أوله رحمة
  • لماذا كانت العشرة الأولى من رمضان أيام رحمة على وجه الخصوص؟!

____

لا يخفى على المتدبر في كتاب الله تعالى أنه لم يأمر بعبادة إلا كان من وراء ذلك الأمر غاية حكيمة، وعندما نستقصي تلك الغاية من القرآن الكريم نجد أنفسنا أمام قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1)

وذلك يعني أن تقوى الله هي الغاية الأساسية من الصيام، أما من صام وخرج من الصيام خالي الوفاض من التقوى فإنه لم يصم في الحقيقة، ولم يكن له من صيامه إلا أن عذب نفسه بالجوع والعطش بلا جدوى، ولو أكل وشرب حتى امتلأ لكان خيرا له، ومثله قد يأتيه الموت وهو ممتلئٌ فخرا ظنا منه أن صحيفة أعماله تضيق عن استيعاب أيام صيامه، أما رصيده الحقيقيّ فليس إلا صفرا كبيرًا، فقد امتنع عن الطعام والشراب حقا، لكنه لم يصُم.

والحق أن حيازة التقوى لا تكون إلا بغلبة النفس اللوامة وإعلائها حتى تكون مطمئنة، وقتل النفس الأمارة وقهرها وإذلالها، وذلك نوع من الموت تخرج من رحِمه الحياة الحقيقية. ولا يكون ذلك إلا بعد استواء الصالحات بعد ترك المفسدات على نحو ينمي الجنين الروحاني نموا كاملا، ثم يتولد وينشئه الله خلقا آخر، فيكون العيد.

ومن عجيب حكمة الله تعالى أن الصوم وجزاؤه غيب،  فليس بوسع أحد أن يتيقن من صوم أحد على وجه الحقيقة، ومن صام على وجه الحقيقة فجزاؤه عند الله يظل غيبا كذلك، فقد قال تعالى في الحديث القدسيّ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ…». (2)، فربما كان للرياء نصيب من أي عبادة يقوم بها المسلم، إلا من صام صوما حقيقيًا، فإن صيامه لله خالصًا، فقد يراه الناس وهو يصلي أو يزكي أو يحج، لكنه قد يصوم ويتألم من شدة الامتناع عن متطلبات الجسد دون أن يشعر به أحد، والمرائي قد يتظاهر بالصيام حتى إذا خلا بنفسه ونأى عن أعين الرقباء أكل وشرب حتى امتلأ، فقد يظنه الجاهل صائما، لكنه عند علام الغيوب كذاب أشِر، وهنا مربط الفرس، كذلك فإن كل عمل يعمله ابن آدم له جزاء محدود، ولو كان بعشرة أمثاله أو مئة مثله، إلا أنه محدود في النهاية، أما الصيام فالله هو جزاؤه، بمعنى أن من صام يُظهر الله له نفسه، ويفتح عليه باب الإلهامات، ويسمِعه كلامَه، فيكون وكأنه فاز بالله جزاءً لصيامه.

والصوم امتناع مع وجود الدافع، وهو الجوع والعطش واستبداد الشهوة، والميل إلى المكاسب الدنيوية بالكذب والغش والخديعة، ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المنافع، والصوم درءٌ للمفاسد، والحق أن الامتناع عن المفاسد أعسر على النفس من عمل الصالحات، ومن امتنع مع وجود الدافع فهو في جهاد، وما دامت حالة الصوم قائمة ومستمرة فإن هذا الصائم كأنه في جهاد مستمر غير منقطع، ويمكن للمنقطع عن العمل في الظاهر أن ينال ثواب ألف عامل، رغم أنه يبدو خاملا أمام الأعين، إلا أن امتناعه عن الانخراط في الشر مع وجود الدوافع قد يجعله في مصاف المتقين، ومن ثم يفتح عينيه ليجد نفسه في جنات ونهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

والحق أن حيازة التقوى لا تكون إلا بغلبة النفس اللوامة وإعلائها حتى تكون مطمئنة، وقتل النفس الأمارة وقهرها وإذلالها، وذلك نوع من الموت تخرج من رحِمه الحياة الحقيقية. ولا يكون ذلك إلا بعد استواء الصالحات بعد ترك المفسدات على نحو ينمي الجنين الروحاني نموا كاملا، ثم يتولد وينشئه الله خلقا آخر، فيكون العيد.

