ماهية الحجاب الذي اتخذته مريم
  • حقيقة الحجاب الذي اتخذته من دون أهلها.
  • وحقيقة تمثل الملاك لها.

___

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (مريم 18)

 شرح الكلمات:

رُوحنا: الروح: ما به حياةُ الأنفس؛ الوحيُ؛ النبوّةُ؛ جبريلُ (الأقرب). وتسمى النبوة روحًا لأنها تَهَبُ الإنسان حياة جديدة روحانية. ويسمى جبريل روحًا لأنه يأتي من الله تعالى بكلام يهب حياة جديدة. ويسمى الوحي روحًا لأنه أيضًا يجدد الإيمان.

التفسير:

أي أن مريم ألقت سترًا على الباب من أجل الدعاء في خلوة وانفراد. علمًا أنه في هذه الأيام تُتّخذ للغرف أبواب يمكن إغلاقها بسهولة، ولكن في ذلك الزمن القديم لم يكن لمثل هذه الأبواب رواج، وإنما كانوا يضعون الستائر مكان الأبواب، حتى إن القصور الملكية كانت بدون أبواب حتى الزمن العباسي. ويتضح من المباني التي بُنيت في عهد الملوك المغول أنهم كانوا يلقون الستائر على أبواب الحجرات من أجل الخلوة والانفراد. لذا فقوله تعالى فاتخذتْ مِن دونهم حجابًا لا يعني أن مريم ابتعدت عن القوم لتفعل شيئًا لا يمكنها أن تفعله إلا وراء الحجاب والخفاء، وإنما المراد أنها أرادت أن تعبد الله تعالى وتدعوه بهدوء في خلوة، فألقت من دونها سترًا حتى لا يراها الناس في عبادتها ودعائها.

لقد كان زكريا في المعبد حين تلقى البشارة بالولد، وكانت مريم أيضًا في المعبد حين تلقت من الله البشارة بالولد، حيث يقول الله تعالى إنها كانت في عبادتها وابتهالها في خلوة فأرسلْنا إليها روحَنا فتمثَّلَ لها بشرًا سويًّا .. أي جاءها الملاك متمثلاً إنسانًا سليمَ الصحة. ومثله كما يرى المرء في المنام أنه يذبح كبشًا ويكون تأويله موت ابن لـه أو بنت أو قريب. أو يرى فأرًا وتعبيره شخص منافق. أو يرى أن سارقًا قد اقتحم بيته وتأويله الحمو والنسيب. وبالرغم أننا لا نجد في الظاهر أي علاقة بين المنام والتأويل إلا أن هذا هو الأمر الواقع كما يعرف الجميع، لأن الله تعالى يريهم هذه الأحداث بلغة التمثل والصورة. وهنا أيضًا يشير الله تعالى إلى هذا الأمر، ويخبرنا أن الملاك تمثَّلَ لها على شكل إنسان كامل الصحة. وبتعبير آخر إن هذه الكلمات تصور لنا كيفية نـزول الوحي على السيدة مريم. لقد قيل لرسولنا الكريم ذات مرة: يا رسول الله، كيف ينـزل عليك الوحي؟ فقال: أحيانًا ينـزل عليّ كصوت الجرس، أي أشعر برنّة جرس، ثم بعده يبدأ الوحي في النـزول؛ وأحيانًا يأتيني ملاك من ملائكة الله تعالى في شكل إنسان، ويكلّمني، وتارة يأتيني الملاك في شكل آخر. (البخاري: باب كيف كان بدء الوحي)

وهنا أيضًا يبين الله تعالى الموضوع نفسه، ويخبر أن ذلك الوحي لم يقع على سمع مريم، ولم يجرِ على لسانها، بل نـزل عليها على شكل رؤيا وكشف. لقد رأت في الكشف أمامها ملاكًا في صورة إنسان سليم الصحة، فبلّغها كلام الله تعالى.

والحق أننا لو أمعنا النظر لوجدنا أن كلام الله تعالى هو الذي يتمثل لنا بشتى الصور عند نـزوله. إن كلام الله تعالى لما نـزل على مريم تمثل لها على شكل إنسان. يقول البعض أن جبريل هو الذي تمثل لها، مع أنهم لو سموه جبريل فإن الحقيقة التي بينّتُها تبقى كما هي، أي أن كلام الله تعالى هو الذي يتمثل بأشكال مختلفة. فمثلا إذا رأى المرء في المنام باذنجانًا فهذا يعني أن كلام الله تعالى قد اتخذ صورة باذنجان. وإذا رأى ملاكًا فمعناه أن كلام الله تعالى قد تمثل على صورة ملاك. زبدة القول إن كلام الله تعالى يتمثل عند نـزوله على صور مختلفة.

