أما زالت فينا جاهلية؟!
  • ما نقصده من الجاهلية في سياق افتتاحيتنا لهذا الشهر؟!
  • ما أول إعلان عنصري في التاريخ؟!
  • وما السر الكامن وراء انعدام السلام والطمأنينة في هذا العصر؟!

__

الجاهلية في كتب الأدب والتاريخ مصطلح جامع لكل مظاهر الضلال والسقوط الأخلاقي التي تغذيها نزعة العصبية القومية، والعرب أطلقت الجهل على ما قابل الحِلْم، ويبدو بالاستقصاء أن بِنية لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن، حيث طرق هذا المصطلح الأسماع لأول مرة في الآية الخامسة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران، قال تعالى:

… وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّه (1)،

وينبغي هنا لفت الأنظار إلى أن الجهل في هذا السياق لم تعرفه العرب كَمَسَبةٍ أبدًا، بل إن فحول شعرائهم تفاخروا به، حتى قال عمرو بن كلثوم:

أَلاَ لاَ يَـــجْهَلَــنَّ أَحَـدٌ عَلَـــيْنَـا
فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا

والجاهلية تعبير دقيق عن كافة مظاهر الغطرسة التي مارستها كافة مجتمعات ما قبل الإسلام، سواء في بيئة شبه الجزيرة العربية أو غيرها، فقد شاعت مظاهر الغطرسة تلك في كل المجتمعات دون استثناء، فتفاخرت قبائل العرب على بعضها البعض، وعن الحروب التي كان منشؤها التفاخر المذموم فيما بينهم، فحَدِّثْ ولا حرج، فمن حرب البسوس بين بكر وتغلب، إلى داحس والغبراء بين عبس وذبيان، إلى يوم بعاث بين الأوس والخزرج، دارت رحى المعارك لتطحن زهرة شباب القوم، وكان محركها يد التعصب القبلي. أما عن موقف أرباب التحضر المادي في ذلك الوقت، فحتى هؤلاء لم يكونوا بمنأى من هذه العصبية، غير أننا لن نتطرق إلى المزيد من التفاصيل التي تقدمها إلينا المصادر التاريخية في هذا المجال.

وفي عصرنا هذا، عصر الحداثة، قد يتفاجأ البعض من قولنا أن الجاهلية ما زالت متفشية في جنبات الأرض، نعم.. ولكنها باتت تُدعى بأسماء أخرى، فتارة تُدعى عنصرية وتارة تُدعى طائفية، إنها الخمر المعتقة ذاتها، ولكن في قوارير جديدة، فسواء كانت النزعة قومية أو عرقية أو دينية أو مذهبية، فإن التعصب هو ذاته، وعنصريةَ وطائفيةَ اليوم كلتيهما جاهليةُ الأمس.

وإذا وَلَّينا وجهنا شطر الغرب، فسرعان ما سنصطدم بجاهلية اليمين المتطرف التي تُشكل تهديدًا خطيرًا لسلام ورفاهية أوروبا وأمريكا وبقاع أخرى من العالم، فنرى أحزاب اليمين المتطرف تلك، باسم القومية، تنادي بوضع حدٍ لمجتمعات التعددية الثقافية المعاصرة، وتسعى بدلاً من ذلك إلى فرض أيديولوجياتها العنصريةَ والمتحيزةَ على المجتمع ككل. ومن أجل حماية ما يدعونه نقاءَ عِرقهم، يستهدف المتعصبون هناك المهاجرين واللاجئين الوافدين إلى تلك البلاد ابتغاء لقمة العيش أو الملاذ الآمن. كل هذا يحدث على مرأى ومسمع العالم، ويكأنْ لم تشهد أوروبا جرائم النازية التي كان دافعها الفكرة البغيضة القائلة بنقاء العرق الآري ولم تتعلم شيئا من درس الأمس!

وبالإضافة إلى ما تشهده أوروبا وأمريكا، وعلى الرغم من الصيحات المتعالية والمنادية بحقوق الإنسان، نرى أن وقود العنصرية دائم الانسكاب على كافة الصراعات الناشبة في سائر أنحاء العالم بلا استثناء، وحتى داخل القطر الواحد. فتبَّت يدَا شيطان العنصرية الذي لن يهدأ له بال حتى يوقع بيننا العداوة والبغضاء ليُهلكنا عن بكرة أبينا!

يُحكى أن الشاعر الحطيئة حين لم يجد من يهجوه، بلغت به الحال أن هجا نفسه، فتلك حالنا والجاهلية أو العنصرية أو الطائفية، أيًّا كان الاسم، تعددت الأسماء والخيبة واحدة. وما زال ذلك الشيطان القديم ينسج شباكه الممتدة من يوم إعلانه الأول: …

أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (2)،

وما زالت الإنسانية تقع في تلك الشباك دون أن تتعلم، فلا غرابة إذن في انعدام السلام والطمأنينة. وعلى الرغم من أن جُلَّ المجتمعات المعاصرة إن لم نقل كلها على الإطلاق، تعاني ألم جراح الماضي، إلا أنها تصرُّ على أن تنكأ جراحها تلك، حتى قبل أن تبرأ، حيث أصبح التجرد من الصفات الإنسانية طابعًا سائدًا في العلاقات الفردية والاجتماعية البادية في الحَطِّ من كرامة الآخر بدعاوى الفروق بين الأديان والمذاهب والقوميات والأعراق والأجناس، حتى أن ذلك التحقير يتخذ في بلدان عدة شكل الدعابة، وكأننا لم نسمع قط بتعليم مثل:

«بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» (3)!

ولطالما عقدت الإنسانية الآمال على أن ترتقي وتتجاوز محن الماضي الأليم. ولطالما تمنت أن تنمحي تلك الحقبة من مخيلتها. فأنشأت منظمات وهيئات وعقدت مؤتمرات وجلسات تُعنى بترسيخ قيم حقوق الإنسان، متطلعة إلى مستقبل باهر لا ينتقص من تلك الحقوق شيئا.

عزيزي القارئ الكريم، نهدي إليك في شهر أكتوبر من عام 2020م وعبر صفحات التقوى الغرَّاء، باقة من المواد المفيدة، التي توخينا عند إعدادها نظم أغلب دررها بخيط واحد، بدءا من واسطة العقد، كلمة حضرة أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) التي ألقاها في خطبة الجمعة متابعا فيها ذكر الصحابة البدريين الذين بلغوا الغاية في محو الفوارق القومية، فكان العربي أخا الحبشي والفارسي والرومي وتصحبنا هذا الشهر سيرة سيدنا بلال بن رباح مؤذن الرسول التي وقَّعَتْ أبهى مشاهد الانتقام في التاريخ. كما نعنى بتقديم مواد مقالية تصب في هذا الحوض، أي “العنصرية” منها ما يحمل سمة عصرية ومنها ما يصطبغ بصبغة تاريخية، كتناولنا عبقرية حضرة عمر الفاروق الإدارية والاقتصادية، والتي سرعان ما سندرك بمطالعة المقال أنه وظفها لمواساة الخلق غاضًا الطرف عن أي فوارق من أي نوع،  كما لا يفوتنا تزويدك بباقة غنية أخرى من المعارف ضمن الأبواب الثابتة.

ندعو الله تعالى أن يجنبنا الوقوع مجددًا في حبائل ذلك الشيطان اللعين، ويخلصنا مما علق بنا منها، ويهدينا إلى رؤية الجميل في إخوتنا في الخلق، وأن يلهمنا التحلي بالتقوى، ويرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، هو ولي ذلك والقادر عليه، آمين.

___________

1. (آل عمران: 155)       2. (الأَعراف: 13)         3. (صحيح مسلم،)
Share via
تابعونا على الفايس بوك