التقوى في الأخذ برخص الله عز وجل وعزائمه

التقوى في الأخذ برخص الله عز وجل وعزائمه

حلمي مرمر

كاتب
  • هل يمكن أن يقع المرء في معصية من حيث يبتغي الطاعة؟ وكيف يكون هذا؟

___

للعبادات المفروضة غايات عظمى، منها تزكية النفس والخروج بها من ظلمات الشهوات السفلية النابعة من النفس الأمارة بالسوء إلى أنوار الأخلاق السامية النابعة من النفس المطمئنة بالطاعات والقُربات، وليست غاية تلك العبادات التحكم المحض وإملاء الأوامر الخالية من أية حكمة إلا السيطرة وقهر العباد، فإن أوامر الحكيم مليئة بالحكمة، أدركناها أم لم ندركها، وغاية الصيام التقوى، نفهم هذا من خلال منطوق الوحي الكريم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1)

قد يعصى المرء من حيث يبغي الطاعة

إن بعض المسلمين الذين ألزموا أنفسَهم على الطاعة ولو بشِق الأنفس قد يعملون خلافا للشريعة من حيث يظنون تحري الدقة في التزامها، فكما أمر الله بالصيام في أحوال، فقد أمر بالامتناع عن الصيام في أحوال أخر، وكذلك بقية العبادات المفروضة الأخرى، مراعاةً لمقتضى الحال، كيلا تكون العبادة عبئا باعثا على الضيق، وحملا ثقيلا يحمله الإنسان على مضض، وهو عن حَمله غير راضٍ، إنما يحمله خشيةَ السقوط في معصية موجِبة للعقاب فحسب، ولكننا نرى البعض إمعانا في الطاعة يرتكب معصيةً وهو يحسب أنه يُحسن صُنعا، ويجري نحو استحقاق العقوبة ظنا منه أنه يهرب منها، ويُسخط الله وهو يأمل إرضاءه، ويحمده وكان حريّا به أن يستغفره ندما وتوبة، فكما أمر الله بالصيام في عموم الأحوال فقد منع منه في أحوال مخصوصة، فإن تحققت شروطها كانت الطاعة تستوجب الإفطار بدلا من الصيام، فكما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ، قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (2)، وقال أيضا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (3)، ولكن البعض لا يتذكر إلا قوله سبحانه وتعالى في الآية الأولى، وينسى أقواله وأوامره الأخرى في الموضوع ذاته، وكأن الآمر غير الآمر! ولا يعلمون أنه كما أن الأمر بالصيام أمر واجب النفاذ ما لم يمنع مانع، أن الأمر بالامتناع عن الصيام أمرٌ واجب النفاذ أيضا ما دامت الموانع واقعة، وعلى الذين بحال الصحة والراحة وتنطبق عليهم كافة الشروط الشرعية أن يصوموا لأن الصيام في تلك الحال يحقق مصلحة ظاهرة وباطنة، فمن حيث المصلحة الظاهرة ما فيه من راحة للمعدة، وتخفيف على أجهزة الهضم وما يتعلق بها، وإزالة الشحوم من البدن مما يجعل الإنسان أكثر صحة وأبعد ما يكون عن الإصابة بأمراضٍ شتى، ويتحقق فيه قول النبي : «صوموا تصحوا»(4). ولعل قطاعا عريضا من الناس اليوم يعلمون ما كان خافيا في الماضي من فوائد الصيام وثمراته الطبية، فمن أشبع بطنَه وسمَّن بدنه ضعفت نفسُه وهزلت وانهزمت، وصارت شهواته غالبةً على روحانيته، وأصبحت متطلبات البدن لها اليد الطولى والسطوة المسيطرة، أما من ردَّ نفسه إلى القليل النادر الذي يقيم صُلبَه فحسب فقد ألجم تلك الشهوات وقيَّدها، واتخذها دابّة يوجهها حيث يشاء، أما مِن حيث المصلحة الباطنة فإن الصيام يفتح على الإنسان باب مكالمة الله تعالى وتلقي الإلهامات منه سبحانه وتعالى، وكأنه أقام جسور صلة سماوية بينه وبين الله عز وجل، فتبدأ بينهما سلسلة الإرسال والاستقبال، تماما كمن شحن بطارية الهاتف وضبط شريحتَه وأرسل مكالماتٍ واستقبل، فمن فقه تلك الحِكَم فبها ونعمت، ومن لم يفقهها فهو مأمور بالطاعة على كل حال.

التقوى في إتيان الرخص والعزائم

عزائم الأمور يُقصد بها الأحكام الشرعية في الأحوال العامة، أما الرُّخص فيقصد بها الأحكام الشرعية في الأحوال الاستثنائية. وكل من العزائم والرخص أوامر شرعية صادرة من ينبوع الحكمة ، لذا فمن التقوى أن تُتَّخذ رخص الله تعالى في محلها كما تُتَّخذ عزائمه في محلها، قال :

«إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه»(5)،

وكما يحب الله عبده الذي يطيعه في الأحوال العامة، يحب عبده الذي يطيعه في أحكامه الاستثنائية أيضا، فمن كان مسافرا أو خائفا فعليه بجمع الصلوات وقصرها.

الغاية ليست الإنهاك والمشقة

ليست المعاناة البحتة مقصود الشريعة أبدا، فهذه فكرة خاطئة تماما، وليس مصدرها سوى سوء الظن بالله الحكيم ، إنما تقوم شريعة ربنا على الطاعة كيفما كان الأمر، ولكن البعض يتصورون خطأً أنه ما لم تكن معاناة، ولو كانت مُهلكة، ما كانت عبادة، وأنه كلما كانت المشقة قاهرةً توشك أن تُزهق نفس الإنسان فلن يكون عند الله مَرضيّا، والحقّ أن هذا فهم خاطئ للشريعة ومقاصدها. الطاعة واجبة إذن في كل أمر، فإن كان في صيام رمضان طاعة، ففي الإفطار فيه ما دام الإنسان مريضا أو على سفر طاعة أيضا، على أن تُقضى أيام الإفطار في أيام أخر، فلا ينبغي أبدا أن نُلزمَ أنفسنا بشِقٍّ على حساب شِقٍّ آخر، ونعصي الله من حيث نظن أننا نطيعه.

أي جدوى من صيامه؟!

ماذا عساه يحرز من غايات الصيام كتزكية النفس وتطهير الباطن من صام مريضا أو مسافرا وهو يعاني معاناةً شديدةً من مرضٍ عضال ينهشه ويعطِّل حواسه أو سفر شاق يشغل تفكيرَه عواقبُه ومخاطره وما تركه خلفه وما يستقبله بعد بلوغه أرض القرار والتي من شأنها حتما أن  تحول بينه وبين التأمل والتدبر؟! وما المصلحة الظاهرة أو الباطنة التي يمكن أن تتحقق ممن باتت الشريعة عليه عبئا ثقيلا ينوء تحته؟ إن الشريعة تدور مع المصلحة أينما دارت وحلّت.

إضاءات من سيرة المسيح الموعود

ذات يوم في نهار رمضان كان المسيح الموعود كان في لدهيانة وفي طريق العودة الى قاديان نزل في أمرتسر بدعوة من أهله  وألقى محاضرة واستلزم ذلك سفرا طويلا يستلزم الإفطار تبعا للقاعدة الشرعية:

فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ،

وما أن اعتلى حضرته المنصة  وبدأ بإلقاء كلمته التي شعر خلالها بشيء في حنجرته فقدم له أحد المتواجدين كوب شاي وأخذ منه رشفة فثارت ضجة بين الغوغاء واتهامات بمخالفة أوامر الشريعة(6)، وبلغ الأمر حد التكفير وألوان من الاتهامات الباطلة الأخرى، وتعطَّل سير المحاظرة نظرا إلى هياج الغوغاء الجهلة الذين لا يفقهون من الشريعة إلا بقدر ما يعلمون من علوم النواة والذرة، وكاد حضرته يتعرض لمضايقات متعددة بناء على هذا الحكم الغبيّ ممن ليسوا أهلا لما نصّبوا أنفسهم له، وهكذا تُدار الأحكام الشرعية في كثير من جوانبها في عالَم اليوم، ولله الأمر.

أتذكر بتلك المناسبة حدثا حكاه الدكتور حاتم حلمي الشافعي المحترم حيث قال أن والده المغفور له بإذن الله تعالى الحاج محمد حلمي الشافعي كان عائدا من مدينة لندن ذات يوم، وكان الوقت نهار رمضان، وذهب حضرته لاستقباله في مطار القاهرة، واستقلَّا السيارة في اتجاه المنزل، فسأل الدكتور حاتم والدَه قائلا: صائمٌ والحمد لله؟ فرد قائلا: بل مُفطرٌ والحمد لله، فابتسم الدكتور حاتم متعجبا وقال: أفهم أن يكون الإنسان صائما في رمضان ويحمد الله، ولكن كيف يكون مفطرا وبالرغم من ذلك يحمد الله؟ فقال المرحوم أمر الله بالصيام في الظروف العامة، لكنه أمر بالإفطار في الظروف الاستثنائية، وأنا الآن في تلك الظروف الاستثنائية، وعلينا طاعة الله في هذه كما نطيعه في تلك، فإن وُفّق الإنسان إلى الطاعة في الرُّخص كما وُفّق في الطاعة في الفرائض فعليه أن يحمد الله أيضا.

الهوامش:

(البقرة: 184)

(البقرة: 185)

(البقرة: 185)

أخرجه ابن عدي في «الكامل « (2/357)

صحيح ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنه

6. سيرة المسيح الموعود لحضرة المصلح الموعود رضي الله عنه

Share via
تابعونا على الفايس بوك