مفهوم الإجماع بين المذاهب الفقهية والسيرة النبوية

مفهوم الإجماع بين المذاهب الفقهية والسيرة النبوية

حلمي مرمر

كاتب
  • ألم يثبت استحالة الإجماع الذي في تصورهم؟!
  • ما حقيقة الإجماع الذي يمكن الاطمئنان إليه؟

___

استحالة الإجماع الذي في تصورهم

منذ زمن بعيد والناس يختلفون حول معنى الإجماع، ومن خلال النظر في اسمه فقط يتبين المعنى المقصود منه، فهو يعني التجمع والاتفاق، وهو يعني اصطلاحا اجتماع علماء أصول الفقه على رأي واحد في مسألة معينة، وربما كان ذلك غير مقبول عقلا، لأن اجتماع كافة العلماء المعنيين بدراسة فرع معين من فروع العلم الشرعيّ في مكان واحد أمر لا يقبله عقل، ولا يحدث الإجماع على وجه الحقيقة إلا بذلك، ولا ينبغي لأحد أن ينظر إلى زماننا هذا وهو يتصور حصول الإجماع، لأن الإجماع هو الإجماع منذ كانت الخيل والبغال والحمير هي أسرع وسائل المواصلات وأكثرها شيوعاً، وبالتالي فإن اجتماع فئة عريضة من العلماء في شتى أرجاء العالم ومناقشتهم أمرًا ما من الأمور العلمية واتفاقهم جميعاً على رأي واحد لهو من المستحيلات عقلا، ليس فقط بسبب استحالة حدوث ذلك لبدائية وسائل المواصلات واتساع رقعة العالم الإسلامي بحيث يصعب أن يحضر الجميع اجتماعا كهذا، بل ولأن تيسر جميع الأسباب لأن يحضر الجميع دون استثناء واحدٍ منهم قد تعرض لمرض منعه من المغادرة بصورة فجائية، أو مات ابنه فأقعده حزنه عليه وأسفه على موته، أو حدث لأي واحد منهم حادث من الحوادث التي تطرأ على الناس كل يوم حال دونه ودون حضور ذلك الاجتماع، ولو حدث ذلك، وهو طبيعي أن يحدث لفسد الإجماع كله، وما حق لأحد أن يسميه إجماعاً أبدا، ومن سمى مثل ذلك الاجتماع إجماعا فقد ظلم، ثم إن مثل هذا الإجماع الذي نتكلم عنه لم يحدث على مر التاريخ مرة واحدة فقط، فهل بوسع واحد من دعاة الإجماع أن يثبت أن إجماعاً بهذا المعنى قد حدث ولو لمرة واحدة فقط على مر التاريخ؟ فكيف يُراد منا أن نقول بإجماع لم يتحقق على طول الزمان وعرضه مرة واحدة؟ لذلك قال واحد من العلماء له في قلوب المسلمين قيمة وقامة وهو الإمام أحمد بن حنبل: «من قال بالإجماع فقد كذب» نعم هذا هو  الحق مئة بالمئة، لأن حصول مثل هذا الإجماع على الوجه الذي أسلفناه لهو مستحيل فعلا، ومن قال بحدوثه على هذا الوجه فقد كذب فعلا لا محالة، كذلك ورد في كتاب: «حصول المأمول» وهو تلخيص لكتاب: «إرشاد الفحول» للشوكاني ما مفاده: «ومن ادعى أنه يمكن معرفة كلّ من يُعتدّ به من علماء العالم في مسألةٍ نُقِلَ أنّه حدث فيها إجماع فقد أسرف في الدعوى وجازف في القول». (1)

الإجماع في كتابات المسيح الموعود

ورغم رأي الإمام أحمد والشوكاني كما قدّمنا إلا أن غيرهما من العلماء يرون إمكانية حصول الإجماع إلا أنهم لم يقدموا لنا صورة محتملة له، لكنهم على أي حال لا ينفون إمكانية حصوله، والحق أن هذه القضية من القضايا الجد هامة، لأنها يترتب عليها أحكام من شأنها أن تصلح حياة الناس أو تفسدها، فجاء المسيح الموعود حكما عدلا في قضية تُعد من أهم القضايا نظراً لتأثيرها الخطير على حياة الناس، إلا أن رأيه في مسألة الإجماع كان مختلفا إلى حد كبير عما هو شائع بين الناس في زمانه وحتى اليوم، حيث يعتبر الناس أن مجرد اتفاق بعض العلماء على رأي علمي واحد يُعد إجماعا، ولكن كان لحضرته رأي آخر تماماً، فقال:

«اشهدوا أنّا نتمسّك بكتاب الله القرآن، ونتّبع أقوال رسول الله منبعِ الحق والعرفان، ونقبَل ما انعقد عليه الإجماع بذلك الزمان، لا نزيد عليها ولا ننقص منها، وعليها نحيا وعليها نموت، ومن زاد على هذه الشريعة مثقال ذرّة أو نقص منها، أو كفر بعقيدة إجماعيّة، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». (2)

 إذن لا يعني كلام حضرته هذا إلا أن الإجماع هو ما كان في زمن الرسول وصحابته فقط، ولا إجماع بعد تلك الفترة بحال من الأحوال، وأن من قال بالإجماع بعد زمان رسول الله وصحابته الكرام فقد أخطأ وحاد عن الصواب.

وقال أيضاً في موضع آخر مؤكدا نفسه هذا المعنى:

«ولا يعلمون أن الإجماع قد كان إلى زمن الصحابة، ثم حدث الفَيجُ الأعوجُ وانحرف كثير منهم من الجادّة، ولذلك اشتدّت الضرورة إلى بعث الحَكَمِ من الرحمن، وكان ذلك وعدٌ من الله المنّان». (3)

وهنا يوضح حضرته السبب الرئيسي في عدم اعتبار أيٍّ من آراء العلماء الذين جاؤوا بعد فترة الصحابة الكرام إجماعاً بأي حال من الأحوال، ذلك لأن الرسول سماهم بالفيج الأعوج، فكيف يتسنى لنا أن نعتبر آراء فيج أعوج إجماعاً لأمة الإسلام؟ فما دام الرسول سماهم فيجاً أعوج فإن ذلك علامة على اعوجاج كل ما يصدر عنهم، وعدم الاعتداد به، وضرورة الرجوع إلى ما أجمع عليه الصحابة الكرام فقط، فتلك هي الاستقامة، ولا استقامة بعدها حتى يأتي زمان الحكم العدل الذي يحكم في كل تلك القضايا، ويضع بين أيدينا ما يجب علينا أن نعتمده ونأخذ به، وما يجب طرحه جانباً وعدم الأخذ به بحال من الأحوال.

ويبدو جيدا من هذه الفقرات التي أوردناها للمسيح الموعود أن حضرته لم يقل أبداً بالإجماع الذي يقول به العلماء اليوم، ولم يوجه جماعته باعتباره مصدرا من مصادر التشريع أبدا، ولم يقل بأن رأي الأغلبية من علماء المسلمين يُعد إجماعا، وعلينا أن نلتزم به ونعمل وفقاً لأقوالهم تلك، بل على العكس من ذلك تماماً، فإن حضرته نفى نفيا قاطعاً ان يسمى إجماعاً ما بعد فترة الرسول والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد أكد حضرته على هذا المعنى مرةً أخرى، وظل يؤكد مراراً وتكراراً فقال: «وإن دعوى الإجماع بعد الصحابة دعوى باطل وكذب شنيع لا يصرّ عليه إلا الظالمون. وأَنَّى الإجماع؟ أتنسون ما قال المعتزلون؟ أتزعمون أنهم ليسوا من المسلمين وأنتم قوم مسلمون؟». (4)

وفي هذه الفقرة يأتي حضرته بأحد الأدلة الدامغة التي تنفي حصول الإجماع بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم حيث كانت فرقة من الفرق الإسلامية ذات الآراء المعتبرة، والتي حكمت عليها التوجهات السياسية بالكمون والاختفاء، وهي جماعة المعتزلة، والتي كان لها من الآراء في مختلف المسائل ما كانت تختلف فيها اختلافات بينة عن بقية الفرق الإسلامية، ومنها مسألة حياة المسيح بجسده في السماء، فكان لهذه الفرقة رأي قاطع وواضح في هذه المسألة، حيث رفضتها جملة وتفصيلا، وقالت بخلافها بشكل كامل الوضوح، فأين كان الإجماع الذي يدعونه حول هذه  المسألة؟

ويضيف حضرته أحد الأدلة القاطعة على عدم حدوث الإجماع في زمن كان الأقرب إلى زمن الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤكد أنه حتى في هذه الفترة الزمنية القريبة من زمن الرسول والصحابة إلى حد كبير لم يكن هناك إجماع، فقال:  «هناك اختلاف في معنى الإجماع نفسه، فهناك من يحسبه مقتصرا على الصحابة فقط، وغيرهم يمدّدون نطاقه إلى القرون الثلاثة، وبعضهم يرونه صالحا إلى الأئمة الأربعة. وقد اطّلعنا على حقيقة إجماع الصحابة والأئمة، ويكفي لإلغاء الإجماع بقاء فرد واحد خارجا عنه، فما بالك بإمام عظيم الشأن مثل الإمام مالك الذي يتبعه عشرات ملايين الناس وهو يقول بوفاة عيسى بكل صراحة ثم يقول هؤلاء الناس إن هناك إجماعا على حياته (5).

فإن هذا الاختلاف حول حصول الإجماع في حد ذاته ينفي الإجماع بعد زمن الاستقامة الذي كان فيه الرسول وصحابته الكرام. وحتى الإجماع في الأمور العلمية البحتة لم يحدث على مر التاريخ، فلم يتفق الأطباء على علاج واحد لمرض واحد، بل على العكس، فإن بعضهم يرى أن هذا العلاج أنفع للمرض الفلاني، ولكن البعض الآخر يرى أن له آثارا جانبية مدمرة للجهاز الفلاني، فلا نرى صلاحه، وإنما نرى أن العلاج الفلانيّ هو الأنسب والأكثر أماناً، ومن هنا جاءت العلاجات المختلف للداء الواحد.