تعاني المجتمعات من الذين يعملون صالحا وطالحاً ثم يتوبون، ثم يعودون إلى الفساد والإفساد، وهكذا دواليك، ولكن الصائم المداوم على الصيام حسب بياننا هذا يكون أنفع لنفسه ومحيطه ومجتمعه، لأنه منقطع تماماً عن أي إيذاء لهم، وقد أمنوا جانبه حتى ولو لم يقدم لهم أي نفع، وقد قال الرسول :

«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ… » (3)

ولو أن المجتمع كله تعامل وفق هذا المبدأ لأمن الجميع واستراحوا، فلن يؤذي أحدٌ أحداً، ولن تُسرق سيارة، ولن يُتلف زرع، وستختفي المكائد والخيانات ويكره الناس الكذب والفجور، هذا بحد ذاته يجعل المجتمع مثاليا، ناهيك لو عمت المواساة وساد البِر وعاملْنا الجميع معاملة ذوي القربى، إذن لتحققت الجنة في الدنيا قبل الآخرة.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال:

«مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ» (4)

 فالحكمة من أمر النبيّ لنا بالتحميد في العشر الأُوَل أننا يجب أن نحمده سبحانه أن وهبنا فرصة التوبة والندم وإحراز التقدم بأن أعاد علينا هذا الشهر مرةً أخرى وكأنه هدية، فهو لذلك يستحق التحميد، والتهليل هو قول: «لا إله إلا الله، وهو بمثابة إعلان التبرؤ من كل شرك خفيٍّ سبق، يقولها العبد بكل يقين حينما يشعر أن هذا الإله وحده هو الذي يستحق العبادة، لأنه يهيئ لعباده الفرصة تلو الفرصة ويعيد عليهم رمضان تلو رمضان ليقلعوا عن سبيل الغي، ويتوب عليهم فيما مضى دون الحاجة إلى فداء ولا كفارة ولا إراقة دماء، ثم التكبير، لأنه حينئذ يشعر أن الله وحده أكبر من كل الآلهة التي تُعبد في العالم، لأن واحدا منها لم يمنح عُبّاده مثل ذلك الشهر الذي يغسل الذنوب والخطايا ويعيد المرء طاهرا كيوم ولادته الأول، ولا إله غيره.

ولحراء علاقة وثيقة برمضان، وكل مسلم ينبغي أن يكون له حِراؤه الخاص، وخصوصاً في رمضان، أسوة بالنبي ، حيث خصص لنفسه مكانا للعبادة والمناجاة، كذلك كان يفعل المسيح الموعود ، فقد كان لديه حجرة مخصوصة للدعاء، تسمى «بيت الدعاء» والمسلم في أول أيام رمضان عليه أن يعلن: أقر الذهاب إلى غار حراء ليتنزل عليّ فيه القرآن في آخر الشهر كما تنزّل على الرسول ، ليس قرآنا جديدا والعياذ بالله، بل القرآن نفسه الذي نزل على محمد ، يُنزل الله عليه فهمه وسيلَ معانيه المتجددة التي لم يدركها غيره من الذين سحقتهم الدنيا في إغراءاتها وملذاتها، فالتكبير والتهليل والتحميد في الأيام العشرة الأولى هي التي تصل بنا في العشر الوسطى إلى حالة المغفرة، لذلك فإن أوسطه مغفرة، فما دام الإنسان يخطو إلى الله بمحاولات دؤوبة منه لمحو آثار ذنوبه هرول الله إليه ومحاها عنه جميعا وغفر له، وهذا لا يتم بالتكاسل والتهاون، بل لابد من المكابدة والكدح وتورم القدمين من طول القيام والركوع والسجود حتى تحلو الخلوة، وكلما أزلنا عن أنفسنا  ركام الذنوب والغفلة والخطايا كلما استنرنا وانكشف علينا ما لم يكن ينكشف في الماضي.

لقد وعد الله بالمغفرة في العشر الوسطى لأن الإنسان ينشط في البداية ثم يدب إليه الكسل، فوعده الله بالمغفرة بمعنى أنه سيساعده على محو كسله لو أبدى استعداده لمواصلة العمل،  بمعنى أن الله يغفر لمن أتم صوم العشر الأوائل بمعنى أنه يقوي ضعفه ويكمل نقصه ما دام قد أبدى مظاهر الاستعداد للطاعة والصيام على أكمل وجه، وتكميل النقص أحد معاني المغفرة، ويغفر له أيضا بمعنى أنه سامحه فيما مضى، ويدرك الإنسان أنه بامتناعه عن اللذيذ ينال الألذ، فيهيم بالصيام ويكره النهم.

 لقد ذُكر الأمر بالتكبير في القرآن الكريم مع الحج والصلاة والصيام، وذلك كله توضيح لمعنى قوله تعالى «وكبره تكبيرا»، وكأن الله يعلمنا أن من أراد أن يثبت بالفعل لا بالقول أن الله كبير في عينيه حقا فليحج حقَّ الحج، وليصلِّ حق الصلاة، وليصم حق الصيام، فمن صام حق الصيام فقد كبّر اللهَ، أي عظّمه وأظهر حبَّه وخشيتَه باتباع أوامره لأنه يراه في عينيه كبيراً طاعته واجبة، وكلما كان شأن الملك عظيما في قلوب رعيته كلما وضعوا تعاليمه أمام أعينهم

في رمضان تسنح الفرصة أن يتذوق الإنسان معنى الفناء، الذي إذا تمكن من الإنسان فإنه يفضل الموت على ترك العبادة، وبالتالي يتوجه إلى تمكين الآخرين للوصول إلى ما هو فيه  كلون من ألوان مواساة الإنسانية، والأخذ بيد أخيك إلى حيث وجدتَ السعادة، ولا يتوقف الشعور بالانتشاء عنده، بل يشتاق إلى أن يجعل العالم كله يشعر بما يشعر به هو.

وإذا كان شهر رمضان أفضل الشهور، فإن العشر الأواخر أفضل أيامه، وبذلك تكون العشر الأواخر من رمضان أفضل أيام العام كله، وإذا كانت العشر الأوائل أفضل الأيام فإن ليلة القدر أفضل من سائر العشر، بل قال الله عنها أنها خيرٌ ليس من العشرة أيام الأخيرة من رمضان فحسب بل خيرٌ من ألف شهر.

ومن البديهي أن الإنسان بعدما يُغفر له في العشر الوسطى التي هي أيام مغفرة كما ورد بالحديث أن يكون الله قد سامحه في كل ما فات، وعوض نقصه وقوى ضعفه، وبالتالي نال من الصالحات ما نال، وأصبح بلا ذنب ولا جريرة، فيعتق من النار لأنه لم يعد هناك أي مبرر لدخوله فيها، ولذلك سمى الله هذه الأيام العشرة أيام العتق من النار.

كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهد في غيره،

“روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ِإذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ.”(5)

أما ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؟ فيها يفرق كل أمر حكيم، وهي خير من ألف شهر، لذلك قال الرسول : التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، لذلك فإنه كان يعتكف فيها دائمًا، فهو خير من يعرف أفضالها، وكأنها بمثابة الجائزة.

ولا تظننّ أن ليلة القدر كانت ليلة ذات زمن سحيق ثم انقطعت، بل هي دائمة غير منقطعة، فيها تتنزل الملائكة وعلى رأسهم جبريل ملك الوحي كلما كانت الحاجة ملحّة، والوقت يقتضي ليلة قدر، فإنها تمثّل قربا خاصًا، وإذا حرصت عليها وعملت أعمالَها فإنك تحظى بنزول الملائكة مع بشائر ربانية ومعاني جديدة للآيات القرآنية.

لقد ذُكر الأمر بالتكبير في القرآن الكريم مع الحج والصلاة والصيام، وذلك كله توضيح لمعنى قوله تعالى «وكبره تكبيرا»، وكأن الله يعلمنا أن من أراد أن يثبت بالفعل لا بالقول أن الله كبير في عينيه حقا فليحج حقَّ الحج، وليصلِّ حق الصلاة، وليصم حق الصيام، فمن صام حق الصيام فقد كبّر اللهَ، أي عظّمه وأظهر حبَّه وخشيتَه باتباع أوامره لأنه يراه في عينيه كبيراً طاعته واجبة، وكلما كان شأن الملك عظيما في قلوب رعيته كلما وضعوا تعاليمه أمام أعينهم ولم يخالفوها أبدا، هكذا يكون تكبير الله، ونحن نكبِّر بعد ذبح الأضحية كإشارة للفرحة بذبح النفس الأمارة، وأننا بذلك نعلن بوسيلة عملية أن الله كبير واجب الطاعة، وقد ذبحنا أنفسنا لإرضائه مقدمين حبَّه على كل ما عداه، وكان ذبح تلك الأضحية إشارة محسوسة إلى ذلك الأمر الخفيّ.

الهوامش:

  1. (البقرة 184)
  2. (صحيح البخاري، كتاب اللباس)
  3. (سنن النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه)
  4. (مسند أحمد، كتاب مسند المكثرين من الصحابة)
  5. (صحيح البخاري, كتاب التراويح)
Share via
تابعونا على الفايس بوك