جهاد الصيام في رمضان، قيقته، ومتطلباته ونتائجه

جهاد الصيام في رمضان، قيقته، ومتطلباته ونتائجه

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • هل لجهاد الصيام علاقة بمسألة تصفيد الشياطين في رمضان؟ وكيف؟
  • كيف لسلاح الدعاء أن يزداد حدة في هذا الشهر الفضيل؟
  • ما هي سن استجابة الدعاء عموما وفي رمضان خصوصا؟
  • ما هي ذرائع الوصول إلى الله عز وجل؟

____

خطبة الجمعة التي ألقاها أمير المؤمنين

سيدنا مرزا مسرور أحمد

 أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي بتاريخ 8/04/2022م

في مسجد مبارك بإسلام آباد، بريطانيا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يوْم الدِّين * إيَّاكَ نعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ ، آمين.

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة:187)

معنى تصفيد الشياطين المذكور في الحديث

إننا بفض الله تعالى نمر بأيام رمضان، وهذا الشهر شهر استجابة الأدعية، ولقد أعلن الله تعالى أنه يجيب الأدعية برحمته الخاصة في هذا الشهر، وأجرى ينبوع فيضه الخاص لأن الإنسان في هذا الشهر يقوم بجميع أعماله لنيل رضى الله تعالى حتى إنه يترك الطعام والشراب أيضا في فترة معينة بأمر من الله تعالى. لذلك قال النبي :

«إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِين» (صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق)

فإنه من حسن حظنا أن الله تعالى هيأ لنا أسبابا يمكن أن نتقرب بها إليه تعالى، وإنه سيكون من سوء حظنا إن لم نستفِضْ رغم تيسُّر هذه الأسباب. هل يمنع رمضان الزاني والسارق والفاسق والفاجر عن المعاصي؟ وإذا صُفِّد شيطان كل إنسان فكيف يمكن أن يقوموا بهذه الأعمال الشيطانية؟ إذن فهذه نصيحة للمؤمنين الذين يريدون التقرب إلى الله تعالى، فيقول لهم الله تعالى لأنكم امتثالا لأمري تمتنعون في شهر رمضان عن الأشياء المباحة لكم لذا أبشركم أن الشيطان الذي أُذن له في الحالات العادية -كما كان استمهل اللهَ- بأن يهاجم الإنسان من جميع الأطراف ويُغويه ويجعله تابعا له، قد قيّدته اليوم أو في شهر رمضان لمثل هؤلاء الناس وجعلتُ في حصن الأمان كليًّا أولئك الذين يصومون لي ويقللون من طعامهم وشرابهم ويسعون ليزدادوا روحانية، كما قال المسيح الموعود إنهم يقللون من غذاء مادي ويزيدون من غذاء روحاني، أو يسعون لذلك. وهذه هي روح رمضان وروح الصيام، وهؤلاء هم الذين يسلسل الله تعالى الشيطانَ لهم كليا.

إن قول الله تعالى: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.»(1) ما أعظمها من بشرى لذا علينا أن نغتنمها ونسعى لندخل من جميع أبواب الجنة التي فتحها الله تعالى لنا، وينبغى ألا نكون من الذين يقول عنهم الله تعالى ليس لي حَاجَةٌ فِي أَنْ تدَعوا طَعَامَكم وَشَرَابَكم.(2) إذا تسحّرتم قبيل الصبح وأفطرتم مساء ولم تقوموا بالحسنات المرجوة منكم في الليل وفي النهار فلن يجديكم الجوع والعطش والامتناع عن الأكل والشرب طول النهار، ولا يحتاج الله تعالى لتبقوا جائعين وعطشى. هذا ما علمنا النبي ، لذا ثمة حاجة إلى فهم هذه الروح التي هي غاية رمضان لنقضي حياتنا بحسبها.

خارطة الطريق للفوز بالله تعالى

هذه الآية التي تلوتها قد وردت بين الآيات التي تتحدث عن فرضية صيام رمضان وأحكامه وأهميته، وبيَّن الله تعالى في هذه الآية طريقَ استجابة الدعاء أو ذكر الذين يُستجاب دعاؤهم، والذين يريدون أن يصبحوا عبادَ الرحمن ويتجنبوا الوقوع في فخ الشيطان ويروا مشاهد استجابة أدعيتهم. فبدأ الله تعالى الآية بقوله إذا سألك عبادي أيها الرسول، أين إلهنا؟ إذا سألوا بلوعة مثل العشاق وأظهروا حرقتهم لبذل كل السعي من أجل الفوز بالله تعالى، فقل لهم لا تقلقوا إني قريب منكم. فالشرط الأول للفوز بالله تعالى هو أن يكون المرء عبدًا لله، فإذا كان المرء يؤدي حق عبودية الله استجاب الله تعالى دعاءه وصفّد شيطانه، وكلما هاجمه الشيطان جاء الله لحمايته، ليس في شهر واحد؛ شهر رمضان فقط، بل سيحميه الله تعالى من حملات الشيطان دوما إذا كان يؤدي حق عبودية الله ويستجيب لأوامره دوما، ولا يكتفي بأداء الحسنات في رمضان فقط بل يؤدي دوما حقوق الله وحقوق العباد ويعمل بتعليم القرآن ويقوي إيمانه. قال الله تعالى عليكم أن توقنوا وتؤمنوا إيمانا كاملا بجميع صفاتي ثم انظروا كيف تُستجاب أدعيتكم أيضا، فالذين يغيرون حياتهم هكذا يفوزون بالرشد والهدى حقيقة. فالذين هم من بيننا ويجعلون رمضان هذا وسيلة دائمة لاستجابة الدعاء ويصبحون عباد الله حقيقة ويعملون بأحكام الله تعالى ويُكملون إيمانهم، فهم حقًّا السعداء.

