الشؤون الدولية والوطنية وحتى الخاصة؟ لقد أوفينا بهذه التعهدات إلى حد تسعة أعشار، ولذلك ينبغي أن يكون ذلك كافياً. إذا كان الأمر كذلك، تمهل وتأمل: هل سيثق الناس بالتعهدات بعد ذلك، وعلى الأخص تعهدات القوى الغربية؟ تذكري أيتها الدول الغربية أنك قد تحتاجين غداً إلى أصدقاء، وأنك قد تحتاجين إلى حلفاء في الشرق الأوسط. أرجو منك ألا تفسدي الثقة التي تحظين بها في تلك الأراضي.»(5)

أهذا رد الجميل للعرب؟!

نستشف من خلال المقتبس السالف من خطاب السير محمد ظفر الله خان أن المشكلة الفلسطينية برمتها تُختزل في عبارة «نقض العهود»، وثمة مقتبس آخر سنستشف منه أن هناك مشكلة أخرى، هي «جحد الجميل»، وفي الواقع، إن ناقض العهد وناكر الجميل سيان، وناقض العهد في قضيتنا عرفناه سلفا من خلال المقتبس من خطاب حضرة الأمين العام، أما ناكر الجميل، فهو اليهود الذين لاقوا ما لاقوا من اضطهاد على أيدي الغرب الذي يتشدق بالإنسانية اليوم، ولم يجدوا الدفء والمأوى إلا في أحضان مسلمي الأندلس، ويشير ظفر الله خان إلى هذه الحقيقة التاريخية فيقول: «نلاحظ أن أولئك الذين يتحدثون عن المبادئ الإنسانية، ويستطيعون تحمل التكاليف لعمل الكثير، قد فعلوا أقل ما يمكن على نفقتهم الخاصة للتخفيف من حدة هذه المشكلة. لكنهم مستعدون ومتلهفون لأن يكونوا أكثر سخاء على حساب العرب.. قليلة هي الفترات التاريخية التي لم يتعرض فيها اليهود للاضطهاد في مكان ما من أوروبا. عندما انغمس الملوك والبارونات الإنجليز في هواية قلع أسنان التجار والمصرفيين اليهود كوسيلة لطيفة لإقناعهم بالتعاون معهم لتعزيز اقتصادهم الإقطاعي، وهو نوع من عقود القرون الوسطى الانفرادية للإعارة والاستئجار. في الوقت الذي أتاحت فيه الأندلس العربية مأوى وملجأ وملاذا لليهود. واليوم يقال: إن اليهودي الأوروبي المضطهد والمسكين هو وحده الذي لا وطن له. يقال أيضا: لماذا لا ندع فلسطين العربية توفر له، كما فعلت الأندلس العربية، ليس فقط المأوى والملجأ ولكن دولة حتى يكون حاكما على العرب. يا للسخاء! يا للإنسانية!»(6).. لقد أظهر حضرة الأمين العام للجمعية العامة للأمم المتحدة عورة المحافل السياسية الغربية التي تتغنى بالإنسانية وتتشدق بها، في ادعاء أجوف سرعان ما ثبت تهافته وكذبه.. أفبالإنسانية يقتلون الإنسان؟! حقا، إنهم يقولون شيئا ويفعلون شيئا آخر! لم يقولون ما لا يفعلون؟!

ثلاث آفات منيت بها أخلاق السياسة العالمية إذن، نتج عنها قضايا خلافيةٌ دوليةٌ عديدة، منها قضية فلسطين كعنوان رئيس، تندرج تحته تفريعات عديدة، كمشكلة حق العودة، وقضية السلام في الشرق الأوسط، وتطبيع العلاقات بين الكيان الغاصب وما حوله، وتلك الآفات الثلاث هي على الترتيب: نقض العهد، وإنكار الجميل، والتناقض بين القول والفعل.

نلاحظ أن أولئك الذين يتحدثون عن المبادئ الإنسانية، ويستطيعون تحمل التكاليف لعمل الكثير، قد فعلوا أقل ما يمكن على نفقتهم الخاصة للتخفيف من حدة هذه المشكلة. لكنهم مستعدون ومتلهفون لأن يكونوا أكثر سخاء على حساب العرب.. قليلة هي الفترات التاريخية التي لم يتعرض فيها اليهود للاضطهاد في مكان ما من أوروبا. عندما انغمس الملوك والبارونات الإنجليز في هواية قلع أسنان التجار والمصرفيين اليهود كوسيلة لطيفة لإقناعهم بالتعاون معهم لتعزيز اقتصادهم الإقطاعي، وهو نوع من عقود القرون الوسطى الانفرادية للإعارة والاستئجار

بطل الدفاع عن القضية الفلسطينية

أما بطل الدفاع عن مشروع فلسطين الموحد فكان محمد ظفر الله خان الذي حشد في دفاعه عن الحق العربي في فلسطين كل مواهبه ومقدرته الخطابية، والقانونية، والسياسية.. كما كانت خطبه تنبض بروحٍ إسلامية صادقة، وبإيمانٍ قوي بأنَّ الشعب الفلسطيني جدير جدارة الشعب الباكستاني وغيره من شعوب العالم بأن يتحرر من الحكم البريطاني، ومن الزحف الصهيوني، على السواء.. وقد كافأته إحدى الحكومات العربية على هذا الدفاع المجيد عن الحق العربي في فلسطين وعن كل قضية عربية وإسلامية طُرحت على الأمم المتحدة في ذلك الوقت، بأن ألصق به ((مُفتي الديار)) في مصر تُهمة الخروج عن الإسلام، بل تهمة الكفر، والعياذ بالله، لأنّه طالما كان يقول في أحاديثه ومحاضراته أنَّ تدهور أمور المسلمين يرجع إلى تدهور أُولي الأمر فيهم.. ولم يرضَ عن هذا الكلام ملك مصر حينذاك فصدرت عن المفتي فتواه المشينة.. ولكن الشعب المصري كان أكثر وفاءً وأحسن تقديرًا من مَلكه ومن مُفتيه، وعبَّر عن هذا الأستاذ أبو الفتح في مقالٍ نشرته صحيفة ((المصري)) عنوانه ((أَنْعِمْ به من كافر)) تحدَّث فيه عن مواقف ظفر الله خان الإسلامية المجيدة.

ولا يفوتني في هذا المقام عرض ما تفضل به رئيس تحرير مجلة العربي في عددها 592 لشهر يونيو 3891م متحدثا عن المواقف البطولية لظفر الله خان و لقبه ببطل قضية فلسطين في الأمم المتحدة. (7)

الهوامش:

1. (الأنبياء 106) 2. (الأَعراف 129)

2. سنة دق نواقيسِ التنبِيه .. متى نعي الدرس؟!

3. سامح مصطفى، مجلة التقوى، عدد إبريل 2018.

4. حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد، نقلا عن مجلة التقوى، عدد اليوبيل المئوي للخلافة، ديسمبر 2008

5و6.

Share via
تابعونا على الفايس بوك