رمضان تذكرة للإنسان

رمضان تذكرة للإنسان

التحرير

  • فما الدلالة الروحانية لفرضية صيامنا كفرضيته على الأمم قبلنا؟
  • وما الدلالة الروحانية لإتباع صيامنا بالفطر؟

___

إن أيام الدهر في ذاتها متماثلةٌ، ولا يمتاز بعضها على سائرها إلا بما يعود فيها من خير أو تزامنا مع أحداث عظيمة وقعت فيها، ولله در الشاعر إذ قال:

وما فاقت الأيامُ أخرى بنفسها

ولكنَّ أيامَ الملاحِ ملاحُ (1)

وفيما يخص شهر رمضان حصرًا، فإن فضائله ومزاياه على سائر شهور العام أكثر من أن يُعرَض تفصيلها في هذه السطور، والأمة عن بكرة أبيها تحفظ تلك الفضائل عن ظهر قلب. ومع حلول الشهر الفضيل، تحل على الذهن حال من التعمق في معنى ذلك الركن الركين من أركان الدين، ألا وهو الصيام، والحق أن إدراك معنى الصيام لن يتأتى بصورة كاملة إلا بفهم فلسفة نقيضه المادي، وهو الطعام..

والطعام كان وسيظل أول الأشياء التي يقض نقصها مضاجع الناس في هذا العالم، وبما أن الله عز وجل هو الأعلم بالفطرة الإنسانية وما يقلقها وما يطمئنها، فقد جاءت الطمأنة الإلهية لنوع الإنسان في حقبة مبكرة، مشيرة إلى توفر الحد الأدنى اللازم للبقاء والعيش الكريم، بما يشبع الحاجات الأربع الأساسية اللازمة لوجود الحياة في أية بيئة من البيئات، وتلك الحاجات الأربع هي: الطعام والماء والملبس والمسكن، يقول تعالى مخاطبا الإنسان الأول:

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (2).

كذلك كان الغذاء في ترتيب الأولويات هو الحاجة الأولى بالإشباع، حتى من الحاجة إلى الأمن، حيث إن نقص الغذاء وما يترتب عليه من حال الجوع في أي مجتمع يؤدي إلى فقدان الأمن وشيوع الخوف، ولهذا يشير الامتنان الرباني إلى نعمة الإطعام من الجوع أولا، ثم المؤامنة من الخوف ثانيا، يقول تعالى في سورة قريش:

فَلْيَعْبُدوا رَبَّ هَذا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (3)

ولقد مثلت الحاجة إلى الغذاء أحد الفوارق المميزة بين الخالق والمخلوق، والتي باستطاعة الإنسان المتفكر اكتشافها بكل سهولة، فما إن تطرأ على المرء حال الجوع حتى يدرك مدى عجزه واحتياجه إلى الطعام، وكلما ازدادت وطأة الجوع اضطر المرء إلى تقبل أحقر أنواع الأطعمة وأبخسها قيمة، إبقاءً على رمق حياته. الحق أن وراء هذا المشهد حكمة بالغة مفادها أن الحاجة إلى الغذاء تثبت ضعف المحتاج، وبالتالي فأنى له أن يدَّعيَ قُدرة، ناهيك أن يُدْعى إلها؟! ولهذا السبب نفسه نجد في القرآن المجيد دليلا عظيما، على بساطته، ينفي ألوهية كل من دُعِيَ إلها من دون الله الحق سبحانه وتعالى، في تفنيد واضح لمزاعم ألوهية المسيح بن مريم وأمه (عليهما السلام)، ذلك الدليل هو: أنى للمسيح الناصري أو أمه أن يكونا إلهين مع حاجتهما الدائمة إلى الطعام؟! تلك الحاجة التي ربما اضطرتهما في بعض الأحيان إلى تناول طعام زهيد القيمة. أفلا يدرك كل متفكر عجز من يلجأ لبقائه إلى ما هو أدنى منه قيمة؟! وهذه حال جميع المخلوقات على إطلاقها بلا استثناء..

بقي أن نتفكر في الدلالة الروحانية لإتباع صيام الأمة بالفطر.. إننا إذن نصوم ساعات أربع عشرة في المتوسط كل يوم، عسى أن تلتفت عقولنا إلى تلك السنة الربانية الجارية في الكون، وهي أن الأمم تجوع روحانيا كما يجوع الفرد ماديا

لقد ورد فعل الأكل في القرآن المجيد خمس مرات في معرض التمييز بين مقامي الألوهية والعبودية، منها، توخيا للاختصار، قوله عز وجل:

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4).

بقي أن نتفكر في الدلالة الروحانية لإتباع صيام الأمة بالفطر.. إننا إذن نصوم ساعات أربع عشرة في المتوسط كل يوم، عسى أن تلتفت عقولنا إلى تلك السنة الربانية الجارية في الكون، وهي أن الأمم تجوع روحانيا كما يجوع الفرد ماديا، فعندما يقول الله جل وعلا شأنه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (5)،

فعلينا إذن أن نفتش عن كيفية صيام من كانوا قبلنا! ولا أظن أننا سنحصل على جواب شاف إذا ما بحثنا عن عدد ساعات صومهم وأي الشهور صاموا، ولكن حتما سنصل إلى نتيجة مبهرة إذا ما علمنا أنهم صاموا عن المبيقات مدة أربعة عشر قرنا منذ طلوع شمسهم إلى بزوغ بدرهم.. المسألة الآن أكثر وضوحا على ما يبدو، فهلا كنا من المتقين تنفيذا لوصية النبي الخاتم وتحقيقا لمقاصد ذلك الصيام؟!

فهذا الشهر الكريم فرصة سانحة نستعيد فيها تضرعاتنا بين يدي الله الفرد الصمد، ولا يغيبن عن البال أن الشهر الفضيل  يوفر لنا معسكرا تدريبيا روحانيا مكثفا لذلك عزيزي القارئ ستتراءى لك في مواد هذا العدد صلة مواضيعها الوطيدة بالصيام، حيث يُعلمنا خليفة الوقت (أيده الله تعالى بنصره العزيز) كَيْفَ يُسْتَجَابُ دُعَاؤُنَا ونَحْظَى بِاللذَّةِ فِي عِبَادَتِنَا! هذا بالإضافة إلى عدد من المقالات والخواطر ذات الصلة، ندعو الله تعالى أن يوفقنا لصيام رمضان إيمانا واحتسابا، وتحصيل البركات الروحانية والمادية، آمين.

الهوامش:

  1. محمد الخضر حسين، موسوعة الأعمال الكاملة، ج10، ص 141، دار النوادر، سوريا، ط1، 1431هـ
  2. (طه: 118-120)
  3. (قريش: 4-5)
  4. (المائدة: 76)
  5. (البقرة: 184)
Share via
تابعونا على الفايس بوك