إننا سعداء بحيث وفقنا الله تعالى للإيمان بإمام هذا الزمان المحب الصادق للنبي المسيح الموعود والمهدي المعهود ، الذي علّمنا سبل التقرب إلى الله تعالى وطرق استجابة الدعاء وأساليب الدعاء. قال المسيح الموعود في مناسبة: «الباب الوحيد الذي فتحه الله لصالح خلقه هو الدعاء. فحين يدخل أحدٌ هذا الباب باكيًا متضرعًا فإن الله يخلع عليه رداء الطهارة والطِيبة، ويورد عليه غلبة عظمته بحيث يبتعد أميالا من الأمور غير اللائقة والتصرفات الباطلة، فكيف يؤمن  الإنسان بالله ثم لا يجتنب المعاصي؟!» (3)

فلزام على المرء أن يفحص معتقده وأعماله قبل الدعاء، لأن من سنة الله أن الإصلاح يتم بالأسباب، حيث يخلق الله سببًا ما يؤدي إلى الإصلاح. والذين يقولون ما الحاجة إلى الأسباب مع الدعاء عليهم أن يتوقفوا هنا على وجه الخصوص وقفة تأمُّلية. (أي الذين يقولون يكفي الدعاء ولا حاجة للعمل والأسباب الأخرى والسعي، قال ) يجب أن يفكر هؤلاء الأغبياء أن الدعاء بحد ذاته سبب خفي يؤدي إلى أسباب أخرى

متطلبات العبودية لله واستجابة الدعاء

ثم وضّح المسيح الموعود الحال التي لا بد من استحضارها لاستجابة الدعاء ومتطلبات تلك الاستجابة، وكذلك متطلبات العبودية لله تعالى، فقال:

«إن الذي لا يقوم بالعمل فإنه لا يقوم بالدعاء بل يختبر الله تعالى، لذا فلا بد من استنفاد جميع القوى والقدرات قبل الدعاء، وهذا هو معنى هذا الدعاء اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . فلزام على المرء أن يفحص معتقده وأعماله قبل الدعاء، لأن من سنة الله أن الإصلاح يتم بالأسباب، حيث يخلق الله سببًا ما يؤدي إلى الإصلاح. والذين يقولون ما الحاجة إلى الأسباب مع الدعاء عليهم أن يتوقفوا هنا على وجه الخصوص وقفة تأمُّلية. (أي الذين يقولون يكفي الدعاء ولا حاجة للعمل والأسباب الأخرى والسعي، قال ) يجب أن يفكر هؤلاء الأغبياء أن الدعاء بحد ذاته سبب خفي يؤدي إلى أسباب أخرى.» (4)

فلاستجابة الدعاء ولكون المرء عبد الله لا بد له من أن يسعى ليسأل الله فضله، ذلك بأن يبتهل ويتضرع ليدخل في زمرة عباد الله، ويسعى لذلك، ويدعو، أن يا رب أدخلني في عبادك الذين هم حقا عبادك المخلصين من حيث الإيمان والأعمال. وعليه قبل أن يقوم بالدعاء أن يسعى ليجعل أعماله خالصة لله، ويكون من أولئك العباد الذين إيمانهم غير متزعزع وهم ثابتون على إيمانهم. وهم يوقنون بأن الله قادر على أن يحوّل التراب إلى ذهب، وعلى أن يُدخل الغارقين في فسادهم في عباده، ويهديهم إلى سبيله فيسلكوا سبله . لقد بيّن الله تعالى هذا الموضوع في القرآن الكريم وقال بأن الذين يسعون جاهدين للسلوك في سبيله فسوف يهديهم إليه كما يقول :

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (5)

إذن، فشهر رمضان شهر هذا الجهاد بوجه خاص، فيجب أن نبذل قصارى جهودنا ونجاهد لنكون من عباد الله الذين هم مقرَّبون إليه والذين يجيب الله أدعيتهم والذين يعملون بأوامره والذين يؤمنون إيمانا كاملا وعلى يقين تام بصفات الله كلها، والذين هم مهتَدون في الحقيقة، وأن نكون من الذين صُفِّد شيطانهم إلى الأبد. ولكن لهذا الغرض نحن بحاجة إلى الجهاد كما يتبين من قول الله تعالى، وعلينا أن نجعل حياتنا خاضعة لرضا الله تعالى. لقد أرشدنا المسيح الموعود إلى هذا الموضوع في مناسبات مختلفة ومن زوايا مختلفة فقال : «كيف يمكن لشخص يتهاون إهمالا منه أن يستفيض من فيض الله كالذي يبحث عنه عز وجل بكل عقله وقوته وبكل إخلاص؟ وإلى هذا الأمر أشار الله تعالى في آية أخرى فقال:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا

فقد بيّن المسيح الموعود هنا أنه لا يمكن أن يُدخل الله تعالى المهملين والكسالى أيضا في الذين يسعون لنيل قربه بكل مواهبهم وقواهم ويجاهدون في سبيله. يتساءل بعض الناس ويكتبون إلي في الرسائل أنهم دعَوا كثيرا ولكن لم ينجحوا في مرامهم. فالذين يقولون ذلك هم المخطئون، والله تعالى لا يخطئ. ما يراه الإنسان مستوى عاليا من الجهاد أو العبادة يكون ناقصا عند الله ويكون صاحبه بحاجة إلى مزيد من الجهاد. ثم على المرء أن يفحص أسلوبه في الدعاء أيضا.

لقد شرح المسيح الموعود في المقتبس المذكور أن الذي يبحث عن الله بكل عقله وقوته وإخلاصه يهديه الله تعالى سبله حتما. ولكن يجب أن نرى هل عملنا بأمر الله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بكل ما أُعطينا من العقل والقوى والمواهب الأخرى؟! وهل نسعى جاهدين للعمل بأوامره الأخرى؟ وقد بذلنا جهودنا كلها في تلبية كل نداء صادر من الله تعالى فهل نعمل بأوامره بالإخلاص الكامل والوفاء الكامل؟ وإلا فيجب ألا نشكو بأن الله تعالى لا يسمع دعاءنا، فلا بد من التقدم إلى الله تعالى بخطوات حثيثة مغيِّرين حالتنا قبل أن تُقبل أدعيتنا، فلا بد من الجهاد. على المرء أن يبلغ في الجهاد الذروة. إن الله تعالى رحيم بعباده لدرجة أنه يَعُدّ سعيا بسيطا من العبد جهادا ويُكرمه بأفضاله. إن رحمته تحيط بكل شيء وبالنتيجة يسهل الجهاد أيضا على العبد.

عَنِ النَّبِيِّ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: «إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.»(6)

إذن، هذه هي كيفية رحمة الله تعالى. ولكن الشرط بهذا الشأن هو الإخلاص والوفاء. وليس معنى ذلك أن يدّعي المرء أنه سيلتزم بالصلاة في رمضان وسيعمل بأوامره ويؤدي حقوق الله وحقوق العباد أيضا، ويفعل ذلك أيضا بالفعل، ثم ينسى الله وأوامره بعد انقضاء رمضان وتتغلب عليه المادية. وإذا فعل ذلك لا يصح شكواه من الله أنه قال أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان ولكنه لم يجب أدعيته مع أنه دعا كثيرا في شهر رمضان. تذكروا دائما أنه لا يخفى على الله شيء. فهو يعلم أنه قد سبق للإنسان أن عقد عهودا قبل هذا العهد أيضا ونقضها وإنه متوجه إلى الحسنات في شهر رمضان فقط. ثم يعامل الله تعالى كما يشاء مع هذا النوع من الناس. وليكن معلوما أيضا أن الله تعالى يجيب بعض الأدعية لمثل هؤلاء الناس أيضا ليعلموا أن الله مجيب الدعوات لذا عليهم أن يكونوا خاضعين لله تعالى دائما. إذن، إن الله تعالى لا يظلم العباد بل يريد أن يحتضنهم دائما. وهو يفرح بمجيء العباد إليه والعمل بأوامره بالإخلاص أكثر من فرحة الأم حين تجد ولدها المفقود، أو كفرحة مسافر في فلاة حين يجد بعيره المفقود الذي عليه متاعه كله.

لقد بيّن لنا النبي كيفية فرحة الله بضرب هذه الأمثلة. إذن، نحن الذين نقصّر في أداء حقوق الله تعالى ثم نشكو أنه لم يسمع أدعيتنا. فعلينا أن نحاسب أنفسنا من هذا المنطلق ويجب أن نتعهد أننا سنجعل شهر رمضان هذا العام وسيلة للوصول إلى الله ، ونسعى جاهدين للعمل بأوامره ونواصل هذا الجهاد بنية الفوز برضا الله تعالى وقربه مهما كانت الظروف ومهما طال هذا الجهاد، وسنقوّي إيماننا أكثر فأكثر. فلو استحضرنا هذه الحال سنرى معجزات استجابة الدعاء. وهذا ليس كلاما باللسان فقط بل قد سبق أن نال الناس هذا المقام وينالونه الآن أيضا.

يقول المسيح الموعود : لقد مرت 1300 عام على نزول هذه الآية، ولا شك أن كل من جاهد في هذه الفترة بحسب مضمون هذه الآية نال نصيبه من الوعد لَنَهْدِيَنَّهُمْ وسينال في المستقبل أيضا. فيجب أن نسعى جاهدين لنيل نصيبنا من أفضال الله تعالى وألا نضعف في جهادنا الذي هو جهاد العمل بأكثر من سبعمائة أمر قرآني وجهاد تقوية إيماننا وجهاد التحلي بصفات الله تعالى. يجب أن نخطو إلى الأمام دوما وأن يكون رمضان الحالي شاهدا على جهادنا هذا.

