حقيقة الملائكة

  

  1. هل الملائكة مخلوقة أم غير مخلوقة

يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن الملائكة غير مخلوقة، وذلك لأنهم يجدون أنها كائنات تختلف عن الإنسان، إذ أنها ليست مرئية وذات خواص تفوق خواص البشر. وبسبب سوء الفهم هذا، أخطأ المسيحيون إدراك الحقيقة، إذ توهموا أن روح القدس غير مخلوقة، بل جزء من الله، ولذا فهو الله. ولما جاء الإسلام رد ذلك الزعم الخاطئ، وأعلن أن الملائكة من عداد المخلوقات، وذلك في قوله تعالى:

أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (الصافات: 151).

وهنا قد تتساءل إذا كانت الملائكة من عداد المخلوقات، فهل سيموتون كباقي المخلوقات أم أنهم خالدون؟ وهذه مسألة أخرى، إلا أن الجواب على كل حال هو أنه كما أن روح الإنسان محفوظة، فإن الملائكة تظل محفوظة بالمثل، أو ربما يفنى بعضها ويبقى بعضها الآخر محفوظًا. وأهل الأديان الأخرى تختلف آراؤهم في هذا الصدد، فاليهود مثلاً يعتقدون أن الإلهام الجديد يأتي به ألوف الملائكة الجدد، ولكنهم يهلكون بعد انتهاء مهمتهم. أما المذهب الزرادشتي فيقول بعدم فناء الملائكة.

  1. رؤية الملائكة

وحقيقة الأمر في هذه المسألة هي أن الملائكة مخلوقات روحانية، ولذلك لا يمكن للإنسان أن يراها بالعين الطبيعية، بل يستحيل عليه أن يراها على حقيقتها. أما إذا اقتضت الظروف أن ترى فيها الملائكة بالعين البشرية، فإنما يكون ذلك والملائكة في حالة وجود آخر مخالف لحالة وجودهم الحقيقي. إن رؤية الملائكة أو بعبارة أصح إدراكها فتكون بالعين الروحانية. وقد بين الله تعالى ذلك في قوله:

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (الأَنعام: 9-10).

أي لو أنزلنا عليهم القرآن عن طريق ملك مباشرة، فإن هذا الملك كان سيظهر لهم في صورة رجل حتى يمكن لعيونهم أن تراه. ونخلص من ذلك أن عين الإنسان الطبيعية لا يمكنها أن ترى الملائكة على حقيقتها.

  1. نوع الملائكة

قد بين القرآن المجيد أن الملائكة ليست مذكرة ولا مؤنثة، وذلك في قوله تعالى:

أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (الصافات: 151).

وليس معنى نفي نوعية الأنوثة عن الملائكة إثبات نوعية الذكورة لهم، إذ أن النفي هنا جاء في معرض الرد على من يدعون أن الملائكة إناث، كما هو واضح من الآية التي تسبق هذا الرد: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ . فالله تبارك وتعالى يرد على من يخطئون ويزعمون أن ما ينطبق على البشر ينطبق على الملائكة. إذ أن التنوع لا يكون إلا في الأمور المادية، وأما في الأمور الروحانية فلا تذكير ولا تأنيث. وبالمثل ينبغي أن تفهم ألا فرق بين روح الرجل وروح المرأة. إذ التذكير والتأنيث إنما هو في شكل الدماء أي الجسم، أما ما يحويه أو ما يسري فيه أي روح فشيء آخر.

  1. طبقات الملائكة

والحقيقة الرابعة التي نعلمها عن الملائكة أنهم على ثلاث درجات، وليسوا من قسم واحد، وذلك وفقًا لقوله تعالى:

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (غافر: 8).

فمن هذه الآية نعلم أن الملائكة ثلاث فئات ومراتب. اثنتان من هذه الفئات نعلمها بدلالة النص، والفئة الثالثة نعلمها بإشارة النص. فمن دلالة النص نعلم بوضوح أن هناك فئة من الملائكة أطلق عليها (يحملون العرش)، وفئة ثانية (حوله)، أي حول العرش، أي أن هناك فئة من الملائكة ينحصر مجالها تحت العرش مباشرة، وفئة أخرى مجالها في دائرة أوسع، ولكنها محدودة في نطاق حول العرش. ويستنتج من ذلك أن هناك طبقة من الملائكة أدنى في الدرجة من الملائكة الذين هم حول العرش، وهم الذين يتم عن طريقهم بعث الأحكام الشرعية إلى الأرض، ويؤيد ذلك الأحاديث النبوية. وبعبارة أخرى يمكن أن نقول أن الملائكة على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أولئك الذين هم مظهر لصفات الله تعالى.

النوع الثاني: الملائكة المساعدون أي المقربون.

النوع الثالث: الملائكة الذين يقومون بمختلف الشؤون كالجنود مثلاً، وهؤلاء لا يمكن حصرهم. قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ (المدثر: 32).

هذا ومن الثابت من أقوال كثير من الأنبياء أن كل شيء يحدث في الدنيا يتم بفعل الملائكة.

وقبل أن ننتقل من هذه النقطة ينبغي ألا نجعل هذا التقسيم مرتبطًا بالمكانية، بل نتصور التقسيم على أساس روحاني لا علاقة له بالمكان، كما ينبغي ألا نخطئ الفهم فنتصور أن هناك تفاضل بين الملائكة كالبشر حيث يتفاضلون فيما بينهم حسب تقواهم وطاعتهم لله تعالى.

  1. عصمة الملائكة

والأمر الخامس الجدير بالمعرفة هو أن الملائكة لا ترتكب ذنبًا أو معصية. ففي الإنسان مادة تجعله قابلاً للخطيئة، ولذلك قد يرفض كلام الأنبياء، حتى أنه قد ينكر وجود الله تعالى، بل قد يبلغ به الأمر إلى أن يسيء القول في حق ذاته تعالى. أما الملائكة فليست فيهم تلك المادة، وهو ما نعلمه من قوله تعالى في شأنهم:

لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ (التحريم: 7).

فالملائكة إذًا بالقياس للإنسان دائرة عملهم محدودة، خلافًا للإنسان، فإن دائرته أوسع، حيث بمقدوره أن يخرج من حد دائرة عدم العصيان.

  1. طاعة الملائكة وقدرتها

إن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم فحسب، بل هم مواظبون على طاعة الله، دائبون على العمل. فعصيان أوامر الله شيء، وعدم تنفيذ أوامره شيء آخر. وبيان ذلك أنك قد تأمر شخصًا بأن يحمل شيئًا ما، ولكنه لضعفه لا يقوى على حمل ذلك الشيء. وهذا لا يسمى عصيانًا، بل هو عجز وعدم مقدرة. أما إذا كان قادرًا على حمل ذلك الشيء ولم يفعل، فإن سلوكه هذا يعتبر عندئذ عصيانًا. وقوله تبارك وتعالى:

لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (التحريم: 7).

يفيد أن الملائكة فيهم القابلية لأن ينهضوا بكل ما يؤمرون به، وليسوا كالبشر، إذ فيهم من له القدرة على الطاعة، وفيهم من له القدرة على العصيان. ومن ناحية أخرى فإن الإنسان لا يماثل الملائكة في هذا المجال، فهو قد يرغب أحيانًا في فعل شيء ما ولكنه يعجز عن فعله، كما لو أراد أن يصلي قائمًا، ولكنه لمرضه، أو لعجزه، أو لكبر سنه يضطر لأداء الصلاة جالسًا.

  1. صفة الملائكة من حيث التأثير والتأثر

لا تتأثر الملائكة بما حولها من المؤثرات، ولا تتقبل مؤثرًا من الخارج أو من الغير، على خلاف باقي المخلوقات، إذ مهما بلغت قوتها فهي عرضة للوقوع تحت تأثير الغير. وفيما يختص بالناس فإنها دونًا عن بقية المخلوقات، ذلك أن الناس لهم حالات، فمنهم من يتأثر بالغير، ومنهم من يقاوم؛ فالأنبياء مثلاً يتأثرون بالحسنات والطيبات.. وفي الحرب مثلاً قد يشترك النبي في المعركة ويتأثر منها كبشر، ولكنه محفوظ من المؤثرات السيئة الشريرة. أما الملائكة فهم دائمًا وأبدًا محفوظون من المؤثرات، وهو ما عبر عنه في القرآن المجيد قائلاً:

عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ (التحريم: 7).

فهذه هي صفة الملائكة: “غلاظ شداد”؛ أي لا يؤثر فيهم شيء مطلقًا. وهذه الصفة ليست في طوق الإنسان، فهو بمقدوره أن يؤثر في الغير أحيانًا، ويعجز عن ذلك أحيانًا أخرى، كما أن بمقدوره من حيث الصفات، أن يفعل فعلاً ما أو يقتبس شيئًا ما، ولكنه ليس من كل الوجوه. قال تعالى:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (الفتح: 30).

ويتبين من ذلك أن المؤمنين أشداء أيضًا كالملائكة، ولكن على الكفار فقط، أما فيما بينهم فإنهم رحماء أي يتأثر بعضهم ببعض. ويقول أيضًا:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (التوبة: 73)،

أي حاربهم وجاهدهم ولا تتأثر بهم.

وحاصل القول إن المؤمن على وجه العموم يؤثر في الغير، ولكن لا يناله تأثير الغير ولا يتمكن منه إلا في بعض الأمور. أما الملائكة فلا يتأثرون بأي وجه من الوجوه.

  1. عدد الملائكة

ليس بمقدور البشر أن يحددوا أو يحصوا عدد الملائكة، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ (المدثر: 32).

  1. طبقات الملائكة

يدلنا القرآن المجيد على أن من بين الملائكة من هم رؤساء، ومنهم من هم مرؤوسون، وليس ذلك لأن بعضهم كبير، وبعضهم الآخر صغير، ولكن لأن كلاً منهم مأمور لعمل مخصوص في موضع معين، قال تعالى:

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (السجدة: 12).

وقال سبحانه:

وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (الأَنعام: 94)،

وقال جل وعلا:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ (النساء: 98).

فإذا ما تدبرنا هذه الآيات الثلاث معًا، نجد أن الآية الأولى تقول بوضوح أن نزع حياة الناس جميعًا موكول بملك واحد، وأما الآيتين الأخرتين فتبين منهما أن هذا العمل يقوم به ملائكة كثيرون، وليس ملك واحد. وهذا ليس بالتناقض، بل يتضمن دلالة واضحة على أن الموت موكول إلى ملك واحد، وهذا الملك له مساعدون كثيرون يطيعون هذا الموكل، ويقومون بمهمة نزع أرواح الناس. وما دام الأمر في مسألة الموت فيه تسلسل رياسي يبدأ بملك كبير، فنستنتج من ذلك أن بقية الشؤون الأخرى موكل لكل منها ملك أكبر، ثم يندرج تحته مساعدون وتابعون، وهلم جرّا.. يأتمرون جميعًا بأمره.

10.طاقة الملائكة

تعتبر طاقة الملائكة محدودة بالقياس إلى طاقة الإنسان. إذ أن الملائكة على حالة واحدة دائمًا، وأما الإنسان فيتقدم ويرتقي، قال تعالى في كتابه العزيز:

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقرة: 32-33).

وظاهر من ذلك أن حكمة تعلم آدم دون الملائكة هي لأنه أكثر استعدادًا منهم لأن يكون مظهرًا للصفات الإلهية.

وحاصل القول إن قوى الملائكة وطاقتهم محدودة بالقياس إلى الإنسان، ومع ذلك فإن ما يفعله الملائكة، أيًّا كان، لا يكون مخالفًا لأمر الله تعالى ومشيئته.

11.إرادة الملائكة

للملائكة إرادة، ولكنها محدودة. ومثل هذه الإرادة المحدودة كمثل الحصان الذي يربط عنقه إلى شجرة، فيدور حولها كما يريد، ولكن في دائرة محدودة، وليس بمقدوره أن يتخلص من ذلك الحبل. هذا أيضًا مثل الملائكة فهي تسير حول مركز معين، ولا يخرجون عن دائرته أو نطاقه المعين. وهذا الحد هو الذي يعينه الله تعالى في قوله:

لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (التحريم: 7).

وبالمثل نجد إرادة الملائكة، فيما يتعلق بالأرض، وما يحدث فيها، واضحة في قوله تعالى، حكاية عن الملائكة:

أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ (البقرة: 31).

فهم قد وجهوا هذا السؤال إلى الله تبارك وتعالى بغرض الاستفسار عن الفساد الذي سيحدثه الإنسان في الأرض، وما هو النظام والاحتياطات التي تتخذ لذلك. ويتبين من هذا السؤال أن للملائكة قوة إرادة في بعض المسائل المحدودة، وإلا لما كانوا وجهوا السؤال. وهذه الإرادة المحدودة لا تتعدى نطاقًا معينًا، أي دائرة الفضيلة، ولا تتعداها إلى الشر وحدوده.

ويلاحظ أن التعبير (أتجعل فيها) في الآية الكريمة يدل على أن الملائكة كانوا في موقف المستفسرين لا المعترضين. ورب قائل يقول: إن الملائكة ليست لهم إرادة مستقلة، وإن الله تبارك وتعالى هو الذي ألهمهم أن يسألوه هذا السؤال، ومن ثم فعلوا ذلك. ولكن هذا الاعتراض أو الافتراض خاطئ، بدليل قوله تعالى عقب ذلك: (إن كنتم صادقين)؛ أي إن كنتم محقين في هذا السؤال. وهذا يدل على أن سؤالهم لم يكن موعزًا به من الله تعالى، بل صادرًا عن إرادتهم الذاتية.

إن إرادة الملائكة في بعض المسائل ثابتة أيضًا من الحديث. فهناك قصة ذلك الرجل الذي ذهب إلى أحد العلماء وأخبره بأنه ارتكب كثيرًا من الذنوب والمعاصي، وسأله هل من توبة له. فأجابه العالم بأنه لن تقبل لك توبة. ولما سمع ذلك العاصي هذا الجواب قتل العالم، ثم توجه إلى عالم آخر يسأله نفس السؤال مريدًا التوبة، ولكنه مات في الطريق قبل أن يصل إلى ذلك العالم. وهنا تنازعت الملائكة. فادّعته ملائكة الجنة قائلين: إن لهذا الرجل من أهل الجنة، لأنه كان ينوي التوبة، ويسعى إليها. ولكن ملائكة النار ادعته بالمثل، قائلين: إنه من أهل النار لأنه مات قبل أن يتوب فعلاً. ويمكن أن نخلص من ذلك إلى أن للملائكة قوة إرادة.

وهنالك أيضًا قوله تعالى: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (ص: 70). ويتضح من هذه الآية أن الملائكة يتحاورون أحيانًا فيما بينهم في بعض المسائل. وهذا لا يكون إلا إذا كانت لهم قوة إرادة، ولو أنها محدودة جدًا.

  1. علم الغيب

يتضح من القرآن المجيد أن الملائكة لا تعلم الغيب، قال تعالى:

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (سبأ: 41-42).

ومن ذلك فعلم أن الملائكة ليس لهم علم بالغيب، إذ لو كانوا قد أعطوا ذلك العلم لما أظهروا جهلهم بعبادة طائفة من الناس لهم. ثم لا يمكن أن يقال إن الله تبارك وتعالى يوجه إليهم هذا السؤال عبثًا، بل لحكمة، وإلا لكان السؤال بلا داع وبلا محل. والله منزه عن أن يذكر شيئًا غير حقيقي. فبعض الناس عبدوا الملائكة فعلاً كما هو ظاهر من قول الله تعالى، وقد ذكرت بعض الكتب السابقة ذلك أيضًا. ومن هذا نعلم أن ذلك الفريق من الملائكة الذين وجه إليهم السؤال، كان الناس يعبدونهم فعلاً، ولكنهم أنكروا ذلك لجهلهم بتلك العبادة.

وبالمثل ورد في بعض الأحاديث ما يؤيد عدم معرفة الملائكة للغيب. فقد روي عن رسول الله أن رجلاً يسمى بأسماء المؤمنين، وكان يفعل أفعال المؤمنين، ولكن عندما عرض الملائكة الكاتبون أعماله على الله تعالى، أتاهم صوت من السماء أن ردوه وأعيدوا أعماله إلى وجهه، فصلاته لم تكن لوجهي. ويتبين من هذا الحديث أن الملائكة لم يعطوا العلم الحقيقي، إذ لو أنهم نالوا هذا العلم لما رفعوا مثل هذه الصلاة إلى الله تبارك وتعالى، وهي ليست له سبحانه ولا تستحق أن تعرض عليه.

  1. هل لكل ملك شأن خاص من الشؤون موكل إليه؟

وهذا واضح من الحديث، فقد روي عن عروة: “إن عائشة زوج النبي حدثته أنها قالت للنبي هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت. فانطلقت، وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب. فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني. فنظرت، فإذا فيها جبريل. فناداني، فقال:

إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي : “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا” (البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه)، (الأخشب: الجبل الخشن العظيم، والأخشبان: جبلا مكة)

وواضح من هذا الحديث أن جبريل قال للرسول الأعظم ، إن الله تبارك وتعالى قد سمع إعراض قومه عنه، ولذلك قد بعث إليه ملك الجبال ليأمره بما يشاء فيهم، ولم يقل جبريل إن الله تبارك وتعالى قد أرسله هو (أي جبريل)، ليأمره الرسول بما يشاء. وظاهر من ذلك أن ملك الجبال مستقل في عمله عن غيره من الملائكة، أي أن كل شيء في الدنيا مستقل عن غيره، وله ملك خاص موكل به.

  1. اختلاف الملائكة باختلاف المظاهر والصفات

قلنا إن الملائكة أداة لإظهار مختلف الصفات الإلهية، فبعضها مظهر لطاقة واحدة، والبعض الآخر مظهر لأكثر من طاقة؛ قال تعالى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (فاطر: 2)

ويتبين من هذه الآية اختلاف الملائكة باختلاف مظاهر صفاتهم، فلبعضهم صفات أو طاقات قليلة، وللبعض الآخر طاقات أكثر وأكثر. ويتبين من هذا أيضًا أنهم يوهبون الاستعداد اللازم تبعًا للحاجة وللوقت، ويرسلون إلى الناس تبعًا لحالاتهم واستعداداتهم، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (يزيد في الخلق ما يشاء).

فعندما بلغت الدنيا أعلى درجاتها في وقت الرسول الأعظم ، أرسل جبريل في ذلك الوقت في صورته الكاملة التي وصف بها في الحديث بأن له ستمائة جناح. ويتضح من ذلك الحديث أيضًا أن جبريل صار مظهرًا لستمائة صفة من صفات رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك