فتوح ربانية في فك رموز المقطعات
  • ما دلالة تلك المقطعات؟
  • فيم تختلف عن سائر آيات القرآن؟

 ___

التفسير:

 لقد ذكرت مرارا أن علماء الإسلام قد اختلفوا في المقطعات القرآنية، ولكن إذا وجدنا تفسيرًا لها قد روي عن النبي فلا بد لنا من تفضيله على آراء الآخرين.

وحين نبحث الموضوع من هذا المنظور نجد أن هناك معنيين اثنين فقط قد رُويا عن النبي . جاء في الروايات أن اليهود أبدوا رأيهم في المقطعات أمام النبي وقالوا: إن حروفها تدل على بعض الأعداد والأرقام، فالألف في «الم» مثلاً يساوي الواحد، واللام الثلاثين، والميم الأربعين؛ فالمقطع كله يساوي الواحد والسبعين. فلم يرفض الرسول هذا المعنى (الطبري). فبما أن النبي لم يرفض هذا المعنى فلا بأس في قبولـه، إذ لو كان غلطًا لرفضه الرسول . والتدبر في القرآن يكشف لنا أن ذلك المعنى كان ينطوي على بعض الأنباء التي قد تحققت في موعدها فيما بعد.

وهناك معنى آخر للمقطعات مروي أيضًا عن النبي ، وهو أنها تدل على بعض صفات البارئ . فقد روي عن أم هانئ، وهي ابنة عم النبي ، أنه قال في «كهيعص» إن معناه: كافٍ وهادٍ وعالمٌ – أو عليمٌ – وصادقٌ (تفسير فتح البيان).. أي أن حرف الكاف ينوب عن الكافي، والهاء عن الهادي، والعين عن العالم أو العليم، والصاد عن الصادق.

وهناك رواية عن علي تدعم هذا المعنى، وتبين أن مقطع «كهيعص» إشارة إلى بعض صفات الله تعالى. فروي أن عليًّا إذا ما واجه مصيبة كبيرة دعا ربه قائلا: «يا كهيعص، اغفِرْ لي» (المرجع السابق). ولما كان الدعاء وثيق الصلة بالصفات الإلهية، فكان سيدنا عليّ يرى أن «كهيعص» تشير إلى بعض صفات الله تعالى.

وكان ابن عباس رضي الله عنهما هو الآخر يرى أن المقطعات تشير إلى بعض صفات البارئ ، حيث قال: الكاف اختزال للكبير، والهاء للهادي، والياء للأمين، والعين للعزيز، والصاد للصادق (المرجع السابق).

فابن عباس يقر بأن هذا المقطع يدل على بعض الصفات الإلهية، ولكن شرحه لها يختلف قليلا عما روته أم هانئ، فبينما تروي هي أن الكاف ينوب عن الكافي، وأن العين ينوب عن العالم أو العليم، يرى ابن عباس أن الكاف يعني الكبير، وإن العين يعني العزيز. ثم إن أم هانئ لم تذكر في روايتها شيئًا عن حرف الياء، ولكن ابن عباس يقول: إن معناه الأمين.

أما ابن مسعود وغيره من الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – فقالوا: الكاف من الملك، والهاء عن الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصور (المرجع السابق).

إننا نتوصل من هذه الروايات بحق إلى نتيجة أن النبي وجميع أصحابه كانوا مجمعين على أن هذا المقطع القرآني يشير إلى بعض صفات الله تعالى. لا شك أن الصحابة قد اختلفوا قليلاًً في تحديد الصفات المذكورة فيه، ولكن هذا لا بأس به، إذ البديهي أن ما ذكره الرسول وحدده من صفات هو الأولى بالأخذ، وما ذكره الصحابة فيُعتبر إزاءه من الظنيات. فلو أن ابن مسعود ذكر معنى، وابن عباس معنى آخر، وعليًّا معنى ثالثًا مخالفًا لقلنا إن كل واحد منهم قد جاء بهذا المعنى من عنده، ولكن الجميع قالوا إن هذا المقطع القرآني يشير إلى بعض صفات الله تعالى. فثبت بذلك أن الرسول قد اعتبر هذا المقطع مشتملاً على بعض صفات الله تعالى. ولا بأس بعد ذلك في أن يستنتج منه كل إنسان الصفات الإلهية التي يستسيغها عقله. إن الجميع مجمعون على قاعدة واحدة بأن هذه الحروف تشير إلى بعض صفات الله تعالى، أما تحديد تلك الصفات فممكن بالتدبر في محتوى هذه السورة لأنه يلقي الضوء عليه. فعندنا قاعدة نعرف بها الخطأ من الصواب: إذا أخطأ أحد في تحديد هذه الصفات، علينا أن نفحص كل السورة لنرى ما هي الصفات الإلهية المذكورة فيها، فإذا وجدنا الصفات التي يستنتجها أحد مذكورة في السورة نعتبره على الحق، وإلا فلا.

مما لا شك فيه أن معاني مقطعات جميع السور الأخرى لم تثبت عن الرسول ، ولكن المؤكد الثابت أنه قد بين معنى مقطع سورة مريم بالتحديد وأخبر عن الصفات المذكورة فيه، لذا لا يمكن أن نفسره بأي معنى آخر. وتقول أم هانئ إنها سمعت هذا المعنى من الرسول ، وأما المعنى الذي ذكره الصحابة فذكروه وفق علمهم. وإنه لمن المسلم به أنه إذا ثبت تفسير آية عن الرسول فلا بد من تفضيله على التفاسير الأخرى، فلا مناص لنا من تفضيل المعنى الذي ذكرته أم هانئ رضي الله عنها.. أي أن الكاف يعني الكافي، والهاء الهادي، والعين العالم أو العليم، والصاد الصادق. وعندي أن هذا المعنى لهو مفتاح معارف هذه السورة.

إن الجميع مجمعون على قاعدة واحدة بأن هذه الحروف تشير إلى بعض صفات الله تعالى، أما تحديد تلك الصفات فممكن بالتدبر في محتوى هذه السورة لأنه يلقي الضوء عليه. فعندنا قاعدة نعرف بها الخطأ من الصواب: إذا أخطأ أحد في تحديد هذه الصفات، علينا أن نفحص كل السورة لنرى ما هي الصفات الإلهية المذكورة فيها

وجدير بالملاحظة هنا أن حروف هذا المقطع خمسة، ولكن الصفات التي ذكرها النبي أربع. إن الحروف هي: ك، هـ، ي، ع، ص، والصفات المذكورة عنه تخص ك، هـ، ع، ص، وكأنه ترك «ي». فما الحكمة في ذلك؟

والحكمة عندي أن الياء تُستعمل للنداء أيضًا، وقد عدّها النبي هنا حرف النداء، معتبرًا الصفتين الأوليَين نتيجة للأخيرَين، والتقدير: أنت كافٍ، أنت هادٍ، يا عالمُ يا صادقُ.

ونظرًا إلى هذا المعنى، فإن صفتي الكافي والهادي – اللتين هما نتيجة لصفتي العالم (أو العليم) والصادق – قد جاءتا هنا كالقول الفيصل والأمر الحاسم بين الإسلام والمسيحية. ذلك أن قولنا: أنت كافٍ، أنت هادٍ، يا عالمُ يا صادقُ، يعني أن صفتي العالم والصادق هما كالمنبع لصفتي الكافي والهادي؛ وهذه هي الحقيقة الثابتة عقليًّا. ذلك أن الصفات الإلهية نوعان: صفات لا تأتي بنتائجها دائمًا، وصفات تأتي بنتائجها حتمًا، وتكون مصدرًا للصفات الأخرى التي تكون تابعة لها. فمثلا، إن الله مطعم، ولكن صفة الإطعام تنكشف من خلال صفة الخلق والرزق، إذ لو لم يكن هناك رزق فماذا يُطعم. فكونه تعالى مطعِمًا يقتضي أن يكون رازقًا كذلك. إذن فصفتا الكافي والهادي هنا تابعتان لصفتي العليم والصادق، وسيكون معنى المقطع «كهيعص»: يا عليم يا صادق أنت كافٍ وهادٍ.. وبتعبير آخر إن النتيجة الحتمية لكون الله عليمًا وصادقًا أن يكون كافيًا وهاديًا كذلك. فكأن الله تعالى يعلّم عباده هنا أن يدعوه قائلين: كهيعص.. أي يا إلهي العليم الصادق، إني أؤمن بأنك أنت الكافي لأنك عليم، وأنت الهادي لأنك صادق، إذ ما دمتَ العليم فلا بد أن تكون الكافي أيضًا، وما دمت الصادق فلا بد أن تكون الهادي كذلك. وهذا الأمر بديهي وثابت عقليًّا، لأن أحدًا إذا كان ذا علم، فلزم أن يكون كافيًا أيضًا. فمثلاً إن العلاج يتطلب فحصًا صحيحًا كاملاً، والفحص الصحيح يقتضي أن يكون الطبيب ذا علم صحيح كامل، لأن غير الملمّ بكل ما يتطلبه علاج مرض من الأمراض يستحيل عليه علاجه بنجاح، أما من يملك المعلومات الكاملة فينجح في علاجه حتمًا. فثبت أن العليم لا بد أن يكون كافيًا أيضًا لأن العلم يغني الإنسان غناء ويكفيه، لا الجهل.

هناك نوعان من النواميس العاملة في العالم: نواميس الطبيعة ونواميس الشرع. وليس بوسع  أحد أن يهدي الناسَ في مجال نواميس الطبيعة أيضًا هداية تامة إلا إذا كان عليمًا، فمثلا لن ينجح من الأطباء إلا من كان ذا علم تام، وبالمثل لن يهدي الناس في مجال نواميس الشرع هدايةً كاملةً إلا من كان عليمًا، أما الذي لا علم لـه بحاجات البشر المادية أو الروحانية فلن يقدر على أن يصف لهم وصفة ناجحة. فثبت أن العليم لا بد أن يكون كافيًا كذلك.