ومما سبق يتضح أن رأي المسيح الموعود في الإجماع يتوقف عند عصر الصحابة الأفاضل، ولا يتعداه بحال من الأحوال، ولا إجماع إلا في ذلك العصر فقط، ومن قال بالإجماع بعد عصر الصحابة فقد أخطأ، ومن ينسب القول بالإجماع إلى المسيح الموعود فقد أخطأ أيضا، لأننا أوردنا أقوال حضرته في مسألة الإجماع، وأنه لم يقل بالإجماع الذي يقول به علماء أصول الفقه اليوم لا من قريب ولا من بعيد.

الإجماع الذي يُطمأن إليه

والحق أن وجود المذاهب الفقهية المختلفة، والتي بلغت حدا كبيرا، وتم العمل بأربعة شائعات منها حول العالم ينفي نفياً قاطعا ثبوت الإجماع بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم كما قال المسيح الموعود ، إذ لو كان هناك إجماع لأجمعوا جميعاً على رأي فقهيٍّ واحد، وما كان للمذاهب المختلفة أي وجود في حياة الناس، وحول هذا المضمون كان رأي الإمام مالك الذي قطع كل طريق على قول القائلين بالإجماع حين نفى حياة المسيح في السماء، كذلك كان رأي الإمام الفخر الرازي الذي نفى القول بالإجماع نفيا قاطعا، كذلك الإمام أحمد بن حنبل الذي قال أن من قال بالإجماع فقد كذب، ثم الشوكاني والشيخ البطالوي كما أسلفنا، وعلى رأسهم جميعا حجة الزمان المسيح الموعود الذي نفى أن يكون هناك ما يسمى بالإجماع بعد عصر الرسول والصحابة، وقد قال حضرته بإمكانية وجود إجماع في عصر الرسول والصحابة فقط لأن الجميع كانوا يعيشون في مكان واحد تقريبا، وكان من السهل أن يجتمعوا في مكان ويتباحثوا قضية ويدلوا برأيهم فيها، ومن كان مخالفا له فكانت أمامه فرصة الاعتراض والخروج عن إجماعهم، ولكن ذلك لم يحدث، وقدم حضرته مثالاً على ذلك وهو نقاشهم في قضية ابن صياد فقال حضرته:

« كلمة الإجماع عندي تنطبق على حالة حين يشيع مشاهير الصحابة رأيهم الموحَّد ثم يطلع عليه الصحابة الآخرون ولا يخالفونه. مما لا شك فيه أن صحابيا -وهو أمير المؤمنين- أظهر رأيه المقرون بالحلف أمام النبي أن ابن صياد هو الدجال الموعود، ولم يرفضه النبي ولا أحد من الصحابة. ثم حلف بالأمر نفسه ابن عمر وجابر، كما أبدى الرأي نفسه كثير من الصحابة الآخرين أيضا، والواضح أن هذا الأمر لم يعد خافيا على الصحابة الآخرين. هذا هو الإجماع عندي. أيّ تعريف آخر للإجماع تريد أن تعرفه مني؟ وإذا لم يكن هذا إجماعا في رأيك فعليك أن تقدم الشهادات من كِلا النوعين أيْ بقدر ما بينه الصحابة حالفين أو شهدوا بذلك بدون حلف أن ابن صياد ليس هو الدجال الموعود، وإن لم تستطع تقديمها لقامت عليك الحجة من كل الوجوه أنه قد عُقد الإجماع حتما. ولو حلف الصحابة على عكس ذلك لذُكرت أحلافهم لا محالة. إن سكوت النبي على سماعه الحلف أقوى من ألف إجماع، وأكمل من شهادة الصحابة كلهم». (6)

ومما سبق يتضح أن رأي المسيح الموعود في الإجماع يتوقف عند عصر الصحابة الأفاضل، ولا يتعداه بحال من الأحوال، ولا إجماع إلا في ذلك العصر فقط، ومن قال بالإجماع بعد عصر الصحابة فقد أخطأ، ومن ينسب القول بالإجماع إلى المسيح الموعود فقد أخطأ أيضا، لأننا أوردنا أقوال حضرته في مسألة الإجماع، وأنه لم يقل بالإجماع الذي يقول به علماء أصول الفقه اليوم لا من قريب ولا من بعيد.

الهوامش:

  1. إرشاد الفحول للشوكاني
  2. (مكتوب أحمد، ص 39)
  3. (لجة النور، الخزائن الروحانية مجلد 16 ص 415-416)
  4. (الاستفتاء، ص 56)
  5. (إتمام الحجة، الخزائن الروحانية المجلد8، ص 295)
  6. (مناظرة لدهيانه، الخزائن الروحانية،ج4، الصفحة:43)
Share via
تابعونا على الفايس بوك