متاع الحياة الدنيا هل يحقق لنا سعادة حقيقية؟!

متاع الحياة الدنيا هل يحقق لنا سعادة حقيقية؟!

سامح مصطفى

كاتب وشاعر
  • ما السر الكامن وراء تلك التأثيرات السلبية للسعي المفرط وراء متاع الحياة الدنيا؟
  • كيف يمكننا الحيلولة دون تأثر أنفسنا بتلك الأعراض المرضية لتلك التأثيرات؟

 ___

المادية منذ القِدَم

بداية قد يبدو من العنوان الرئيس أننا سنتطرق إلى نقاشات تراثية، لغوية أو شرعية، لا سيما مع ورود تعبير «متاع الحياة الدنيا» شائع الاستعمال في المدونات التفسيرية للقرآن الكريم ومدونة الأحاديث النبوية، غير أن الحقيقة هي أننا سنخوض غمار قضية معاصرة، بل هي من قضايا الساعة، متحدثين عن القيم المادية المتفشية في إنسانية هذا العصر، ولا نستغرب حين نعرف أن القرآن الكريم حيثما ذكر الحياة الدنيا، فإنما عنى بوضوح تلك القيم المادية، وما الحياة الدنيا إلا وصف بليغ للمادة، وسيطرة رأس المال، ومظاهر الاستهلاك، وتسليع الإنسان والمرأة، والاتجار بالمرض، إلى آخر هذه القائمة السوداء من الأمور التي تجعل من الإنسان عبدا لشهواته.. نعم، إن تعبير «الحياة الدنيا» هو وصف بليغ للقيم المادية، والتي ذكرها القرآن قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الآن، وقد تكرر ذكره في القرآن سبعا وستين مرة، نذكر منها على سبيل الاختصار قوله تعالى:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (1)،

وقوله تعالى:

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (2)،

وقوله تعالى حكاية على لسان الغارقين في المادية:

وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (3)..

 مؤشر السعادة والاكتئاب، ووسائل التواصل الافتراضي

لقد نشأت الأجيال في ظل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وللأسف، تشجع تلك المنصات المستخدمين أيضًا على مقارنة حياتهم بالآخرين، وتجذبهم نحو أسلوب حياة مفعمة بالمرح والسعي بمزيد من الحماس لتحقيق أهداف مادية.

أظهرت الدراسات أنه عندما تستمر الأهداف المادية في كونها عوامل مركزية في حياة شخص ما، فإن مستويات الاكتئاب ترتفع، وتنخفض مقابلها مستويات السعادة والصحة النفسية وحتى الصحة الجسدية تتأثر سلبًا ا(4). وفي كتابه “الثمن الباهظ للمادية”، يعرض عالم النفس الأمريكي “تيم كاسر” دراسات تشير نتائجها إلى أن ما ننظر إليه هذه الأيام على أنه ضروريات حياتية، بينما هو في حقيقة الأمر من مظاهر  الزينة، يؤدي التعلق به إلى آثار سلبية ضخمة، فيقول: “أظهرت دراساتنا الأولى أنه عندما يذكر الشباب أن النجاح المالي هو أمر أساسي نسبيًا لتطلعاتهم، فإن انخفاض مستوى الرفاهية والضيق الشديد وصعوبة التكيف مع الحياة يكون واضحًا أيضًا. على الرغم من أننا لا نستطيع التأكد من هذه النتائج فيما إذا كانت القيم المادية تسبب التعاسة، أو ما إذا كانت هناك عوامل أخرى، فإن النتائج تشير إلى نتيجة مذهلة إلى حد ما: الحلم الأمريكي له جانب مظلم، والسعي وراء الثروة والممتلكات قد يقوض رفاهيتنا”.(5) ويتابع كاسير في كتابه المذكور القول بأن الأفراد البالغين الذين ركزوا على المال والصورة والشهرة حصلو على قدر أقل من النشاط الذاتي والحيوية و قدر أكبر من الاكتئاب، أكثر من أولئك الذين هم أقل اهتمامًا بهذه القيم. علاوة على ذلك ، فقد أبلغوا أيضًا عن تجارب تفوق الأعراض الجسدية. وهذا يعني أن الأشخاص الذين اعتقدوا أنه من المهم السعي وراء الممتلكات والشهرة والمظهر الجيد أبلغوا أيضًا عن المزيد من الصداع وآلام الظهر والتهاب العضلات والتهاب الحلق أكثر من الأفراد الأقل تركيزًا على مثل هذه الأهداف. وبالنسبة لنا، فقد كان هذا حقًا أحد المؤشرات الأولى على الآثار السلبية المنتشرة للقيم المادية، والتي لا يقتصر مدى سوئها على الرفاهية النفسية للناس، بل تصبح صحتهم الجسدية أسوأ أيضًا” (6).

إن البيئة المغذية لمرض المادية في هذا العصر هي بيئة استهلاكنا وطبيعته، فنحن أمسينا نستهلك، لا بغرض أن نعيش، ونواصل الإنجاز، وإنما نمارس الاستهلاك كهواية أو كما يسمونه «التسوُّق»، وبالإنكليزية shopping، وتكمن أغلب المشكلات في الخلط بين الوسائل والغايات، كأن يتحول المال الذي هو وسيلة تيسير للإنسان إلى غاية مبتغاة في حد ذاته، أو يُنظر إلى المجاهدات على أنها غاية العبادة، في حين أنها في الحقيقة وسيلة توصلنا إلى العبادة.. بهذا نختصر المشكلة في الإعلاء من قيمة الوسائل ومن ثم تحويلها إلى غايات.. لقد حدث الأمر ذاته بالنسبة لعملية الاستهلاك الإنساني، والذي جعله الله تعالى من سنن البقاء المادي، فما لم نأكل ونشرب ونتنفس فلا سبيل لنا إلى العيش في هذا العالم، بيد أننا نلاحظ أن الإنسانية خلال الألفية الأخيرة بدأت تعاني من آفة اعتبار الوسائل غايات، فبات الاستهلاك المفرط هدفا في حد ذاته، وصرنا نرتقب كل عام مناسبات للاستهلاك الفاحش كاليوم المسمى بـ «الجمعة السوداء» في هذا اليوم تقوم أغلب المتاجر بتقديم عروض وخصومات كبيرة، حيث تفتح أبوابها في وقت مبكر جدا حتى قبيل طلوع فجر الجمعة، مما يضطر أغلب المستهلكين إلى افتراش الأرض أمام أبواب المتاجر ارتقابا لساعة الصفر، وعند الافتتاح تأخذ الجموع الغفيرة من المستهلكين في التسابق، وكلٌ يسعى للحصول على النصيب الأكبر من البضائع المخفضة الثمن، حتى لو لم يكن بحاجة إليها على الأغلب(7).

إن البيئة المغذية لمرض المادية في هذا العصر هي بيئة استهلاكنا وطبيعته، فنحن أمسينا نستهلك، لا بغرض أن نعيش، ونواصل الإنجاز، وإنما نمارس الاستهلاك كهواية أو كما يسمونه «التسوُّق»، وبالإنكليزية shopping، وتكمن أغلب المشكلات في الخلط بين الوسائل والغايات، كأن يتحول المال الذي هو وسيلة تيسير للإنسان إلى غاية مبتغاة في حد ذاته

ماذا يحدث بداخلنا عندما نحسد؟!

إن للرغبات المادية آثارًا سلبية هائلة على الأخلاق أيضا. عندما ننظر إلى الآخرين وإلى ما لديهم وما ليس لدينا يتجلى الجانب الشرير من الحالة الإنسانية ويصبح المجتمع الحديث بمثابة أرض خصبة للآفة البغيضة التي ندعوها بالحسد.. لقد حذر النبي الكريم بشكل خاص من التركيز على ثروات الآخرين ونجاحهم، بل ذكّرنا بأن نكون شاكرين لما لدينا بالفعل من خلال التفكير في أولئك الذين ليس لديهم هذه النعم. إذا لم يتم تنفيذ هذه النصيحة، فسينكشف النقاب عن الجوانب المظلمة للإنسانية. لا شك أننا سندهش حين نعلم أن نبينا الذي أوتي جوامع الكلم، قد عبَّر عن مجمل الدراسات النفسية الحديثة بعبارات موجزة، حين جعل الحسد من بين المنهيات فقال:

«…وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»(8)

الشكر عقار فعَّال

حيثما تتبعنا مرض اللهاث وراء المادية رصدنا ظاهرة النقمة على الوضع الراهن، والمرء لا ينظر إلى غيره حسدا إلا حين تخبو في قلبه جذوة شكر الله تعالى على ما رزقه. والشكر على النعم يتمثل أول ما يتمثل في استعمالها على الوجه الأمثل، فالشكر الواجب على كل امرئ يدفعه دفعا إلى ترشيد الاستهلاك في كل مجال، فالشكر إذن هو علاج وتعويذة من شيطان النهم الاستهلاكي، ومما ذكر حضرة مرزا مسرور أحمد (نصره الله) عن الشكر، أن الشكر على شيء يتضمن القناعة به، فالشاكر الحقيقي يكون قنوعا بالضرورة. لقد علَّمَنا النبي أن التحلِّي بالقناعة يُعين على الشكر كذلك. والمؤمن أكثر الناس شكرًا لله، وينبغي أن يكون كذلك، فالذين يقولون بأفواههم إننا نشكر الله، لكنهم في الوقت نفسه يلهثون وراء متاع الحياة فهُم في الحقيقة واقعون في شَرَكِ حب الشهوات، ولا يقدرون على الشكر الحقيقي(9).

إن التحديق في نجاح الآخرين أو في ثروتهم المادية، وعدم الامتنان على ما لدينا، يجلب معه الحسد والجشع والغيرة. كذلك فإن مما علَّمنا النبي أن نشكر الله على ما قسَمه لنا، لأن هناك الكثير من الناس ممن لا يملكون حتى الكماليات التي نتمتع بها. ولهذا فإن بداية كل صلاة إسلامية تبدأ بعبارة  الحمد لله» وإن كان لا محالة من الحسد، فليكن على علم ناجع أو مال نافع،  قال :

“لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَار”(10)

من خلال توخي الحذر وإدراك نوع المجتمع الذي تم تشكيله، وتقييم أفكارنا ثم التصرف بناءً على نصيحة النبي ، يمكننا كبح الشيطان الداخلي، والذي دُعينا إلى الاستعاذة منه في قوله تعالى في سورة الفلق:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (11)

إن الغرق في ثقافة المشاهير ، والكدح الأعمى من أجل الثروة المادية ومقارنة أنفسنا بحياة الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي لا يؤدي إلا إلى البؤس العقلي والجسدي والروحي. إن عدم الشعور بالامتنان لله على ما لدينا ومن ثم حسد الآخرين هو أمر ضار، يقول الله تعالى:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (12)،

وتعليقًا على هذه الآية، أشار المسيح الموعود إلى عنصرين: يجب أن نكون ممتنين على ما لدينا كما يجب أن نضمن أيضًا نشر الخير وتمنيه للآخرين. من ناحية أخرى، إذا كان أحدنا غير ممتن وتصرَّف بطريقة غير أخلاقية ووحشية تجاه الآخرين، فإن «الله سبحانه وتعالى ينتزع بركاته ويعاقبه»(13).

وفي مجتمع اليوم الذي يشكل أرضا خصبة للمادية والرغبات الدنيوية ، من الضروري لنا كمسلمين أن نرجع خطوة إلى الوراء، وأن نكون واعين ونتصرف بناءً على نصيحة الأنبياء من خلال النظر إلى أولئك الذين لا يتمتعون بالثروة أو الراحة التي نعيشها. إن مقارنة حياتنا والتحديق في راحة أو وضع أو ثروة الآخرين لن يؤدي إلا إلى الانحدار بالإنسانية إلى مستنقع الاكتئاب والجحود المظلم، ولنعمل وفق النهي الإلهي:

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (14)

الهوامش:

1. (آل عمران: 15)

2. (آل عمران: 186)

3. (الأَنعام: 30)

4. جريدة الحكم

5. Tim Kasser, The high Price of Materialism, p9

6. Tim Kasser, The high Price of Materialism, p11

7. «يوم دون شراء»، مجلة التقوى، عدد نوفمبر 2019 سامح مصطفى

8. (صحيح البخاري، كتاب الأدب)

9. مرزا مسرور أحمد (نصره الله)، خطبة الجمعة، بتاريخ 8 ديسمبر 2017

10ز (صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها)

11. (الفلق: 2-6)

12. (إِبراهيم: 8)

12. (بدر ، ج 7 ، العدد 16 ، 23 أبريل 1908 ، ص 6)

13.(طه: 132)

Share via
تابعونا على الفايس بوك