أقدم لكم مزيدا من المقتبسات من كلام المسيح الموعود حول هذا الموضوع، فالحاجة ماسة للاستماع لهذا الموضوع مرارا وتكرارا، وإذا صار جزءا من حياتنا في الحقيقة، فبوسعنا إحداث الانقلاب في العالم، يقول حضرته :

«كما نشاهد بكل وضوح في حياتنا الدنيوية أن لكل عمل من أعمالنا نتيجة محتومة هي مِن فِعل الله تعالى، كذلك تماما يسري القانون نفسه في أمور الدين، كما يصرح الله بذلك في هاتين الآيتين:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا فَلَما زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ .

أي أن الذين بذلوا الجهد كله في ابتغاء مرضاة الله، سنجزيهم مقابل ذلك هداية إلى سبيلنا حتمًا، وأما من اعوجَّ ولم يُردِ السيرَ على الطريق المستقيم قابل الله فعلَه هذا باعوجاج قلبه.» (7)

فقد قدم حضرته هذا الموضوع من منطلق آخر. أي يقول الله إذا كنتم تنالون فيوضنا بالجهاد من أجل الاهتداء إلى سبلنا، فاعلموا أن لهذا الأمر جوانب سلبية أيضا وهي أنكم إن لم تسيروا على سبيلي فسوف تزيغ قلوبكم، وستقعون في حضن الشيطان نتيجة عدم سلوككم سبل الله ناهيكم عن قبول أدعيتكم، والذي يقع في حضن الشيطان فهو يسيء إلى دنياه وعقباه كلتيهما، ففي هذا الأمر إذا كان هناك بشارة ففي الوقت نفسه ثمة إنذار أيضا من جانب آخر.

ثم يقول حضرته موضِّحًا الموضوع في موضع آخر: «تطرأ على قلب الإنسان بانتظام حالاتٌ عديدة، وفي نهاية المطاف يزيل الله تعالى الضعف من الأرواح السليمة، ويهب لها القوة على إحراز الطهارة والحسنة، فيرى الإنسان مكروها كلَّ ما هو مكروهٌ عند الله، ويكون محببا في نظره كل ما هو محبوب عند الله ويعطَى قوة لا ضعف بعدها، وحماسا لا كسل بعده ويوهب تقوى لا معصية بعدها. ويرضى عنه الرب الكريم فلا يخطئ بعد ذلك. ولكن هذه النعمة تتسنى بعد مدة طويلة. إذ يتعثر الإنسان كثيرا في البداية نتيجة أخطائه ويسقط إلى الأسفل ولكن القوة العليا تجذبه إلى الأعلى بعد أن تجده صادقا. (أي تجذبه قوة الله إليه) وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا

أي نثبِّتهم على التقوى والإيمان ونهدينَّهم سبل المحبة والعرفان وسنيسِّرهم لفعل الخيرات وترك العصيان.» (8)

الإنسان لا يصبر على حال واحدة

لقد أسدى لنا المسيح الموعود نصائح بأساليب شتى انطلاقا من قوله تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا وفتح لنا أبواب العلم والمعرفة. ففي هذا المقتبس الذي قرأته عليكم قد فصَّل لنا ببيان الطبع الإنساني، أن الإنسان لا يسعُه الدوامُ على حال واحدة، حيث يواجه الطبعُ الإنساني المد والجزر، أما السعيد فيتلقى درسا من حالة الضعف، فيستغفر الله ويتوب إليه، وينيب إليه نادما على ضعفه ويصدع بالبحث عن الله فتفور رحمة الله ومغفرته من جديد، فيأتي عبدَه هرولة، فيهب له القوة على إحراز الطهارة والصلاح، فحين تتولد في الإنسان قدرةٌ على إحراز الطهارة والصلاح، يصبح كل فعل له حائزا على رضوان الله ، فيتخلص من كل أنواع الضعف والكسل ويسير على سبل التقوى، ويُنقَذ من الذنوب. فالذي ينال رضوان الله هذا فلا تصدر منه الأخطاء التي تؤدي إلى سخط الله.

فقال : لكن تذكروا أن الفوز بهذه الحال يتطلب الصبر والجهد الدؤوب، ولا يفيد الجهد المؤقت بل ثمة حاجة إلى الجهود المتواصلة، عندها تصبح هذه الحسنات ومشاهد إجابة الدعاء جزءا لا يتجزأ من حياته.

الإلحاح في دعاء «اهدنا الصراط المستقيم»

يقول حضرته في موضع آخر:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ، هذا وعدٌ، ومن ناحية أخرى علَّمنا دعاء: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، فعلى المرء أن يدعو في الصلاة بإلحاح واضعا هذا الدعاء في الحسبان ويتمنى أن يكون من الذين ارتقوا ونالوا البصيرة، ويحْذر أن يُحشر من هذا العالم أعمى وبغير بصيرة. (9)

فللفوز بهذه الدرجة حيث يهدي الله عبدَه سُبلَه، من الضروري أن يكرر جملة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مرارا وتكرارا أثناء قراءته الفاتحةَ. فقد روى أحدهم من أمر أحد الصلحاء في قاديان في الصلاة، فيقول: لقد رأيت أحد صحابة المسيح الموعود يصلي قائما في زاوية من المسجد المبارك، وقد طرأت عليه خشية متناهية ورقة كبيرة، ولاحظت أنه قد طال قيامُه ضامًّا يديه، فنشأ لدي فضول لمعرفة ماذا يقول إذ كنت أسمع منه همسا، فلما دنوت منه سمعتُه يقول مرة بعد أخرى بمنتهى الرقة والخشوع: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . فهذا الدعاء يجب أن يردده الإنسان كثيرا لهدايته.

من سنن الاستجابة، العمل بالأسباب المادية أيضا

ثم يقول حضرته في موضع آخر: من وعد الله الصادق أن الذين يبحثون عن سبيله بصدق القلب وحسن النية يفتح الله عليهم سبل الهداية والمعرفة كما يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا . أي الذين يجاهدون من خلالنا نفتح عليهم سبلنا. والمراد من «من خلالنا» هو أنهم يجاهدون بمحض الإخلاص وحسن النية واضعين البحث عن الله تعالى نصب أعينهم، أي ينحصر جهدهم في البحث عن الله فقط ولا يكون لهم كسب الدنيا وإنما غايتهم المتوخاة الفوز بقرب الله بإخلاص. أما إذا امتحن أحدهم الله على سبيل الاستهزاء والسخرية فيحرم ويشقى. فإذا داومتم على السعي والدعاء بصدق القلب بحسب هذا المبدأ الطيب فإن الله غفور رحيم. ولكنه إن لم يعبأ أحد بالله، فهو غني أيضا، (فلن يعبأ بكم هو الآخر.) (10)

ثم يقول حضرته :

لا بد للإنسان من المجاهدة أولا في جميع المشاغل الدنيوية، (ويمكن أن تلاحظوا هذا المثال في الأعمال المادية أن الإنسان لإحرازها لا يجد بدا من بذل الجهود أولا) وعندما يسعى المرء جاهدا يبارك الله له. كذلك لا ينال الكمال في سبيل الله إلا الذين يجاهدون. ولذلك قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا . فلا بد من بذل المساعي لأن المجاهدة هي حصرا سبيل النجاح. (11)

إذا كنا نوصل جهودنا إلى منتهاها من أجل حيازة متاع الدنيا، فلماذا لا نبلغ مساعينا ذروتها من أجل السلوك في سبل الوصول إلى الله تعالى؟ ولماذا نظن أننا إذا قلنا شيئا بأفواهنا فسنفوز بعون الله تعالى أو أنه سيستجيب دعاءنا. وبهذا قد وصلنا إلى النتيجة نفسها وهي أن الذين يقولون بأن أدعيتهم لا تستجاب، عليهم أولا أن يستعرضوا حالتهم، لأنه لا يمكن أن يتم الفوز بالله تعالى بيسر وسهولة، أما الحصول على الأشياء الدنيوية فلا تُنال إلا من خلال الجهد والمشقة، بل ينبغي أن ينطبق هذا الأصل في كل مكان.

يقول المسيح الموعود وهو يذكر أنه لا بد من بذل الجهد والسعي من أجل الفوز بالله تعالى: والذين يجاهدون في سبلنا سيصلون إلى الهداية في نهاية المطاف. فكما تفقد الحبة المزروعة البركةَ إن لم يصحبها السعي والريّ، بل تفنى، كذلك لو لم تذكروا هذا الإقرار كل يوم ولم تدعوا الله لينصركم، لما نزل عليكم فضل الله. والمعلوم أن التغيّر بدون نصرة الله محال. (12)

فإن من قوانين القدرة الإلهية -وهو ضروري لنيل الله تعالى أيضا- أنه لا يجلس الفلاح عاطلا بعد بذر البذرة، كذلك إذا ظنّ الإنسان أنه آمن ثم جلس فلن يحقق شيئا بل ينبغي عليه أن يبذل الجهد ويعتني بأشجار إيمانه.

ثم يقول حضرته : مَن توجّه إلى الله تعالى توجّه الله إليه، ولكن من الضروري ألا يقصر المرء في ذلك قدر الاستطاعة. فعندما يبلغ سعيه منتهاه فسيرى نورا من الله تعالى. فقد أشير في: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا إلى أن يؤدي المرء واجباتٍ كُلِّف بها. فمثلا إذا كان الوصول إلى الماء ممكنا بعد الحفر إلى 20 ذراعا ولكنه يترك السعي بعد الحفر إلى ذراع أو ذراعين لما حظي بالنجاح. إن أصل النجاح في كل أمر هو ألا يثبط المرء من همَّته. لقد وعد الله تعالى هذه الأمة أنه إذا دعا أحد وزكّى نفسه تماما لتحققت في حقه كل الوعود الواردة في القرآن الكريم. (أي من يقوم بالدعاء بكل همة ويقوم بتزكية النفس بشكل كامل فلابد أن تتحقق له كل وعود القرآن الكريم.)

أما من قام بخلاف ذلك حُرم لأن الله تعالى غيور. لقد جعل الله السبيل المؤدي إليه مفتوحا ولكنه جعل أبوابه ضيقة. فلا يصل إليه إلا من شرب كأس المرارة. (أي إنه يحتاج إلى المجاهدة) إن الناس يتحملون الآلام في سبيل الدنيا حتى يهلك بعضهم ولكنهم لا يريدون أن يتحملوا وخزة شوكة من أجل الله. فما لم تظهر من الإنسان علامات الصدق والصبر والوفاء كيف يمكن أن تظهر علامات الرحمة من الجانب الآخر؟ (أي إن لم تظهر من العبد علائم الصدق والصبر والوفاء فكيف تظهر من الله علامات الرحمة إذن.) (13)

وفي هذا ردّ على سؤال أولئك الذين يقولون بأننا دعونا كثيرًا ولكن لم يُستَجب لنا. كأنهم يريدون أن يلزموا الله تعالى قائلين بأننا سنأتي إليك عندما نشاء وعندما نحتاج إلى شيء، أما الله تعالى فمن واجبه أن يقبل دعواتنا على النحو الذي نريده. قال المسيح الموعود : لكنهم يرون أنه لا يحدث هكذا في قانون الدنيا وتعاملاتها، فلماذا يتوقعون حدوثه فيما يتعلق بالله تعالى بحيث يتحقق لهم كل شيء كما يريدون وبدون بذل أي جهد أو تعب؟. فلقد نصح حضرته هنا أيضا أن تأتوا إلى الله تعالى مخلصين، عندها سترون مشاهد حب الله تعالى.

ثم يقول حضرته : تذكّروا جيدا أن الإيمان دون الأعمال كحديقة دون أنهار (أي كحديقة تُزرع دون الريّ). فلو لم يتنبه صاحب الحديقة إلى الأشجار التي يزرعها فستيبس يوما من الأيام. كذلك هو حال الإيمان وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ؛ أي لا ترضوا بالأعمال الخفيفة بل هناك حاجة للمجاهدات العظيمة في هذا السبيل. قد شُبّهت النفس بالثور. (14)

فيقول الله تعالى: وَلْيُؤْمِنُوا بِي أي ينبغي للذين يدعونني أن يؤمنوا بي أيضا، أي ينبغي أن يؤدوا حق الإيمان بالله تعالى من خلال أدائهم حقوق الله وحقوق العباد. والله تعالى يأمر عباده بتنمية حديقة الإيمان والاعتناء بها. ونلاحظ بخصوص شجيرات مزروعة في حدائق بيوتنا أنها تموت إذا لم نواظب على الاعتناء بها. فكيف يمكننا إذن أن نترك حديقة الإيمان بلا اعتناء أو اهتمام.

يتناول المسيح الموعود الموضوع نفسه من زاوية أخرى فيقول: يقول تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا

، معنى ذلك أنه لا بد من الجهد والسعي في هذا السبيل مع الرسول. لا يليق بالمجاهد أن يهرب بعد ساعة أو ساعتين، بل عليه أن يكون جاهزا للتضحية بالروح لأن الاستقامة علامة المتقي. (15)

عندما تعهدنا في عهد بيعتنا أننا سنؤثر الدين على الدنيا فنحن بحاجة إلى أن نتساءل للالتزام بهذا العهد. ماذا يريد الدين منّا أن نوثره وبعد ذلك نبقى متشبثين به بكل مثابرة؟

ثم يقول حضرته : الذي يجاهد في سبيل الله خاشعا له وحده ويدعوه لحل المعضلات في هذا السبيل يأخذ الله تعالى بيده بحسب سنته:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا

ويمسك بيده فيهديه الطريق ويهبه الطمأنينة القلبية. أما إذا كان قلب المرء مظلما ويثقل لسانه عند الدعاء وكان متورطا في معتقدات الشرك والبدعة، فما معنى مثل هذا الدعاء وما قيمة هذا الطلب حتى تترتب عليه نتائج حسنة. (16)

فينبغي أن نحاسب أنفسنا ونبحث عن سبل الوصول إلى الله تعالى مفكرين ما إذا كانت قلوبنا خالية من وجود غير الله تعالى أم لا.

التوبة والاستغفار، ذريعتان للوصول إلى الله عز وجل

ثم يوجه حضرته نفوسنا إلى التوبة والاستغفار فيقول: إن التوبة والاستغفار وسيلتان للوصول إلى الله تعالى. يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[، أي ينبغي أن تبذلوا قصارى جهودكم وتواظبوا على سلوك هذا السبيل فسوف تصلون إلى الهدف المنشود.

قال حضرته :

يبدو لنا من هذه المسألة -بحسب تعليم القرآن الكريم- أن الله تعالى من ناحية يذكر في القرآن الكريم صفات كرمه ورحمته ولطفه ورأفته ويذكر أنه رحمن، ومن ناحية أخرى بقوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وبقوله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا يحصر فيضه في السعي والمجاهدة. ففي حياة الصحابة رضي الله عنهم أسوة حسنة وقدوة رائعة لنا. تأملوا في حياتهم y، أيمكن القول بأنهم نالوا تلك المدارج نتيجة الصلوات العادية فقط؟ كلا، بل لم يأبهوا بحياتهم أيضا للفوز برضا الله وقُتلوا في سبيل الله كالخراف والشياه؛ عندها نالوا هذه المرتبة. لقد رأينا كثيرا من الناس الذين يريدون أن يُعطوا درجات عليا بنفخة واحدة، ويصلوا إلى العرش. (ولكن لا يمكن أن يحدث ذلك.) (17)

فلا شك أن الله تعالى رحيم كريم، ومع ذلك فإنه تعالى قد اشترط على الذين يريدون أن يكونوا كاملي الإيمان أن يكونوا من المجاهدين في سبيله تعالى، وإذا فعلوا ذلك فسوف يرفع الله مكانتهم باستمرار، ويرون مشاهد قبول الدعاء، ويرون مشاهد رحمانية الله ورحيميته أكثر في أحوال الصحابة الكرام الذين تفانوا في حب الله تعالى بما لا مثيل له، ومن قتل منهم في سبيل الله نال بشرى جنات الله ورضوانه تعالى.

ثم يقول المسيح الموعود : إن الذين يسعون باضطراب والتياع للوصول إلى الله من خلاله هو سبحانه وتعالى، لا تذهب مساعيهم ومشاقهم سدى، بل يُهدَون ويُرشَدون حتما. إن من يخطو نحو الله تعالى بصدق وإخلاص نية يتقدم الله إليه لكي يهديه. فمن واجب الإنسان أن يتدبر ويخلق في نفسه اضطرابا وعطشا صادقا للوصول إلى الله تعالى، ويلتزم السبل التي أخبر الله عنها لتوسيع نطاق معلوماته. إن الله تعالى يستغني عن الذي لا يعبأ به تعالى.

الدعاء نوع من الموت

ثم يقول حضرته : «اسعوا جاهدين لإصلاح أنفسكم، وادعوا الله تعالى في صلواتكم، وادخلوا في زمرة الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا بدفع الصدقات وببذل كل نوع من الجهود الأخرى. فكما أن المريض يتخذ كل تدبير للتخلص من مرضه؛ حيث يذهب إلى الطبيب، ويتناول الدواء، ويشرب المشروب المـُسْهِل، أو يلجأ إلى الحجامة أو الكمادات، كذلك فابذلوا كل ما في وسعكم للتخلص من أمراضكم الروحانية، ولكن ليس باللسان فقط، بل اتخذوا كافة أساليب المجاهدة التي ذكرها الله تعالى.

فهذه هي الطريقة التي ينفتح بها سبل وصال الله تعالى.

ثم إن سيدَنا المسيح الموعود يوجهنا إلى ضرورة القيام بالأدعية حيث قال:

على المرء أن يستقبح هذه الحياة الدنيا بحيث يسعى للخروج منها. لا تعدّوا هذه الحياة الدنيا كل شيء، بل عُدّوا هذه الحياة -أعني الحياة التي لا يرغب صاحبها إلا في متعها المادية فقط- حياةً عابرة وقبيحة، واستعينوا بالدعاء لأن المرء إذا قام بالتدبير كما هو حقه ودعا أدعية صادقة نجاه الله تعالى من هذه الدنيا الدنية في آخر المطاف، فيخرج من حياة الإثم، لأن الدعاء ليس بشيء هين، بل هو نوع من الموت، فإذا رضي بهذا الموت نجاه الله تعالى من حياة الإثم والجريمة التي هي سبب الموت، ويهب له حياة طاهرة.

ثم قال : إن كثيرا من الناس يعدُّون الدعاء شيئا عاديا. اعلموا أنه ليس من الدعاء في شيء أن يصلي المرء صلاة عادية ثم يجلس بعدها رافعًا يديه، ويقول ما جاء على لسانه. كلا، لا جدوى من مثل هذا الدعاء لأنه يكون مثل ترديد وِردٍ من الأوراد فحسب، لا يشارك فيه قلبه ولا يكون مقرونا بإيمان بقدرة الله وقوته تعالى. اعلموا أن الدعاء نوع من الموت، وكما أن الموت يكون مصحوبا باضطراب وقلق، كذلك يجب أن يكون الدعاء مقرونا بمثل ذلك الاضطراب والقلق والحماس، ولذلك لا يجدي الدعاء نفعا ما لم يكن مقرونا بكامل الاضطراب والحرقة. فعلى المرء أن يستيقظ في جوف الليالي ويعرض على الله تعالى مسألته في غاية التضرع والبكاء والابتهال، ويواظب على مثل هذه الحال حتى يبلغ حالا هي كالموت، عندها يصل الدعاء درجةَ الاستجابة.

فقد روى أحدهم من أمر أحد الصلحاء في قاديان في الصلاة، فيقول: لقد رأيت أحد صحابة المسيح الموعود يصلي قائما في زاوية من المسجد المبارك، وقد طرأت عليه خشية متناهية ورقة كبيرة، ولاحظت أنه قد طال قيامُه ضامًّا يديه، فنشأ لدي فضول لمعرفة ماذا يقول إذ كنت أسمع منه همسا، فلما دنوت منه سمعتُه يقول مرة بعد أخرى بمنتهى الرقة والخشوع: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . فهذا الدعاء يجب أن يردده الإنسان كثيرا لهدايته

ما أهم دعاء يدعوه المرء؟!

وقال : اعلموا أيضا أن أول وأهم دعاء هو أن يدعو المرء للتخلص والتطهر من آثامه. وهذا الدعاء هو أصل كل الأدعية، لأنه إذا أجيبَ هذا الدعاء وتخلص المرء من كل أنواع الأرجاس والأوساخ وصار مطهَّرا عند الله تعالى، فلا يحتاج بعدها لأن يدعو من أجل حاجاته الدنيوية الأخرى، بل تُسد حاجاته تلقائيا. إن أكبر الأدعية مشقة وجهدا إنما هو ما يكون للتطهر من الذنوب. إن أعظم دعاء هو أن يدعو المرء للتخلص من آثامه ويكون في عداد المتقين والصالحين عند الله تعالى. أعني أنه لا بد من زوال الحجب الأولية التي تكون على قلب المرء، فإذا زالت هذه الحجب فلن يحتاج إلى بذل كثير من الجهد لإزالة الحجب الأخرى، إذ يحالفه فضل الله تعالى فتأخذ الأخطاء والتقصيرات الأخرى في الزوال من تلقائها. وإذا صار باطن المرء طاهرا مطهرا ونشأت بينه وبين الله علاقة صادقة، تكفله الله وتولاه بنفسه، وسدّ حاجاته تلقائيا قبل أن يسأل الله أن يسد حاجة من حاجاته. وهذا سر عميق لا ينكشف إلا بعد أن يبلغ المرء هذا المقام، أما قبله فمن الصعب جدا استيعابه. ولكن هذا الأمر يتطلب مجاهدة عظيمة، لأن الدعاء أيضا يتطلب مجاهدة، أما الذي لا يعبأ بالدعاء ويظل بعيدا فإن الله تعالى أيضا لا يعبأ به ويبتعد عنه. لا تنفع العجلة وقلة الصبر في هذا الأمر. إن الله تعالى يهب من فضله ورحمته ما يشاء ومتى يشاء، ولا يليق بالسائل أن يشتكي على عدم العطاء فورا، ولا أن يسيء الظن بالله تعالى، إنما عليه أن يسأل الله تعالى مثابرا صابرا.

وفقنا الله تعالى للعمل بهذه النصائح، ويجعل رمضاننا هذا وسيلة لإنشاء تعلق قوي بالله تعالى، وأن يجعلنا من العاملين بأحكامه ومن المؤمنين به إيمانا كاملا، ومن الذين يرون مشاهد استجابة دعائهم، وأن يديم علينا هذه الحال في رمضان، وبعد رمضان أيضا نكون من الذين يسعون لأن يكونوا من عباده المخلصين. وهدانا الله تعالى سبله التي لا نزيغ عنها أبدا، بل نحظى بنظرات حبه ولطفه دائما وأبدا، وأن نكون من الذين يؤدون حق بيعة إمام هذا الزمان، وألا نُحرَم من هذا الإنعام بعد الفوز به أبدا، هذا الإنعام الذي وهبنا إياه بفضله، أعني إنعام الإيمان بإمام هذا الزمان. حفظنا الله تعالى من شرور معارضينا وأعدائنا دائما. وردَّ كيد أعدائنا في نحورهم مستجيبا لأدعيتنا، وهيَّأَ الأسباب لازدهار الجماعة دوما. اجعلوا رمضاننا هذا وسيلة لأدعيتكم المجابة. وفقنا الله تعالى لذلك. وادعوا لتحسن أوضاع العالم أيضا، وأن يحمي الله تعالى الدنيا من الدمار، ويلهم أهلها العقل لكي يعرفوا خالقهم.

بعد صلاة الجمعة سوف أقوم بافتتاح موقع أنشأته قناتنا ايم تي اي العالمية. لقد أنشأوا تطبيقا في الهاتف الخلوي جمعوا فيه خطبي للجمعة التي ألقيتها في بيان محاسن 313 من الصحابة البدريين رضي الله عنهم. سيتيح هذا الموقع للإخوة الاستماع لسلسلة خطب الجمعة هذه، كما يمكنهم من قراءة الملفات الشخصية للصحابة البدريين، كما توجد فيه سهولة تمكن القارئ أو المستمع من وضع علامة حيث انتهى في القراءة والاستماع. كما يوجد في هذا الموقع سلسلة من الأسئلة والأجوبة عن كل صحابي، بالإضافة إلى خرائط مفيدة عن شتى الوقائع والقصص. كما يمكن به الاستماع إلى شتى الأسماء والكلمات الصعبة بنطقها العربي. وبالإضافة إلى المعلومات الموضوعة في الموقع حتى الآن، فسوف يزود الموقع كل أسبوع بالمعلومات والفيديوهات القادمة. أما عنوان هذا الموقع فهو كالآتي: www.313companians.org

جعل الله هذا الموقع أيضا نافعًا للناس.

الهوامش:

  1. (صحيح البخاري، كتاب التوحيد)
  2. (صحيح البخاري، كتاب الصوم)
  3. (الملفوظات ج5)
  4. (الملفوظات ج1)
  5. (العنْكبوت: 07)
  6. (صحيح البخاري، كتاب التوحيد)
  7. (فلسفة تعاليم الإسلام، ص57)
  8. (المكاتيب الأحمدية، مجلد5، رقم2، ص47، إلى الخليفة الأول)
  9. (تقرير الجلسة السنوية عام1897م، ص3)
  10. (الحكم، مجلد 8، رقم81، عدد 31/5/4091م، ص2)
  11. (الحكم، مجلد8، رقم 83-93، عدد 10/11/4091 م، ص3)
  12. (الحكم، مجلد8، رقم 83-93، عدد 10/11/4091م، ص6)
  13. (البدر، مجلد4، رقم3، عدد 20/1/5091م، ص3)
  14. (البدر، مجلد7، رقم25، عدد 25/ 6/1908م 5)
  15. (الحكم، مجلد7، رقم22، عدد 17/6/3091م، ص7)
  16. (الحكم، مجلد7، رقم71، عدد 01/5/3091م، ص13)
  17. (الحكم، مجلد12، رقم24، عدد 2/4/1908م، ص1-2)
Share via
تابعونا على الفايس بوك