وبالمثل فإن الصادق هو الذي يمكن أن يكون هاديًا حقًّا، لأن الكذب والخطأ يؤديان إلى الضلال، فلا بد للهادي أن يتصف بالصدق، إذ لن يكون هاديًا إلا من كان صادقًا، بل يكون منبعًا للحقائق كلها، وإن كل تعليم سواه سيكون مشبوهًا لا يصلح للقبول.

باختصار، فإذا آمن الإنسان بأن الله عليم فلا بد لـه من الاعتراف أنه كافٍ أيضًا، وإذا آمن أنه تعالى صادق فلا مناص لـه من الإيمان بكونه تعالى هاديًا كذلك. وإذا صح هذان المبدءان، وإذا ثبت أن الديانة اليهودية – التي هي الأساس للمسيحية – تنص على أن الله تعالى عليم وصادق، فلا بد للمسيحيين من الاعتراف بأن الله كاف وهاد أيضًا.

تعالوا نر الآن ماذا يقول الكتاب المقدس بهذا الشأن. ولنتوجه أولاً إلى صفة الله «العليم».

لقد ورد في الإنجيل: «أمّا ذلكَ اليومُ وتلك الساعةُ، فلا يعرِفُهما أحَدٌ، ولا ملائكةُ السماواتِ، إلا الآبُ وحده.» (متى 24: 36).

إن هذه العبارة تكشف لنا أن للعلم في هذه الدنيا درجات ومقادير، فمن العلم ما هو ضمن معرفة البشر، ومنه ما هو داخل نطاق معرفة الملائكة، ومنه ما لا يعلمه البشر ولا الملائكة، بل الله وحده يعلمه. وهذا يعني أن العلم الكامل خاص بذات البارئ ؛ فلا مناص إذن من الإيمان أيضًا بأنه تعالى هو الكافي.

ثم ورد في العهد القديم:

«بِالحِكمةِ أسَّس الربُّ الأرضَ، وبالفطنة ثبَّت السماواتِ في مواضِعها. بِعِلمه تَفجَّرتِ اللُّجَجُ، وقطَر السحابُ نَدًى.» (الأمثال 3: 19-20)

وهذا يعني أن الله تعالى أسس نواميس الطبيعة وزيّنها بناء على العلم، ثم مِن علمه نبعت كل معرفة أخرى، سواء أكانت روحانيّة أو ماديّة، إذ ورد: “بِعِلْمِهِ تَفَجَّرَتِ اللُّجَجُ، وَقَطَرَ السَّحَابُ نَدًى”، أي أن علم الله هذا كامل من كل النواحي بحيث إن السماء أيضًا تقطرت لهداية البشر.. أي نـزل الوحي والإلهام من عند الله تعالى.

هذه العبارة تبين أن الهدي ينـزل من عند الله تعالى دائمًا، وليس بوسع البشر أن يأتي به، وأن هديه هو الهدي الكامل، لأن مُنـزله عليم.

وورد في التوراة عن صفة الصدق:

«فدَيتَني أيّها الربُّ إِلهَ الحقِّ.» (المزامير31: 5).

وهذا يبين أن النجاة إنما تختص بإله الحق كما أن الشرع يختص بالرب العليم.

وورد أيضًا:

«عدلُك عدلٌ أبديٌّ وشريعتُك حقٌّ.» (المزامير 119: 142).

لقد ثبت بهذه العبارات أن التوراة والإنجيل كلاهما يؤكد أن العلم الكامل والصدق الكامل إنما يختصان بالله وحده ؛ وما دام الكتاب المقدس ينص على أن الله وحده العليم والصادق فلا مناص للنصارى من التسليم بأن لا كافيَ من دون الذي هو العليم، ولا هاديَ من دون الذي هو الصادق. وثبوت هذين الأمرين يؤكد أن صفة الله «العليم» والصفة  التابعة لها أعني «الكافي» لتُبطلان عقيدة الكفارة المسيحية، كما أن صفة الله «الصادق» والصفة التابعة لها «الهادي» لتعارضان العقيدة المسيحية القائلة بأن الشرع لعنة وأن النجاة في الكفارة وحدها. ذلك أن الله تعالى إذا كان عالمًا – أو عليمًا – فلا مكان في الدين للكفارة، لأن أساس الكفارة إنما هو أن الله تعالى وضع خطة لإدارة العالم، فبعث الرسل لهداية الناس، ولكن خطته هذه باءت بالفشل الذريع، فعاد واضطر ليقدّم ابنه فداء عن ذنوب الناس. إن التسليم بهذه الفكرة المسيحية يستلزم الاعتراف بأن الله تعالى لم يكن عليمًا ولا كافيًا.

كما أن الله تعالى إذا كان صادقًا وبالتالي هاديًا فقد بطلت العقيدة المسيحية القائلة بأن الشرع لعنة وبأن لا نجاة إلا بالكفارة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك