كيف يستجاب دعاؤنا ونحظى باللذة في عبادتنا؟!

كيف يستجاب دعاؤنا ونحظى باللذة في عبادتنا؟!

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • فما آداب الدعاء التي تضمنتها سورة الفاتحة؟
  • وكيف تنشأ لنا اللذة في صلاتنا؟
  • وهل يقتصر اللذة في العبادة على الروحانيات وحسب؟أم تشمل لذة مادية أيضا؟
  • ولماذا على الرغم من التدين الظاهري يقع الكثيرون في شرك الإلحاد؟

___

خطبة الجمعة التي ألقاها أمير المؤمنين

 سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي بتاريخ 16/12/2022م

 في المسجد المبارك، إسلام آباد ببريطانيا

تنويه: العنوان الرئيسي والعناوين الجانبية من اضافة أسرة التقوى

بعد التعوذ والتشهد وتلاوة سورة الفاتحة استهل حضرته الخطبة قائلا:

يسأل الناس كثيرا عن الدعاء، وفي هذه الأيام خاصة تُثار أسئلة عن الله تعالى وعن الدعاء، بينما حماة الإلحاد يتهجمون على الله وعلى الدين أشد التهجُّم بشكل مدروس ومخطط، وتُبذَل الجهود لإبعاد الإنسان عن الله والدين بشتى الطرق، ويسعى الشيطان في زي الإخلاص والنصح لإقصاء العبد عن الدين وعن الله تعالى. في مثل هذا الوضع تؤثر هذه الأفكار الشيطانية على الأحمديين أيضا في بعض الأماكن أحيانا، أو أنَّ أقوال أهل الدنيا وأعداءِ الدين تُحدث فيهم قلقا واضطرابا، فتلهيهم عن الدين وعن عبادة الله تعالى، وتنشأ شبهات في قلوب قليلي العلم. إذا تعرض ضعيفو الإيمان وقليلو العلم لابتلاءٍ أو واجهوا فشلا، خطر ببالهم فورا أن الدين الذي اعتنقوه خاطئ والحقيقة ليست فيه، أو لا يتقبل الله تعالى الأدعية رحمة منه ولا يخرج من الابتلاء والامتحان أو أن الله تعالى ظلمهم -والعياذ بالله- بحيث يمرون بهذا الابتلاء ولا تزول عنهم دواعي القلق بالرغم من الأدعية. باختصار، تنشأ كثير من مثل هذه الأسئلة بين حين وآخر في أذهان أولئك الناس الذين تقتصر أنظارهم على الماديات فقط. بعض الناس يكتبون إلي أيضا ويطرحون أسئلة بعد بيان ظروفهم مما يتبين أنهم لا يؤمنون بالله كما يجب، والمحيط الذي يعيشون فيه يمكن أن يتسبب لهم في ابتلاءات صغيرة وأفكار سلبية، أو يُثير شبهات مع أنه ينبغي أن يتأملوا في حالهم وينظروا إلى أي مدى يسعون لأداء حقوق الله تعالى ولتحسين عباداتهم ولأي مدى رفعوا مستوى أدعيتهم وما هي حال إيمانهم بالله تعالى؟

باختصار، سأتناول اليوم موضوع الدعاء في ضوء أقوال المسيح الموعود . ونجد في أقواله وكتاباته أمورا كثيرة عن هذا الموضوع. وسأبيّن منها بعض الأمور التي قد توضّح، بل توضح يقينا، حقيقة الدعاء، وآدابه، وضرورته، ومسؤوليتنا، والإيقان بالله تعالى.

ضرورة الدعاء في السرَّاء لإحراز الاستجابة في الضرَّاء

قال المسيح الموعود وهو يوجهنا إلى ضرورة الاهتمام بالعبادة والدعاء في الظروف الحسنة لكي تُستجاب أدعيتنا في المصائب أيضا:

«إن الله يرحم ذلك الشخص الذي يخشى الله تعالى في حالة الأمن كخشيته عند حلول المصيبة به. الذي لا ينسى الله تعالى في حالة الأمن لا ينساه الله وقت المصيبة، أما الذي يعيش وقت الأمن غافلاً وحين تحل به الشدائد ينصرف إلى الدعاء فلا تُجاب أدعيتُه. فحين ينزل العذاب الإلهي يغلق باب التوبة، فما أسعده مَن ينشغل في الدعاء قبل نزول العذاب الإلهي، ويُخرج الصدقات، ويعظّم الأوامر الإلهية ويُشفق على خلْق الله، ويُحسن أعماله، فهذه هي أمارات السعادة، فالشجرة تُعرف بثمارها وكذلك تسهل معرفة السعيد والشقي أيضا.»

فمن واجب المؤمن الحقيقي ألا ينسى حقوق الله وحقوق خلقه في الظروف الحسنة، وإذا كان يؤديها أخرجه الله بنفسه من زمن المصائب واستجاب أدعيته. هذه نصيحة أساسية بألا نتكاسل في العبادة والدعاء أبدا، وألا يجعلنا الانشغال بالأمور الدنيوية غافلين عن أداء حقوق الله تعالى.

سورة الفاتحة وآداب الدعاء

يقول المسيح الموعود وهو يبين كيف يجب أن تكون حال المرء حين دعاء الله تعالى، وما هي آداب الدعاء وكيف علّمنا الله تعالى بنفسه هذه الآداب:

«لا بد من مراعاة مقتضى الأدب عند الطلب من الله تعالى. عندما يسأل العاقلون شيئا الملــكَ يراعون الأدب دائما لذلك علّم الله تعالى في سورة الفاتحة أسلوب السؤال. وبيّن فيها: «الحمد لله رب العالمين» (أي يجب أن تحمدوا الله تعالى أولا) الذي هو الرحمن أي الذي يعطي دون سؤال، وهو الرحيم أي يثمر مساعي الإنسان الصادقة بثمرات حسنة،» (عبارة «المساعي الصادقة» هذه جديرة بالانتباه، فالله تعالى رحيم يعطي ثمار الجهود الصادقة، فما هي مقتضيات الجهود الصادقة؟ قد بيّنها الله تعالى بنفسه، وهي أن نجاهد في سبيل الله حق جهاده.) ثم قال :

«وهو مالك يوم الدين، أي بيده الجزاء والعقاب ويحيي من يشاء ويميت من يشاء. وبيده الجزاء في الدنيا والآخرة. (ليس جزاء الآخرة فحسب بل الأعمال التي نقوم بها في هذه الدنيا نتائجها أيضا بيد الله تعالى) قال : عندما يثني الإنسان على هذا النحو يخطر بباله ما أعظيم ذلك الإله الذي هو «الرب» و«الرحمن» و«الرحيم» الذي ظل يؤمن به غيبًا. أما الآن فيدعوه إيمانا منه أنه حاضر ومشهود أمامه، فيقول:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

(أي نعبد أو نريد أن نعبد ولذلك نستعين بك) ثم يقول:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

(أي الصراط الذي لا عوج فيه) هناك صراط العميان فيكادون يهلكون بكثرة المساعي والجهود ولكنها لا تسفر عن نتيجة، وهناك صراط آخر إذا اجتهد أحد بحسبه أسفر عن النتيجة. ثم يقول:

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

وهو الصراط المستقيم الذي إذا سلكه الإنسان حظي بالإنعامات. ثم يقول:

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

أي ليس صراط الذين حل بهم غضبك ولا صراط الذين ضلوا الطريق.

المراد من:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

هو صراط الأمور الدينية والدنيوية كلها. فمثلا عندما يعالج الطبيبُ أحدا لا يقدر عليه ما لم يهتد إلى الصراط المستقيم. كذلك عندما يهتدي المحامون وغيرهم من أصحاب المهن والعلوم المختلفة إلى الصراط المستقيم تسهل عليهم أمورهم. (لذا ينبغي أن نبحث عن الصراط المستقيم في الأمور الدنيوية أيضا، ولا يمكن ذلك ما لم تكن علاقتنا بالله قوية، وفي المجلس الذي ألقى فيه المسيح الموعود هذا البيان) أثار فيه أحد الناس اعتراضا وقال: هذا الدعاء لعامة الناس، فما حاجة الأنبياء إلى هذا الدعاء؟! (ظنا منه أن هذا الدعاء لعامة الناس فما حاجة الأنبياء إليه! لأنهم يكونون على الصراط المستقيم سلفا، ولماذا كان النبي يدعو بهذا الدعاء؟) فقال المسيح الموعود : «إن الأنبياء يدعون بهذا الدعاء للترقي في المراتب والدرجات، بل المؤمنون أيضا سيدعون في الآخرة:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

فكما أنه لا حدود لله كذلك ليس للتقدم في الدرجات والمراتب عنده من حدود أيضا.» (جريدة بدر، 13/2/1903)

«إن الله يرحم ذلك الشخص الذي يخشى الله تعالى في حالة الأمن كخشيته عند حلول المصيبة به. الذي لا ينسى الله تعالى في حالة الأمن لا ينساه الله وقت المصيبة، أما الذي يعيش وقت الأمن غافلاً وحين تحل به الشدائد ينصرف إلى الدعاء فلا تُجاب أدعيتُه. فحين ينزل العذاب الإلهي يغلق باب التوبة، فما أسعده مَن ينشغل في الدعاء قبل نزول العذاب الإلهي، ويُخرج الصدقات، ويعظّم الأوامر الإلهية ويُشفق على خلْق الله، ويُحسن أعماله، فهذه هي أمارات السعادة، فالشجرة تُعرف بثمارها وكذلك تسهل معرفة السعيد والشقي أيضا.»

فهذه هي الآداب التي لو راعاها المرء عند الصلاة والدعاء لملأ قلبَه شعور بالقرب من الله تعالى ولأدرك أسلوب بيان حاجاته أمام الله تعالى بوجه صحيح. ثم يخبرنا المسيح الموعود مزيدا عن آداب الدعاء فقال:

«الدعاء شيء عجيب، ولكن من المؤسف أنه لا يعرف آدابه أناس يطلبون الدعاء من الآخرين ولا يعرف الداعون المعاصرون أيضا شروط إجابة الدعاء، بل الحق أنهم يجهلون حقيقة الدعاء كليا. هناك بعض ممن ينكرون الدعاء كليا وهناك آخرون لا ينكرونه، ولكن صارت حالتهم بحيث لا يجاب دعاؤهم بسبب جهلهم آدابه لأنه لا يكون دعاءً بمعناه الحقيقي. (لأن المعنى الحقيقي للدعاء لا يتحقق في دعائهم فلا يُستجاب) فهم في حالة أدنى من منكري الدعاء، وإن حالتهم العملية قد أوصلت الآخرين قريبا من الإلحاد. الأهم في موضوع الدعاء ألا يتعب الداعي ولا يقنط ولا يسيء الظن بالله تعالى أنه قد لا يحدث الآن شيء. فلقد لوحظ في بعض الأحيان أن الدعاء حين بلغ درجة تكاد زهرة المراد فيها تنفتح، حينها ملّ الداعي فكانت النتيجة الفشل والخيبة، وأثّرت هذه الخيبة فيه سلبا حتى بدأ ينكر تأثير الدعاء ثم يبلغ شيئا فشيئا درجةً ينكر وجود الله تعالى ويغلبه الإلحاد، ويقول إذا كان هناك إله يقبل الأدعية فلماذا لم تستجب هذه الأدعية التي رفعناها في كل هذه الفترة الطويلة؟ ولكن الذي يفكر هكذا ويزِل لو تأمل في عدم مثابرته وتلوُّنه لعلم أن كل هذه الخيبة نتيجة لاستعجاله. (يتغير الإنسان كل يوم ولا يثبت على شيء ويستعجل فهذه أخطاء الإنسان نفسه، لو كان مداوما ومثابرا غير مستعجل وقويا في إيمانه لما طرأت عليه هذه الحالة، فإذا لم يُقبل دعاؤه فهو نتيجة استعجاله) قال : «ولذلك أساء الظن بقوى الله وقدراته وازداد يأسا مُخيبا. لذا يجب ألا يمل أبدا.» (الملفوظات ج 4)