لقد رأيتُ في الرؤيا وأنا صغير أن أحدًا ضرب كأسًا معدنيًّا، فخرج منه صوت. ثم رأيت أن الصوت أخذ في الانتشار والاتّساع كاتّساع الماء الذي يلقى فيه حجر فتتحرك أمواجه على شكل دائرة صغيرة، ثم تتسع هذه الدائرة وتتسع. فلم يزل هذا الصوت ينتشر ويتسع في الجو حتى تكوّنَ في وسط الجو بالضبط إطار فارغ. ثم رأيت أن صورة أخذتْ تتشكل في الإطار، وتحولت بالتدريج إلى صورة إنسان. ثم تحركت الصورة فجأة، وقفز منها إنسان وجاء ووقف أمامي، وقال: إني ملاك وقد بعثني الله تعالى إليك لكي أعلّمك تفسير سورة الفاتحة. فبدأ يعلّمني تفسيرها. ولما بلغ قولَ الله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين قال: إن كل التفاسير السابقة قد انتهت إلى هنا، ولو شئتَ علّمتُك تفسير ما بعده. فقلت: نعم، علِّمْني المزيد. فعلَّمني تفسير سورة الفاتحة كلها.

فترى هنا أن صوتًا خُلق في البداية، وتحول الصوت إطارًا، ثم ظهرت فيه صورة، ثم انقلبت الصورة إنسانًا قفز من الإطار، ووقف أمامي وكلّمني. فكل هذه الأمور تحدث على هذا النحو حيث يتخذ كلامُ الله تعالى أشكالاً مختلفة، ولا غرابة في ذلك. إن الذين لا خبرة لهم بذلك، يجدون فيها الغرابة كلها، ولكن أهل الله تعالى يعرفون أن مثل هذه التجارب تقع بكثرة. وقد مرّت مريم أيضًا بتجربة مماثلة، حيث تمثل لها كلام الله تعالى بشرًا سويًّا واقفًا أمامها. وهذا الأمر يكشف لنا حقيقة حملها أيضًا بأنه لم يكن إلا مثالاً لقول الله تعالى كُنْ فيكون[، وليس أن ملاكًا أو روحًا دخل فيها.

يستنتج المسيحيون من قوله تعالى رُوحَنا أن الإله قد دخل في مريم، زاعمين أن القرآن قد أيّد هنا عقيدتهم في بُنوّة المسيح. يقولـون: ما دام الله يقول هنا أن روحَنا تمثَّلَ لمريم، فهذا يعني بكل وضوح أن الله تعالى هو الذي دخل في مريم، فثبت أن الاعتقاد بكون المسيح إلهًا أو ابن الله صحيح.

والجواب أن الإنجيل ما دام يقول أن الملاك قال لمريم «الروح القدس يحلّ عليكِ» (لوقا 1: 35)، وما دام القرآن يقول، في زعمهم، أن الله نفسه دخل في مريم، فكيف صدّق القرآن الإنجيلَ يا تُرى؟ كلا، بل إنه قد فنّده، لأن الإنجيل لا يقول أن الله هو الذي دخل في مريم، بل كل ما يقوله هو إن الروح القدس نـزل عليها.

هذا، وقد ورد في إنجيل «متّى»: «وُجدتْ حُبلى من الروح القدس» (متى 1: 18). وهنا قد اشتبه الأمر أكثر، حيث يتضح من كلمات متّى أن الروح القدس لم يحل على مريم فحسب، بل دخل فيها.

كما ورد في إنجيل «متى»: «لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس» (متى 1: 20). فهنا بيّن الإنجيل المرادَ من حمل مريم من الروح القدس.. وهو أنها حملت بنطفة الروح القدس. وهنا أصبح الأمر أكثر تعقيدًا، حيث يطرح سؤال نفسه: هل دخَل اللهُ بطنَ مريم أم الروحُ القدس؟ لأن «متى» يخبر في إنجيله أن الروح القدس اتصل بمريم ومِن نطفته وُلد المسيح.

فثبت أن زعم المسيحيين أن القرآن يصدق الإنجيل فيما قال لزعم باطل تمامًا، حيث يعلن القرآن الكريم أن الروح تمثل لمريم وبشّرها بالمولود، وليس أن الروح دخل فيها؛ أما الإنجيل فيخبر أن الحمل كان من الروح القدس لا من الله. وهذا يعني أن كلا البيانين مخالف للعقيدة المسيحية. إذ تقول عقيدتهم الشهيرة أن المسيح ابن الله، والقرآن لا يقول بذلك. وأما الإنجيل فبيانه إما يعني أن المسيح كان ابنًا للروح القدس، أو يعني أن الروح القدس كان هو الله؛ وكلا الأمرين مخالف للعقيدة المسيحية. إن القرآن الكريم لم يقل إلا أن ملاكًا تمثَّلَ لمريم وبشّرها مِن عند الله تعالى بالابن. فثبت أن زعم المسيحيين – بناء على كلمة روحنا في القرآن الكريم –  أن القرآن يصدق الإنجيل لزعم باطل كلية.

قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا  (مريم 19)

 التفسير:

يخبرنا الله تعالى هنا أن مريم استخدمت كلمة الرحمن عندما استعاذت به، وإن إخبار الله تعالى هو الحق يقينًا. ولكن الغريب أن المسيحية تنكر صفة الله «الرحمن» أصلاً، وإنما أساس المسيحية هو أن الله ليس برحمن. ذلك لأن الله لو كان رحمانًا لغفر الذنوب، ولكن المسيحية تزعم أن الله لا يقدر على أن يغفر لأحد، فهذا يخالف عدله. وكأن الفعل الذي يقوم به كل إنسان في الدنيا، فيمدحه الناس بسببه ولا يذمّونه، فإن الله تعالى لا يمكنه القيام به. ولكنهم يعودون فيقولون أن رحمة الله اقتضت أن يغفر لعباده، فأرسل ابنَه إلى الدنيا، فصُلب عوضًا عن ذنوبهم. فلأنه حمل بنفسه ذنوب الناس كلها، وصار فداء لهم، فلا حاجة لهم إلى القيام بأي عمل آخر، لأنهم ينالون النجاة نتيجة إيمانهم بالمسيح. فثبت أن المسيحية مبنية تمامًا على أن الله تعالى ليس برحمن. ولكن القرآن الكريم يعلن أن مريم لما رأت الملاك في هذا المشهد قالت له إني أعوذ بالرحمن منكَ إنْ كنتَ تقيًّا . والرحمن هو من يُنعم عليك بدون أي عمل منك.

إن ما رأته السيدة مريم كان رؤيا، والإنسان حين يرى في الرؤيا خطرًا يخاف تمامًا كما يخاف في اليقظة إذا تعرض لخطر. فمثلاً إذا رأيتَ في الرؤيا أنك على وشك السقوط من مكان عال أصابك الذعر. ولو رأيت في المنام أنك موشك على الغرق فزِعت. ولو رأيت أنك تموت فلن تفرح أبدًا، بل ستحزن. فلا شك أن ما رأته مريم كان مشهدًا من الكشف إلا أنها خافت من الملاك الواقف أمامها بصورة إنسان فقالت لـه إني أعوذ بالرحمن منك إن كنتَ تقيًّا .

إن هذه الكلمات جاءت لبيان حالة قلب مريم وقت الحدث، حيث أخبر الله تعالى أنها خافت من هذا المشهد لدرجة أنها قالت للملاك إنْ كان فيك ورع وتقوى فإني أبتهل إلى الرحمن أن يحميني من شرك. والرحمن مَن يتفضل على المرء من دون مقابل مِن عملٍ أو جهدٍ. وهذا يعني أن الخوف قد بلغ من مريم كل مبلغ حتى توسلت إلى الله تعالى قائلة يا رب، لا تنظر إلى أعمالي، ولا تنظر هل فعلتُ شيئًا لمرضاتك أم لا، وإنما أتوسل إليك برحمانيتك أن تحميني من شرّه. لو أنها توسلت إلى الله تعالى بصفته «الرحيم» لكان مرادها يا رب قد قمت ببعض الأعمال الصالحة، فارحمني جزاء عليها. ولكنها لم تتوسل برحيمية الله تعالى، وإنما توسلت برحمانيته تعبيرًا عن كربها الشديد، وكأنها تقول يا رب، ليس بيدي أي عمل، فارحمني رغم ذلك، وادفعْ عني كربتي وبلائي.

لقد أشير بهذه الألفاظ إلى أمر آخر أيضًا، وهو أن الإنسان إذا كان في المحن، محاطًا بالخطوب والكروب، فعليه أن يدعو الله تعالى أن يا رب، ليس بيدي أي عمل، ومع ذلك أتوسل إليك برحمانيتك، وأسألك أن تُنـزل عليّ فضلك.

وقالت لـه مريم إنْ كنتَ تقيًّا .. لأن ذكر اسم الله تعالى إنما يؤثر على من يتقي الله تعالى. فكم من مقتول يتوسل إلى قاتله باسم الله تعالى ومع ذلك لا تتولد في قلب القاتل أدنى رحمة. وهذه هي حالة القوم الذين يعارضوننا اليوم، فمهما خوّفناهم من الله تعالى لا يرتدعون عما يفعلون. فكانت مريم تعلم أن هذا إن لم يكن صالحًا فلا جدوى من تذكيره بالله تعالى، بل إن هذا العمل سيُعَدّ إساءة إلى الله تعالى. فقالت لـه إنني أتوسل إليك باسم الله تعالى شريطة أن تكون من أهل الصلاح والتقوى. وإلا فسوف أبتهل إلى ربي أن يحميني بنفسه من أذاك.

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك