العنصرية مقابل تعارف الشعوب
  • عنصرية الأطفال! كيف تنشأ العنصرية؟!
  • العنصرية بشكل عام هي سوء فهم لجمال الاختلاف!
  • الإعلان الأول للأخوة الإنسانية
  • عنصرية القرن الحادي والعشرين

__

من خلال ما نمر به منذ قرون من أحداث وما نطالعه منذ عقود من أخبار؛ يمكننا صياغة تعريف للعنصرية بأنها الاعتقاد بتفوق طائفة أو جنس أو عرق على الطوائف أو الأجناس أو الأعراق الأخرى، والعنصريون إذ يفترضون أنهم أرفعُ مقامًا من غيرهم، يعتقدون بضرورة حصولهم على حقوقٍ وامتيازاتٍ خاصة تفوق غيرهم، ولا يوجد دليل علميٌّ قَطٌّ يساند دعاوى التفوق هذه، على الرغم من أن مفكرين مشهورين اعتقدوا في مسألة تفوق عرق وتدني آخر، مثل الإنكليزي «ديفيد هيوم»، والألماني «إيمانويل كانط»، والفرنسي «آرثر غوبينو».. غير أن مثل هذه الآراء العنصرية ثبت تهافتها في نهاية المطاف. والعنصرية آفة واسعة الانتشار، وكانت ولا تزال سببًا في خلق مشكلاتٍ اجتماعيةٍ مدمرة بسبب دعاوى التفوُّق العنصري لتسويغ التمييز والطبقية والنزعة الاستعمارية وصولاً إلى الإبادة الجماعية.

هل يولد الطفل عنصريًّا؟

يولد الطفل دون أن تربطه بعالمه الجديد ومجتمعه الأول أية روابط من نوع خاص، عدا رابطته الغريزية بأمه، وهو إلى الآن ليس جديرًا بلقب «إنسان» حتى يتصف بجملة من الصفات التي تؤهله للانخراط في مجتمعه الصغير أولاً -أي أسرته- ومن ثم مجتمعه الأوسع المحيط. ومن الأمور التي ترسخ صفة الإنسانية لدى ذلك الضيف الجديد، أن يألف من حوله ويستأنس بهم، ولا يكون هذا إلا بدوام الاتصال، فهذا الطفل لن يشعر بالألفة المعتادة تجاه هؤلاء الذين لا يتواصل معهم بكثرة، ذلك لأن المسالمة طبيعة فطرية، ومن النادر أن يولد الطفل عدوانيًّا، اللهم إلا تحت تأثير عوامل وراثية أو بيئية غير سوية، «والقوة الطبعية في الطفل المماثلة لهذا الخُلُق (أي خُلُق المسالمة)، والتي تصير بعد التعديل خُلُقًا، هي الألفة.. أي الاستئناس. والظاهر أن الإنسان في حالته الطبعية، قبل أن يملك القدرة على التعقل، لا يستطيع أن يفهم معنى السلم ولا حقيقة الحرب، إلا أنه يتمتع عندئذ أيضا بعادة الاستئناس والوفاق،  وهذا هو المنبع لخلق المسالمة»1.. على أية حالٍ ينبغي إدراك أن الوليد كي يترقى إلى مستوى الإنسانية، عليه أن يتحلى بخُلق المسالمة، وهذا لن يتأتى إلا بعد أن يألف مَن حوله ويستأنس بهم. وخلال فترات الاستئناس الأولى، ومع ازدياد ما يشاهده الطفل من أشخاص وأشياء، يشرع في عملية التصنيف، حيث يُصنِّف الأشخاص والأشياء من حوله، فيُدخِل كل ما يشاهده تحت تصنيف ما (أشخاص، حيوانات، نباتات، جمادات)،  وشيئا فشيئا تأخذ عملية التصنيف هذه في التفرع والتشعب، فالناس بدورهم -عنده –  يُصَنَّفون إلى (ذكور، إناث)، وهَلُّمَ جرًّا، ومع كل عملية تشعب في التصنيف يُحدد الطفل مكانه من هذا التصنيف الذي صنعه بنفسه، وبالتدريج تتضح له هويته، فيبدأ في البحث الجاد عمَّن تشبه هويتُهم هويتَه، ويلتمس الاندماج في مجموعات تشاركه اهتماماته، كتشجيع فريق معين لكرة القدم، ومن ثم يبادل مشجعي فريقه المشاعر الإيجابية، بينما لا يقابل مشجعي الفرق الأخرى بالمشاعر ذاتها، ناهيك عن مشاعر العداء والكراهية أحيانا.

فالواضح إذن أن منشأ آفة العنصرية في واقع الأمر ليس سوى طبيعة فطرية أُسيء صقلها وتثقيفها ثم توجيهها خلال رحلة التشعيب المشار إليها آنفا، وما ينطبق على هوية تشجيع  فريق كرة القدم ينطبق بنفس التفاصيل على الهوية القومية، الدينية، والثقافية، إلى آخر قائمة الهويات المتوقعة.

جمال الاختلاف

لقد خلقنا الله تعالى مختلفين، وذلك لحكمة بالغة، ذلك أن اختلافنا يضمن لنا البقاء في هذا العالم من حيث تلبية حاجات بعضنا البعض، فلو افترضنا أن أفراد المجتمع كلهم يمتهنون حرفة النجارة، فمن سيؤدي أعمال الحدادة والطب والزراعة والبناء وغير ذلك؟! فاختلاف الحِرف نموذج نسوقه لبيان ضرورة الاختلاف بين الناس في كل شيء، وما يسري على الناس أفرادا يسري عليهم جماعاتٍ وأُمَـمًا،

نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ 2..

فكل إنسان أيًّا كانت صفته مُسخَّر لطائفة من الناس من حوله ضمن شبكة عظيمة متداخلة العلاقات، وتلك الشبكة هي التي تؤلف كيان الإنسانية كله، وهي تشبه إلى حد بعيد فكرة الشبكة الغذائية القائمة بين الكائنات العضوية بعلاقة الآكل والمأكول.

فأول إعلان لمبدأ الأخوة الإنسانية صدر في القرن السابع الميلادي (من خلال البعثة النبوية المحمدية).. لكن إحقاقا للحق فإن عدم صدور إعلان عالمي مماثل قبل القرن السابع لا يقدح في عظمة رسالات الله تعالى المتوالية في النزول على الناس منذ آلاف السنين.. والحكمة في هذا الأمر هي أن الدين الحنيف هو الدين الكامل والمصدق لجميع الديانات فاقتضى تدبير الله المحكم أن ينفرد دينه الأخير بميزات عديدة.

الإعلان الأول للأخوة الإنسانية

الارتداد إلى الخلف يُنظر إليه عادة كأمر مذموم وتصرف رجعي غير مستحب، إلا أننا في سياق حديثنا عن العنصرية نفضل الرجوع قرونا عديدة إلى الوراء، حيث العصر الوسيط الذي شهد أول منظومة إعلانات عالمية تؤصل الأخوة في الإنسانية، الأمر الذي كان منعدما ابتاتًا قبل ذلك.

ففي القرن السابع الميلادي وعلى خلاف ما اعتادته كافة شعوب الأرض من قبل، انطلقت الدعوة الإسلامية من أم القرى مستهدفة جمهورها المحدد في البيان الآتي:

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا

ودون أن تقتصر تلك الدعوة على جنس أو عرق أو قومية أو شعب بعينه كما كان الوضع سابقًا، وعلى مستوى التطبيق لم يكن في أركان الدين أية فواصل بين الناس، فالزكاة والصدقات تُجمع ليستفيد منها الفقراء والمساكين دون سؤال أي منهم عن دينه أو قوميته:

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

فعجبًا لهذا التعليم الراقي الذي يخصص قسمًا من مال المسلم لإعانة غير المسلم وسداد دينه! ثم يأتي ركن حج البيت الحرام، ليكون حدثًا عالميًا يُعنى بالناس جميعا،

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا

فالبيت الحرام مثابة للناس، كل الناس، وهو أمان للمستجير به، وإن كان غير مسلم.. هذا هو التعليم المدون بغض النظر عن الواقع المغاير. فالشاهد أن الإعلان الإسلامي العالمي للأخوة الإنسانية هو إعلان قديم عمره أكثر من أربعة عشر قرنًا.

فأول إعلان لمبدأ الأخوة الإنسانية صدر في القرن السابع الميلادي (من خلال البعثة النبوية المحمدية).. لكن إحقاقا للحق فإن عدم صدور إعلان عالمي مماثل قبل القرن السابع لا يقدح في عظمة رسالات الله تعالى المتوالية في النزول على الناس منذ آلاف السنين.. والحكمة في هذا الأمر هي أن الدين الحنيف هو الدين الكامل والمصدق لجميع الديانات فاقتضى تدبير الله المحكم أن ينفرد دينه الأخير بميزات عديدة.

نود أن نورد في هذا المقام شيئًا من آراء المتقدمين من علماء ومفكري المسلمين، كالقاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد الأندلسي، المتوفى عام 462هـ، وكان أنجب تلاميذ الإمام ابن حزم الأندلسي، وكتابه «طبقات الأمم» يُعدُّ في رأي بعض المحققين إبداعًا غير مسبوق، لأنه باختصار أول كتاب مُكرَّس للبحث في الأنثروبولوجيا الثقافية بامتياز6. لقد افتتح ابن صاعد الأندلسي كتابه بالتأكيد على أن جميع شعوب الأرض وإن اختلفت أخلاقهم وصورهم ولغاتهم إلا أنهم ينتمون إلى نوع واحد، هو نوع الإنسان7، وهنا علينا إدراك أن مصطلح «الإنسانية» هو مصطلح حديث جدًّا نسبيًا. ربما يبدو ما ذكره ابن صاعد الأندلسي معلومة تافهة _عند البعض _  في عصرنا هذا الذي تقدمت فيه اكتشافات علماء الإثنوغرافيا، إلا أن هذا غير صحيح، لا سيما إذا عقدنا مقارنة بين ما ذكره القاضي الأندلسي الذي عاض في القرن الحادي عشر الميلادي وما ذكره «ديفيد هيوم» في القرن الثامن عشر الميلادي، ثم «آرثر غوبينو» في القرن التاسع عشر الميلادي. حيث كان الفكر الأوروبي في عصر النهضة قد اتخذ سبيله نحو الردة الإنسانية في هذا المجال تحديدًا. ولهذا لا نستغرب أن يظهر من جهة الشرق خلال القرن 19م من يعدل الميزان في هذه القضية، ويعيده إلى نصابه الصحيح، فقد أوضح حضرة مرزا غلام أحمد القادياني في رسالته العربية ما نصه: «… أن بني آدم كشخص واحد.. بعضهم كالرأس والقلب والكبد والمعدة والكلية وأعضاء التنفس، وهم سروات نوع الإنسان، وبعضهم كأعضاء أخرى …» 8، فمن الحمق البيِّن بعد هذا الإيضاح أن يفاضل أحد بين عرق وعرق، فالمفاضلة بين الأعراق ستكون كالمفاضلة بين الأعضاء، وعجبًا لمن يفضل عينيه على أذنيه! أو يمكنه ببساطة التخلي عن أي منهما؟! إنما العلاقة المحمودة بين الأعراق هي ما سماه القرآن بالتسخير المتبادَل، فكل قوم يتفوق في مجال يسفيد منه الأقوام الآخرون، وإلا انتفى مبدأ الاتصال بين الأمم وتكاملها، إنها النبوءة القرآنية العظيمة وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ 9. فمما يُلحظ بجلاء أن الإسلام نادى بالتعايش مع الاعتزاز بالاختلاف الطبيعي الذي خلقنا الله تعالى عليه، وهو الاختلاف الذي يجعلنا في حاجة ماسّة إلى الاستعانة بمن هم مختلفون عنا، إنه اختلاف يزرع الوحدة التي تؤصل فينا عقيدة وحدانية خالقنا عز وجل..

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 10

عنصرية القرن الحادي والعشرين

جميعنا عنصريون، ولكن بدرجات متفاوتة، وهذه حقيقة علينا مواجهتها بالإقرار بها أولا، ثم التعامل معها بموضوعية ثانيًا، فعلى الأقل لم يتخلص العالم نهائيًّا من الممارسات العنصرية القائمة على أساس اللون، وتكفي الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية دليلا قائمًا على أن المجتمع الأمريكي الذي يدّعي أنه الراعي الرسمي للعدالة في العالم لم يتخلص تمامًا من هذا المرض، والذي بدت أعراضه مع مقتل المواطن من أصول أفريقية «جورج فلويد»، وقبله المواطنة «برونا تيلور»، وكلاهما لقي حتفه على يد عناصر الشرطة. وقد لفت الكثيرون الانتباه إلى إحصائيات مفزعة لحالات توثق انعدام المساواة، الذي تعيشه النساء الأمريكيات من أصول أفريقية. وبحسب مركز مكافحة الأمراض، فإن الأمريكيات من أصول أفريقية عرضة للموت أثناء الحمل، أكثر بثلاث مرات من الأمريكيات البيضاوات. كما أنهن يعانين ظلمًا كبيرًا في الأجور مقارنة بغيرهن، إذ تشير إحصاءات مركز التقدم الأمريكي إلى أن النساء الأمريكيات من أصول أفريقية يكسبن 61 سنتا مقابل كل دولار كسبه رجل أبيض، خلال عام 2017 (11).

غاية القول أننا لم نتخلص من عنصريتنا تجاه بعضنا البعض على الرغم مما أحرزناه في هذا العصر من معارف في شتى المجالات، وعلى الرغم من أن الإنسانية تعيش أزهى عصورها، لا سيما فيما يتعلق بقوانين حقوق الإنسان، يبقى أصل العنصرية متمثلاً في شعور العنصري بأنه الأفضل من غيره.

ومن يدري! ربما تحمل الأيام القادمة ظروفًا تفهم الشعوب من خلالها أنها عاجزة عن العيش في عزلة عن غيرها، فمتى يحين ذلك اليوم؟! عسى أن يكون قريبــــًا!

الهوامش:

  1. غلام أحمد القادياني، «فلسفة تعاليم الإسلام»، الترجمة العربية، ص39، الطبعة الثانية، 1997.
  1. (الزخرف: 33)
  2. (الأَعراف: 159)
  3. (التوبة: 60) 5. (البقرة: 126)
  4. تقديم أ.د. محمود إسماعيل للنسخة المُحققة من كتاب «طبقات الأمم» للقاضي أبي القاسم بن صاعد الأندلسي.
  5. القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد الأندلسي، «طبقات الأمم»، ص5، طبعة ذخائر الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2016م.
  6. مرزا غلام أحمد القادياني، «حمامة البشرى»، ص1، الطبعة الحديثة، مطبعة الرقيم، الشركة الإسلامية المحدودة 2007م.
  7. (التكوير: 8)
  8. (الحجرات: 14)
  9. هذه الفقرة وما تضمنته من إحصائيات جاءت نقلا بتصرف عن الصفحة العربية لهيئة الإذاعة البريطانية، الرابط: 
Share via
تابعونا على الفايس بوك