لقد حث على الصبر على الدعاء بضرب الأمثلة المادية، فقال: إن مثل الدعاء كمثل أن يخرج الفلاح إلى حقله ويبذر البذرة فيه. إنه قد دفن في الظاهر حبة لا بأس بها في التراب، وما يدري أحد أن هذه الحبة ستنمو وتصير شجرة جميلة وتحمل الثمر. لا يستطيع الناس ولا الفلاح أن يرى كيف تتحول تلك الحبة في بطن الأرض إلى نبات. ولكن الأمر الواقع أنها تتحول في الخفاء إلى نبتٍ ينمو باستمرار حتى يُخْرِج شطأَه. ومن خواص البذرة أنها تُخرج أولاً جذورها التي تترسخ في الأرض، ثم تُخرج شطأها وبراعمها التي يراها الناس عيانا. فترون كيف أن الحبة منذ إلقائها في الأرض كانت قد بدأت تستعدّ لتكون شجرة، ولكن العين التي ترى الظاهر فقط لم تر ذلك، وعندما خرجت تلك الحبة بصورة نبات رآها الجميع، ولكن ليس بوسع طفل غِرٍّ أن يفهم أنها ستحمل الثمار في أوانها. (لقد خرج النبات ولكن مرحلة الإثمار باقية، ولكن الطفل الصغير سيظن -بسبب كونها صغيرة- أنها لا تحمل الثمر) إنه يقول لماذا لا تحمل هذه النبتة الثمر حالا، أما الفلاح العاقل فيعلم جيدا موعد إثمارها، فيحفظها ويعتني بها صابرا حتى يحين وقت ثمارها التي تستوي في حينها. هكذا الدعاء بالمثل، فهو ينمو ويكبر ويحمل ثمره على شاكلة البذرة. المستعجلون يملّون ويسأمون قبل الأوان، ولكن الصابرين الناظرين إلى المآل لا يبرحون الدعاء. (أي أن الذين ينظرون بعيدا وينتظرون النتيجة بصبر فإنهم يظلون منهمكين في عملهم وعاكفين على الدعاء فينالون غايتهم في النهاية.)

تحقق إجابة الدعاء واكتمال خلق الإنسان

إن المسيح الموعود يتحدث عن مستوى الصبر المطلوب من الداعي، فقال: الحق أن للدعاء مراحل ومراتب عظيمة يحرم منها الداعون بسبب جهلهم بها. إنهم يستعجلون ويفقدون الصبر، مع أن أفعال الله تعالى فيها تدريج. فترون أن من المحال أن يتزوج أحد اليوم ويولد له الولد غدا. إن الله تعالى قادر على أن يفعل ما يشاء، ولكن القانون والنظام اللذين وضعهما لا بد أن يعملا عملهما.

لا يظهر من الحمل شيء في البداية مثل النباتات. (يقول حضرته كما أن نماء النباتات لا يكون ملحوظا في البداية، كذلك هي حال خلق الإنسان وأي حيوان آخر، فحضرته يضرب الآن مثال خلق الإنسان ويقول) لا يعرف شيء يقيني حتى أربعة أشهر من الحمل، ثم بعدها يكون هناك إحساس بالحركة، وبعد انقضاء المدة الكاملة يولد الولد بعد كثير من العناء والأذى. (اليوم أيضا لا يخبر الأطباء شيئًا عن الجنين إلا بعد اثني عشر أسبوعا وبعد إجراء التصوير، فرغم هذا التقدم التكنولوجي لا يقدر الأطباء أيضا أن يعرفوا شيئا عن الجنين على وجه صحيح إلا بالتصوير وبعد مرور اثني عشر أسبوعا من الحمل، وهذه التكنولوجيا لم تكن متقدمة إلى هذه الدرجة في الوقت الذي قال فيه حضرته هذا الكلام، ومع ذلك قد قدم حضرته هذا الشرح للقانون الإلهي بهذا الصدد. ثم قال : «عند ولادة الولد تولد أمه أيضا من جديد». (أي أن المولود لا يولد هكذا بدون عناء وجهد، بل إن أمه هي أيضا تولد عندها من جديد). ربما ليس بمقدور الرجال أن يقدروا حجم المعاناة والجهد وصبر المرأة خلال مدة الحمل، والواقع أنها تولد ولادةً جديدة عند وضعها لوليدها. فكِّروا الآن كيف تقبل الأم من أجل الولد موتها أولا، وبعدها تتيسر لها هذه الفرحة. وبالمثل لا بد للداعي أن يترك التلون والعجلة ويصبر على كل نوع من الأذى، ولا يستعجل، ويتحمل الأذى، ويظل عاكفا على الدعاء، ولا يتوهمنّ أبدا أن الدعاء لا يحظى بالقبول، كلا بل سيأتي الموعد المقدر في الأخير ويحين أوان ظهور نتيجة الدعاء، ويولد ولدُ الأمر المقصود. لا بد أن يبلغ الداعي بدعائه إلى الحد الذي يكون فيه الدعاء مثمرا. (أي يجب أن يوصل دعاءه إلى مستوى معين) وكما أن الثوب حين يوضع تحت الزجاجة المركِّزة للأشعة، وترتكز أشعة الشمس في نقطة معينة، وتبلغ شدة حرارتها بحيث تحرق الثوب، فإذا بالثوب يشتعل فجأة، وبالمثل لا بد أن يبلغ الدعاء حدا تكتسب فيه القوة التي بها يحرِق المعاصي ويحقِّق الأمر المنشود. (فكل داع حين يفحص نفسه يعرف ما إذا بلغ دعاؤه هذا المعيار أم لا؟ ثم يبين هذا الموضوع بذكر شطر بيت بالفارسية معناه): «الثابت من النداء أنك عالي الحضرة جدا». (أي أن الله تعالى عالي الحضرة جدا)

كيف يقع البعض في شَرَكِ الإلحاد؟!

قال : «على المرء أن يواصل الدعاء لمدة طويلة، وسيظهر الله نتيجة دعائه أخيرا. لقد رأيت بخبرتي، وتشهد على ذلك خبرة الصالحين السابقين أيضا، أنه إذا طال الصمت في أمر طويلا كان هناك أمل للنجاح. (أي يكون هناك أمل بأنه يوفق لمزيد من الدعاء) فإن الله تعالى سيكتب له النجاح، أما الأمر الذي جاء فيه الجواب بالنفي عاجلا فلا يكتب فيه النجاح». وقال : «نرى في الدنيا عموما أن السائل إذا ذهب إلى باب، وسأل صاحب البيت باضطراب وتواضع شديدين، ولم يتحرك من مكانه رغم تعرضه للزجر بعض الوقت، (أي أن صاحب البيت ينهر السائل ويزجره ومع ذلك لا يتحرك من مكانه ويلح في السؤال) فإن صاحب البيت يشعر بالخجل، ويعطيه شيئا ما مهما كان بخيلا. أليس حريا بالداعي أن يكون مثابرا بقدر مثابرة السائل العادي؟ إن الله كريم وحيي، عندما يرى أن عبده العاجزَ المتواضعَ ساجدٌ على أعتابه منذ مدة طويلة، فلا يخيب رجاءه أبدا. لو أن الحامل قالت بعد أربعة أو خمسة أشهر لماذا لا ألد الولد، وتناولت دواء مجهضا للحمل، فهل سيولد لها الولد؟ كلا، بل ستُضَيِّع جنينها، أو ستصاب بحالة من اليأس والقنوط. وبالمثل فإن الداعي الذي يستعجل قبل الأوان فإنه يتضرر حتما، وليس ذلك فحسب بل يصاب إيمانه بصدمة، والبعض يقعون فريسة الإلحاد في هذه الحال.

ثم قال :

«كان في قريتنا نجار، مرضت زوجته وماتت في النهاية، فقال لو كان هناك إله لقَبِلَ الأدعية الكثيرة التي دعوت بها، ولما ماتت زوجتي، فكان مآله أن وَقَعَ في شَرَكِ الإلحاد.

وقال :

«لو أن السعيد عمل بالصدق والإخلاص لازداد إيمانا وتحقق له كل شيء. ليست ثروات الأرض أمام الله تعالى شيئا، إنه قادر على أن يفعل كل شيء في لمح البصر».

وقال :

«ألم تروا كيف جعل من هذه الأمة -التي لم يكن يعرفها أحد- ملوكا. ماذا كانت العرب سوى البدو؟ ولكنهم حكموا العالم، وجعل الله دولا عظيمة تابعةً لهم، وجعل العبيد ملوكا. لو أن الإنسان تحلى بالتقوى، وصار لله تعالى، لعاش عيشة سامية، شريطة أن يكون صادقا وذا مروءة وشجاعة، وصاحب قلب لا يتزعزع، وبريئا من شوائب الرياء والشرك.  ماذا كان في إبراهيم حتى سُمّي أبا الملة وأبا الحنفاء، وآتاه الله البركات العظيمة التي تخرج عن حد الإحصاء؟ كان فيه الصدق والإخلاص. انظروا لقد دعا إبراهيم بأن يبعث في العرب نبيا من أولاده، فهل استجيب دعاؤه على الفور؟ كلا، بل لم يخطر ببال أحد لمدة مديدة بعد إبراهيم ماذا كان تأثير دعائه هذا، ولكن دعاءه هذا تحقق في بعثة رسول الله أيما تحقق».

فكما قلت آنفا، لا ينبغي للمرء أن يدعو وقت الشدة فقط، بل عليه أن يدعو أيضا في وقت الراحة والرخاء الذي آتاه الله إياه.

كيف تنشأ اللذة في الصلاة؟

لقد بيَّن المسيح الموعود كيف تكون، وكيف يجب أن تكون، العلاقة بين الجسم والروح من أجل استجابة الدعاء فقال: «لا خير في الصلاة والصيام الظاهريين إذا كانا خاليين من الصدق والإخلاص. (أي إذا جاء المرء وصلى بدون أن تذوب روحه في الصلاة فلا فائدة من ذلك) فإن الرهبان الهندوس أيضا يقومون برياضات شاقة. من الملاحظ كثيرا أن بعضهم يثبِّتون أيديهم حيث يرفعونها ويظلون في هذه الحالة أياما حتى تيبس. يكابدون المشاق الشديدة، ويلقون أنفسهم في الشدائد والمصائب، ولكن هذا الأذى لا يهب لهم نورًا ولا سكينة ولا طمأنينة، بل تكون بواطنهم سيئة. يقومون برياضات بدنية شاقة، ولكن لا تكون لها علاقة ببواطنهم، ولا تؤثر في روحانيتهم شيئا. لا شك أنهم يقومون بالشعوذات ويمارسون شتى المشاق الظاهرة، ويجوعون أياما طويلة، ويكابدون أنواع الأذى، ولكنهم لا يقدرون على أن يقدموا نماذج الروحانية. ومن أجل ذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم

َلنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ (الحج 38).

فالحق أن الله تعالى لا يرضى بالقشر بل يريد اللب».

والسؤال هنا: إذا كانت الدماء واللحوم لا تصل إلى الله تعالى فما الحاجة إلى ذبح هذه القرابين؟! وإذا كانت الصلاة والصيام هي صلاة الروح وصوم الروح، فما الحاجة إلى هذه الأعمال الظاهرة؟!

(أي يمكن أن يصلي الإنسان ويدعو الله قاعدا، وأن يستغيث أمام الله كما كان في الأديان السابقة، فما الحاجة إلى أوضاع مختلفة في الصلاة، من القيام والركوع والسجدة؟)

فقال : «وجوابه بأنه صحيح تماما أن الذين يتخلون عن استخدام الجسم، لا تقبلهم الروحُ أيضا ولا يتولد فيها الخشوعُ والعبودية التي هي الهدف الحقيقي. أما الذين يستخدمون الجسد فقط ولا يُشركون الروحَ فهم أيضا يرتكبون خطأ كبيرا. والرهبان والمتنسكون يدخلون في القسم نفسه (فهم يستخدمون أجسامهم ولا علاقة لها بالروح). لقد أقام الله تعالى علاقة بين الروح والجسد. والجسد يؤثر في الروح. فمثلا إذا أراد أحدهم أن يتباكى بتكلف فسوف ينشأ لديه البكاء أخيرا، وكذلك الذي يتضاحك بتكلف فسوف يتولد عنده الضحك أيضا. كذلك فإن الأوضاع المختلفة التي ترِد على الجسم في الصلاة من قيام أو ركوع تتأثر بها الروح أيضا، فقدر ما يُظهر الإنسان الخشوع من الجسم يتولد الخشوع في الروح أيضا، وحيثما يتواضع الجسم تتواضع معه الروح أيضا، والله لا يحب مجرد السجود. أي إذا سجد الإنسان دون أن ترافقه الروحُ وليس فيه التواضع والخشوع فإن الله لا يحب مثل هذا السجود. فإن للسجود علاقة بالروح ولذلك فإن المقام الأخير في الصلاة هو السجود، فحين ينشأ لدى المرء منتهى الخشوع والتواضع عندها يرغب في السجود فقط، فمن الطبيعي أنه يريد إظهار التواضع المتناهي، فيركع ويسجد. إن هذه الحالة تشاهَد حتى في الحيوانات، فالكلب أيضا حين يحب مالكه يخر على قدمه، أي يسجد له إظهارا لحبه، ومن هنا يثبت جليا أن للجسم علاقة خاصة بالروح. وكذلك تؤثِّر أوضاع الروح في الجسم، فحين تحزن الروحُ يظهر أثرُه على الجسم أيضا، فتدمع العينُ وتظهر الكآبة، والآخرون أيضا يلاحظون ذلك، حيث لا يروق له الجلوس في أي مجلس، وإذا جلس سأله الناس ما الذي أصابك؟ إن لم تكن هناك علاقة بين الروح والجسم فلمَ يحدث كل هذا؟ صحيح أن مهمة القلب الدورة الدموية، ولا شك أن القلب بمنزلة المحرك لسقاية الجسم، فالقلب يعمل كمحرك لتسيير الدم، فكل شيء يحدث بقبض القلب وبسطه، أي بعمل القلب.

باختصار، إن السلسلة الروحانية والمادية تمشيان جنبا إلى جنب. فالقلب ينبسط وينقبض، فبذلك يُسيِّر النظام الجسماني، ويدور الدم في الجسم. وكذلك تمشي السلسلة الروحانية والمادية معا. عندما يتولد الخشوع في الروح يتولد في الجسم أيضا، لذا عندما يتولد التواضع والخضوع في الروح تظهر آثاره في الجسم تلقائيا، كذلك عندما يقع تأثيرٌ خاص في الجسد تتأثر به الروحُ أيضا. لذا من الضروري أنه حين تقومون في الصلاة لله أن تظهروا بوجودكم الخشوع والتواضع، وصحيح أنه نوع من النفاق بمعنى أن يُظهر المرءُ الخشوع مع أن قلبه لا يرغب في ذلك، لكنه ضروري لأن ذلك يؤثر رويدا ويتعود المرء عليه، ثم يبدأ الجسم والروح في العمل معا، ويبدأ الخشوع يتولد في الروح بشكل حقيقي، وحين تنشأ هذه الحال في الصلاة تنشأ اللذة أيضا فيها، حينها لا يتوجه المرء إلى الله من أجل منفعته بل يتوجه إلى الصلاة حبا لله وبدافع العلاقة به.

لا خير في الصلاة والصيام الظاهريين إذا كانا خاليين من الصدق والإخلاص. (أي إذا جاء المرء وصلى بدون أن تذوب روحه في الصلاة فلا فائدة من ذلك) فإن الرهبان الهندوس أيضا يقومون برياضات شاقة. من الملاحظ كثيرا أن بعضهم يثبِّتون أيديهم حيث يرفعونها ويظلون في هذه الحالة أياما حتى تيبس. يكابدون المشاق الشديدة، ويلقون أنفسهم في الشدائد والمصائب، ولكن هذا الأذى لا يهب لهم نورًا ولا سكينة ولا طمأنينة، بل تكون بواطنهم سيئة. يقومون برياضات بدنية شاقة، ولكن لا تكون لها علاقة ببواطنهم، ولا تؤثر في روحانيتهم شيئا.

ثم وضَّح حضرته الموضوع أكثر فقال: «يقول البعض إنهم لا يجدون اللذة في الصلاة، وهم لا يدرون أن الحصول على اللذة ليس من صلاحيتهم، ثم إن مستوى اللذة أيضا يختلف من شخص إلى آخر، إذ يواجه بعضهم أشد الألم لكنه يعد ذلك الألم أيضا لذة». حين كان يتكلم كانت هناك معركة في الترانسفال من أجل الاستقلال، فقال مبيِّنا الموضوع من المثال: «إن الذين يقاتلون في ترانسوال هم يموتون أيضا وتمسي النساء أرامل والأولاد يتامى، ومع ذلك فإن حميتهم القومية وحماية شعبهم تسوقهم إلى هاوية الموت بكل سرور، فهم يقدمون التضحية من أجل الشعب، والشعب أيضا في الوقت نفسه يقدر تضحيتهم وجهودهم، لأن أهدافهم موحدة، وفريق من الشعب يقدم التضحيات والثاني يشجعهم، ويقدرونهم، وإنما تُقدَّر جهودهم وتضحياتهم بسبب ما يتحملون من الأذى والألم والمعاناة من أجل تحرير بلادهم. باختصار فاللذة والراحة كلها تأتي بعد معاناة، ولذلك علَّمنا الله القاعدة إن مع العسر يسرا. فالراحة التي لم يسبقها الألمُ ليست راحة. وكذلك الذين يقولون إنهم لا يجدون متعة في الصلاة يجب أن يفكروا في أنفسهم كم من الألم والمعاناة تحملوها من أجل العبادة؟! أي حين لا يجدون اللذة فليفكروا هل تألموا من أجل العبادة. فالألم والمعاناة التي سيتحملها الإنسان هي نفسها تُستبدل باللذة. ثم قال : أنا لا أقصد من هذه الآلام أن يلقي الإنسان نفسه في مشاقّ دون مبرر، ويدَّعي أنه يتحمل آلاما لا تطاق، وإنما أقصد أن على المرء أن يسعى لأداء الصلوات على وقتها بعد أن يستعد من أجلها بتحقيق كل لوازمها. ويضحِّي بنومه وأعماله من أجل أداء الصلاة في وقتها، ويولِّد في قلبه خشيةَ الله. بعض الناس لا يريدون أن يتحملوا شخصيا أي نوع من المعاناة والمشقة ويكتفون بطلب الدعاء من الآخرين لحل مشاكلهم، وإذا سُئلوا أحيانا يقولون إنهم لا يؤدون الصلوات الخمس بانتظام». ذات يوم طلب شابٌّ من سيدنا المسيح الموعود أن يدعو لأبيه، وليكن معلوما أن طلبه الدعاءَ لم يكن من أجل مصلحة مادية بل كان من أجل الدين. فقال له المسيح الموعود : «أُدع أنت بنفسك باهتمام وتركيز، فكما يُتقبل دعاء الأب لابنه يُتقبل دعاء الابن لأبيه أيضا، وإذا دعوتَ أنت بنفسك بتركيز فسوف يؤثر دعائي أيضا، أي إذا دعوتَ شخصيا فسوف يفيدك دعائي وإلا فلا. إذن فالذين يطلبون الدعاء من غيرهم يجب أن لا يتَّكلوا على دعاء غيرهم فقط، بل يجب أن ينصرفوا شخصيا أيضا إلى الدعاء باهتمام».

يقول سيدنا المسيح الموعود أكثر عن الفوز بالمتعة في العبادة:

«تذكَّروا أن الإنسان حين يلقي نفسه في الآلام من أجل الله تاركا الأشياء التي يحبها لكن الله يكرهها وهي تنافي مشيئته، فالجسم الذي يتحمل هذه الآلام يؤثر في الروح أيضا. فقد سبق القول إنه يجب أن يتحمل المرءُ الآلام في سبيل الله، فهذه الآلام تتمثل في ترْكه ما يَكرهه الله وما ينافي مشيئته عز وجل، أي إذا شعرتم بالألم في تركه فاتركوه. فالجسم الذي يتحمل هذه الآلام يؤثر في الروح أيضا، فهي الأخرى تتأثر وتبدأ تتبدل حتى تخر على عتبة الله من تلقاء نفسها بكل خشوع. وعلى هذا المنوال إذا تحملتم الآلام لله وتخليتم عن بعض الأشياء ابتغاء مرضاته ، فهذا سيؤثر في الروح، وعندها ستخر على عتبة الله في السجدة والركوع في الصلاة، فهذا هو الطريق للفوز باللذة في العبادة. ثم قال: ربما رأيتم أن بعض الناس يظنون أن طريق الفوز باللذة في العبادة أن يُنشدوا بعض الأناشيد أو يعزفوا أدوات الطرب فكأنهم تعبَّدوا. وبعضهم يظنون أنهم إذا جلسوا في وقفات تأملية مغمضي العيون، فكأنهم تعبَّدوا. ثم قال: لا تنخدعوا بذلك، فإن هذه الأمور يمكن أن تتمتع بها النفس، أما الروح فليست لها فيها أي لذة، إذ لا ينشأ بها الخشوع في الروح، ويتلاشى الهدف الحقيقي من العبادة. فالإنسان في مجالس المومسات أيضا يجد مثل هذه المتعة فهل تعتبر تلك المتعة لذة العبادة؟ فهذا الأمر اللطيف لا تقدر على إدراكه أمم أخرى، لأنهم لم يدركوا الغاية الحقيقية من العبادة.

ثم ذكر حضرته مثال إبراهيم الذي أبدى الوفاء وألقى نفسه في الآلام من أجل الله ثم كيف عامله الله وبيَّن قائلا: الطريق للفوز بقرب الله أن يبدي الإنسان الصدق. فحين نال سيدنا إبراهيم القرب فإنما بهذا الطريق. فقال الله تعالى:

وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى

والوفاء والصدق والإخلاص لله تعالى يقتضي موتا. فما لم يُقْدِم الإنسان على القضاء على ملذات الدنيا وشوكتها كلها وما لم يستعد لقبول كل ذلة وصعوبة وضيق لوجه الله لا تنشأ هذه الصفة. ليست عبادة الأوثان مقصورة على أن يعبد الإنسان شجرا أو حجرا بل كل ما يحول دون قرب الله ويؤثَر على الله هو وثن. توجد في الإنسان أوثان كثيرة بحيث لا يدرك أنه يعبد الأوثان. فما لم يصبح لله خالصة ولا يستعد لتحمل كل مصيبة في سبيله يتعذر أن ينشأ الصدق والإخلاص. لم ينل هذا اللقب هكذا بل جاءه صوت

وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى

عندما استعد للتضحية بابنه. إن الله تعالى يريد العمل ولا يرضى إلا بالعمل، والعمل يكون مصحوبا بالألم. ولكن عندما يكون الإنسان مستعدا لتحمل المشاق لوجه الله فلا يبتليه الله بالألم أصلا. عندما أراد إبراهيم أن يضحي بابنه عملا بأمر الله تعالى وصار على استعداد تام أنقذ الله ابنه. لقد أَلقى بنفسه في النار ولكنها لم تؤثر فيه شيئا. فإذا استعد المرء لتحمل المصائب في سبيل الله فإن الله ينقذه منها…

التأثير المتبادَل بين الجسد والروح

نحن نسيطر على الجسم لا على الروح، مما لا شك فيه أن للروح علاقة مع الجسم وأن الأمور الجسدية تؤثر على الروح حتما فلا يجوز الظن بأن الجسم لا يؤثر في الروح. كل ما تصدر من الإنسان من الأعمال تكون بصورة مركبة على هذا النحو، أي تصدر بالجمع بين الروح والجسم إذ لا تعمل الروح ولا الجسم عملا حسنا أو سيئا منفصلين عن بعضهما. لذلك قد رُوعي كل ما يتعلق بكليهما بشأن الثواب والعقاب. يعترض البعض لعدم فهمهم هذا السر ويقولون إن جنة المسلمين مادية ولكنهم لا يعرفون أنه لما كان الجسم شريكا في صدور الأعمال فلماذا يُهمل عند الجزاء.

باختصار، لقد علّم الإسلام طريق الاعتدال نابذا الإفراط والتفريط لأن كليهما طريقان خطيران يجب اجتنابهما. إن تعذيب الجسم وحده لا ينفع شيئا ولا يُسفر طلب الراحة فقط عن نتيجة. (أي لا فائدة من إلقاء الجسم في المشاق ولا من الكسل وطلب الراحة فقط بل يجب التوفيق بين الروح والجسم).

وتحل الابتلاءات في زمن الدعاء أيضا. يقول المسيح الموعود ضاربا مثل قوم موسى ويبين كيف حلّت بهم ابتلاءات طويلة الأمد. فيقول: كل شيء يتحقق في زمن مناسب، والسعداء ينتظرونه. والذي لا ينتظر ويريد أن تظهر النتيجة في لمح البصر يُعَد متسرعا ولا ينال مراده. ومن الممكن عندي أن تحل الابتلاءات الأخرى في زمن الدعاء على سبيل الامتحان. فعندما جاء موسى لتحرير بني إسرائيل من أسر فرعون كان قد كلّفهم فرعون سلفا بأن يصنعوا اللَبِن لنصف يوم ويشتغلوا بأعمالهم لنصف اليوم الباقي. وعندما سعى موسى لتحريرهم زيدت مشقة بني إسرائيل أكثر من ذي قبل نتيجة شر الأشرار وأُمروا بأن يصنعوا اللَبِن لنصف يوم ويجمعوا العشب لنصف يوم. (أي كانوا يقومون بما يأمرهم فرعون ولم يجدوا وقتا لأنفسهم) عندما أُمر موسى بذلك وحكاه لبني إسرائيل استشاطوا غضبا وقالوا يا موسى عاقبك الله بما عوقبنا، ودعوا على موسى أدعية أخرى كثيرة أيضا ولكن موسى نصحهم بالصبر. لقد وردت في التوراة هذه القصة كاملة أنه كلما طمأنهم موسى ازدادوا غضبا حتى تقرر الهروب من مصر وأخذوا ما استعاروا من أهل مصر من الأقمشة والأواني. عندما خرج موسى مع قومه لاحقه فرعون وجنوده، وحين رأى بنو إسرائيل جنود فرعون على مقربة منهم قلقوا كثيرا، وقد ورد في القرآن الكريم أنهم قالوا حينذاك صارخين: «إنا لمدركون»، ولكن موسى الذي كان يرى عاقبة الأمور بعين النبوة ردّ عليهم قائلا: «كلا إن معي ربي سيهدين». لقد جاء في التوراة أنهم قالوا أيضا: ألم تكن لنا قبور في مصر؟ وكان السبب وراء هذا القلق أن فرعون كان وراءهم ونهر النيل أمامهم. (فقالوا: لو كان الموت مقدرا لنا لأمكن أن نموت في مصر ونُدفن هناك، أما الآن فقد وقعنا في مشكلة كبيرة، بحيث أمامنا النيل ووراءنا جيش سيقتلنا جميعا، فقلقوا إلى حد كبير) فكانوا يعلمون أنه لا منجى لهم في التقهقر ولا في التقدم. ولكن الله تعالى قادر ومقتدر فقد وجدوا طريقا في نهر النيل نفسه وعبره بنو إسرائيل كلهم بكل سهولة وغرق جنود فرعون. لا شك أنها كانت معجزة عظيمة إذ قد شقَّ الله تعالى طريقا لهم في الوقت المناسب تماما. وهذا ما يحدث مع كل تقيّ فينجو من كل ضيق  لقوله تعالى:

وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (الطلاق 3)

في أحيانٍ كثيرة يحل بالإنسان ابتلاءٌ تلو ابتلاءٍ ما بين الدعاء واستجابته، وفي بعض الأحيان تكون تلك الابتلاءات قاصمة للظهر، ولكن السعيد والصابر على هذه المحنِ والمصاعبِ يشتمُّ في أثنائها أيضا شذى أفضال الله تعالى، ويرى بعين الفراسة أن النصر آتٍ بعدها حتما. ومن الأسرار الكامنة في الابتلاءات أنها تدفع المرء إلى الدعاء بحماس مفرط، لأنه كلما ازداد الاضطرارُ والاضطرابُ ذابت الروح، الأمر الذي يُعَدُّ من دواعي استجابة الدعاء. (إن الرقة والتوجه إلى الدعاء دليل على أن الله تعالى يريد أن يجيب الدعاء) إذن، يجب ألا يقلق الإنسانُ أبدا ولا يسيء الظن بالله تعالى نتيجة القلق وقلة الصبر. يجب ألا يظن أحد أبدا أن دعاءه لا يستجاب، أو لن يستجاب. إن هذا النوع من الوهم يُعتبر رفضا لصفة الله «مجيب الدعوات».

والوفاء والصدق والإخلاص لله تعالى يقتضي موتا. فما لم يُقْدِم الإنسان على القضاء على ملذات الدنيا وشوكتها كلها وما لم يستعد لقبول كل ذلة وصعوبة وضيق لوجه الله لا تنشأ هذه الصفة. ليست عبادة الأوثان مقصورة على أن يعبد الإنسان شجرا أو حجرا بل كل ما يحول دون قرب الله ويؤثَر على الله هو وثن.

لو بدأ الناس يفكرون ضد وجود الله تعالى بهذه الطريقة لتقدموا إلى الإلحاد، وكما قلت آنفا إن الذين يعارضون وجود الله ويعارضون الدين في هذه الأيام يبذلون قصارى جهودهم ليغووا الناس قائلين: ماذا أعطاكم الإيمان بوجود الله، وما فائدة الدين؟ بل الدين يجعل الإنسان كسولا ویخلق في ذهن الإنسان أفكارا غير حقيقية. وفي ظل هذه الظروف يجب على كل أحمدي أن يوطد علاقته مع الله تعالى، ويجب ألا تكون علاقته هذه مؤقتة أو عند الضرورة فقط وألا يعبد الله في ظروف حالكة فقط بل يجب أن يعبد ربه في ظروف هادئة ومطمئنة أيضا وينبغي أن يحافظ على عبادته وأن يكون لديه يقين كامل بالدعاء. فهذه هي مسؤولية الأحمديين وهذا هو المراد من أداء حق البيعة.

يقول المسيح الموعود :

«ما تحتاج إليه جماعتنا هو أن يزدادوا إيمانا، ويطوّروا يقينا ومعرفة حقيقيةً بالله تعالى، وألا يتكاسلوا ولا يتهاونوا في كسب الأعمال الصالحة. وإذا كان أحد كسولاً يصعب عليه الوضوء أيضا ناهيك عن نهوضه وقيامه بالتهجّد؟ فلو لم تنشأ القدرة على الأعمال الصالحة، ولم يكن هناك حماس لاستباق الخيرات، فلا فائدة من إنشاء الصلة معي.»

إذن، يجب علينا أن نسعى جاهدين لتوطيد علاقتنا بالله تعالى بانتباه خاص. وعندما تتوطد علاقتنا بصورة حقيقية، سنرى مشاهد استجابة الدعاء أيضا، ندعو الله تعالى أن يوفقنا لذلك.

يجب أن تدعوا في هذه الأيام للأحمديين في باكستان بوجه خاص، لأن هناك محاولات جارية لخلق المشاكل لهم أكثر فأكثر. كذلك اُدعوا للأحمديين في الجزائر إذ تُخلَق لهم المشاكل أيضا مجددا في هذه الأيام. وادعوا للأحمديين الذين يواجهون المشاكل حيثما كانوا في العالم أن يحفظهم الله تعالى ويحميهم وينقذهم من كل مشكلة ويجعل الأعداء خائبين وخاسرين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك