بحر الوقت

تعيش الأسماك في البحار وفي المحيطات على أعماق متفاوتة، منها ما تعيش في قعر البحر، ومنها ما تعيش قريبًا من سطح الماء، هكذا المخلوقات التي تحيا فوق أديم الأرض تعيش هي الأخرى في بحر من الأثير، فمنها ما يظل على سطح الأرض، ومنها ذات الأجنحة التي تطير على ارتفاعات مختلفة. ومنها رجال الفضاء الذين يطيرون ويرتفعون حتى فوق طبقة الهواء.

هكذا تعيش المخلوقات على هذه الكرة الأرضية داخل بحرين من البقاء، بحر من الهواء وبحر من الماء. والكون بكامله يسبح هو الآخر في بحرين لا يختلفان كثيرًا هما: بحر الفضاء وبحر الزمن.

فالفضاء أو الفلك هو ذلك المتسع الذي فيه يقع الكون، وفيه تتحرك ملايين الأجرام السماوية. جميعها مخلوقات الله تعالى. الفضاء ليس مخلوقا بل هو مجرد شيء لا وجود له ولا تحديد، أو بعبارة أخرى ليس بشيء على الإطلاق. ولأنه ليس بشيء معين ولا تحديد له، فهو لا نهائي أيضًا. فلو لم يخلق الله الكون، ولو أن الكون غاب لما بقي شيء. وما دام الفضاء ليس بشيء فسيظل الفضاء فضاء.

والزمن هو كذلك غير محدود ولا نهائي. وإنه كالفضاء ليس بشيء، لكنه يُدرَك ويقاس بمرور الحوادث وتتابعها، كما يُعرف الفضاء بوجود المادة. وقبل خلق المادة لم يكن زمن، وهذا الزمن لن يعمَل به، وسيتوقف إذا ما غابت المادة وانتهى الكون.

لا يهمنا الفضاء بقدر ما يهمنا الزمن أو الوقت. لأن الزمن هو مقياس لحياتنا منذ الولادة وحتى الممات. فمن خلال الوقت أو الفترة الزمنية ننمي نفوسنا، ونطور حياتنا قدر الإمكان. وهذا هو النفع الأكبر الذي نجنيه من الوقت، ومتى سيرتحل إلى العالم الآخر، حيث سيحصد ما زرع في هذا العالم.

إن من أهم أسباب إعاقة التقدم في هذه الحياة هو إضاعة الوقت. وفي زماننا هذا يضيع تسعون بالمائة من الناس تسعين بالمائة من أوقاتهم، لأنهم يستغلون جزءً بسيطا فقط من طاقاتهم في الأمور التي تهمهم، ويهملون أو يتجاهلون الاهتمام بالنواحي الروحية التي بدونها تتأثر حياتنا وأعمالنا تأثيرًا عكسيا وسلبيًا. يقول الله تعالى في كتابه العزيز:

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (الكهف: 104-105)

ويقول أيضا:

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (الأَنعام: 33)

إنّ أفضل الأوقات ما يصرف في ذكر الله تعالى. فكل عمل نقوم به وكل صلة لنا بالآخرين يجب أن تتم بحيث تعود علينا برضاء الله. فالوقت الذي يصرف في الأغراض الذاتية والأمور اللا أخلاقية هو وقت يهدر ولا يعوض. يجب أن تكون أفكارنا وأموالنا وأفعالنا نبيلة طاهرة نقية تُرضي الله تعالى، كي ننشر الحب الصافي من حولنا، ويسمو الغير بفيوضنا الروحية وسعادتنا وصدق نوايانا وسحرنا الإلهي.

فالطبيب الذي يفيض قلبه بحب الله والعطف على إخوته من بني الإنسان، يجعل جل اهتمامه، وعلى عكس غيره من الأطباء، غير مرتبط بما يكسبه من المال لقاء عمله. حقا من واجبه أن يكسب معاشه، ولكن ألا يكون هذا الأمر هو أهم ما يجول بخاطره، بل يعمل على أساس مبدأ الخدمة الخالصة لوجه الله تعالى، وأن لا يتبرم أو يعتذر حين يدعى من فراشه، ولو في ساعات مبكرة من يوم ماطر، وأن لا يعبس ولا يقطب حين يقرع بابه مريض حتى ولو بعد أن أنهى عمله لتوِّه، أو كان في وقت الراحة. بل بالعكس يفتح بابه على مصراعيه، ويحيي مريضه ببشرٍ ورحابة صدر وانشراح وبشعور العطف والرحمة. وحسبنا في هذا المجال أسوة سيدنا محمد ، حيث كان دائما في خدمة الضعفاء وأهل الحاجات، حتى شهدت زوجته السيدة خديجة : والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحمَ، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. وإمامنا من زمن سيدنا أحمد مؤسس الحركة الإسلامية الأحمدية، يروي لنا أحد أصحابه المقربين المولوي عبد الكريم أنه قدم إلى الإمام المهدي والمسيح الموعود يومًا عدد من النساء مع أطفالهن المرضى كي يصف لهم الدواء. وكان عليه السلام يتأهب في ذلك الوقت لكتابة مقالة هامة وعاجلة. وقد حدث أن كنت هناك، فرأيته يقف على رجليه منهمكا في تحضير العقاقير وكأنه أوروبي أثناء الوظيفة. ورأيت أمامه أربعة أو خمسة أوعية يضع فيها الأدوية المختلفة لأولئك المرضى. وقد استمرت هذه العملية مدة ثلاث ساعات تقريبًا. ولما انتهى من عمله ذلك سألته قائلا: يا سيدي إن هذا عمل شاق يستهلك كثيرا من وقتك الثمين! فأجابني مبتسمًا وبهدوء وسكينة: إن هذا هو أيضا عمل مقدس. فلا توجد هنا عيادة طبية تعالج هؤلاء الفقراء، وقد أعددت بعض العقاقير لأقدمها لمثل هؤلاء الناس عند الحاجة، وإني لأعتبر ذلك من أفضل الأعمال. وعلى المسلم ألا يستنكف أو يتبرم من عمل كهذا. (شمائل أحمد )

إن عادة النطق بكلمة “بسم الله الرحمن الرحيم” في مناسبات عديدة وعلى فترات متقاربة خلال اليوم هي بمثابة قوام للسلوك الصحيح، ويُبقي الإنسان في مساره الصحيح.. وفي كل لحظة يردد فيها الإنسان هذا اللفظ فإنه في الواقع يذكّر نفسه: هل كان سلوكه ذلك مرضيًا لله تعالى أم لا؟ فإذا جاء الجواب بالنفي فعلى الإنسان أن يُصحح مساره.

المسلم لا يجوز له أن يكون خاملا، وأن يضيع وقته سُدًى. يقول سيدنا علي بأنه كثيرًا ما يلتزم الصمت، ولكنه يظل منهمكا في أمر هام، روحيا كان أو دنيويا، ولا يبقى خاملاً. ومن وحي سيدنا المهدي والمسيح الموعود : “أنت الشيخ المسيح الذي لا يُضاعُ وقته”. وقال في كتابه التعليم (سفينة نوح): الكسلان لينبذنَّ خارج الجماعة.

إن الخمول والتسكع بلا هدف ليفسد الكرامة الشخصية. قليلون جدا هم الذين لا وقت لديهم لقضاء حاجاتهم الحياتية الضرورية. لكنهم يقدمون العذر تلو العذر عن أي تقصير في نواح أخرى. والاعتذار غالبا ما يكون تشويها للحقيقة. ويندر أولئك الذين يعتذرون بأمانة. وإن الذين يكثرون من الاعتذار عن تقصيرهم وعن فشلهم هم في الواقع غير ناضجين روحيا. كثيرون هم الذين يقصرون في كتابة الرسائل أو أنهم لا يردون على الرسائل التي تصلهم، ويعتذرون لكثرة أشغالهم وقلة الوقت لديهم، بينما السبب الحقيقي يعود إلى كسلهم وعدم مبالاتهم. وإلا فكيف يجد العاشق الوقت دائما ليكتب إلى محبوبه وفي جميع الظروف؟ كثيرون من يتصورون أنفسهم أكثر انشغال مما هم فيه حقا، أو على الأقل يحبون أن يفكر الغير فيهم هكذا. وهناك ملاحظة مفيدة وهامة وهي أن الأشخاص الكثيري الأشغال فعلاً هم الذين يجدون الوقت للكتابة، بينما نرى الأقل انشغالا منهم هم الذين يجادلون ويعتذرون بأنه ليس لديهم الوقت للكتابة. الرجل المنشغل حقا هو الذي يقدر على إيجاد الوقت لكل شيء، أما الرجل الأقل حركة ونشاطا فهو الذي يبدو وكأن ليس لديه الوقت لأي شيء. يقول السير جون لوبوك (Sir John Lubbock):

“الخاملون الكسالى هم الذين يشكُون على العموم بأن ليس لديهم الوقت ليعملوا ما يحبون ويرغبون. ولكن الحقيقة هي أن الناس على العموم يجدون الوقت لعمل ما يرغبون. المطلوب هنا ليس الوقت بل الإرادة. وإن قيمة وقت الفراغ هي في أن نقدر فيه على اختيار أعمالنا، لا أن نصبح فيه كسالى خاملين”.

لقد كانت حياة اللورد بروهام (Brougham)، قاضي قضاة بريطانيا في القرن الماضي عملاً دائبا. وقد كتبوا عنه بأنه لم يُضع دقيقة بدون عمل، ولم يستصعب القيام بأي عمل. مرة حين طُلب من معاصره السير صامويل روميلي (Sir Samuel Romilly) أن يقوم بعمل ما، اعتذر بحجة أن ليس لديه الوقت وقال: اذهبوا إلى ذلك الأخ بروهام فإن لديه الوقت دائما ولكل عمل.

فنحن إذا ما أعددنا أنفسنا “أن نجد الوقت لكل شيء” بدل “ألا نجد الوقت لأي شيء” سوف نكتشف مدى ما لدينا من الوقت، وإلى أي حد يمكننا أن نستغل هذا الوقت لمنافع أكثر، وأن نحقق بذلك أمورًا فوق ما نتخيله بكثير.

قال سيدنا أحمد مرة: إنه يأسف للوقت الذي يُضيعه بذهابه إلى المرحاض، ويا حبذا لو أمكن حتى قضاء هذا الوقت في خدمة الدين. وقال مرة: إنني أكره كل ما يعترض قيامنا بواجباتنا الدينية ويأخذ جزءًا من أوقاتنا. حينما نكون مضطرين للقيام بعمل ديني ملحّ فإنني أحرم نفسي المأكل والمشرب والنوم حتى أنهي ذلك العمل. لقد خُلقنا للدين ونحيا من أجل الدين، ويجب ألا يعوقنا شيء عن أداء واجبنا نحو الدين”.

لقد أدرك عظماء الدنيا جميعهم ثمن الوقت وأهميته كما يدل على ذلك الحادثة التالية في حياة الامبراطور نابليون:

“دخل أحد كبار الضباط غرفة نابليون يومًا بُعيد منتصف الليل ليزف إليه بعض البشارات. فوجده، ولشدة دهشة ذلك الضابط، مرتديا بزته العسكرية، جالسًا على منضدته، وقد نشر أمامه الخرائط والكتب والرسومات. فسأله صديقه ما هذا! ألم تذهب للنوم بعد؟ فأجاب نابليون: لقد نمت واستيقظت لتوي. فقال صديقه: وهل استيقظت مبكرًا إلى هذا الحد؟ نعم، أجاب نابليون، مبكرًا إلى هذا الحد كما ترى، فإن ساعتين أو ثلاث ساعات من النوم تكفي الإنسان”. (حياة نابليون بونابارت للمؤلف أبوت Abbot)

والقرآن الكريم يحض المسلمين على التنافس فيما بينهم في عمل الخير والفضيلة لأن إهدار الوقت يعوق التقدم. ولهذا السبب أُمر المسلم ألا يتمنى الموت، وذلك لكي يستغل أقصى ما يمكن من الوقت في خدمة الدين. وعلى المسلم أن يظل مجتهدا للحصول على العلم والمعرفة ونشرها بين الناس وبذلك يحقق آماله وأهدافه المقدسة. إن تحصيل العلم عبارة عن وقت أحسن استعماله، والقرآن الكريم يعلمنا أن نقول دائما: رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (طه: 115)

وقد أمرنا النبي بقوله: “اطلبوا العلم ولو كان في الصين”، وقوله: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”.

ويقول السير والترسكوت (Sir Waltorscott)، الشاعر والروائي المعروف:

“أفضل العلم الذي يحصل عليه الإنسان هو ما يقدمه لنفسه”.

ويقدم لنا التاريخ رجالا لم يحصلوا على أكثر من التعليم الابتدائي ولم يشتركوا في امتحانات، لكنهم تنبهوا لنفسهم فيما بعد، فعكفوا على تعليم وتثقيف أنفسهم، ومن خلال جهود ذاتية متواصلة ارتفعوا إلى أعلى الدرجات في مجال مهنهم وأعمالهم، وخلعوا عن أنفسهم الكسل والانطواء، وجدّوا وثابروا حتى حققوا أهدافهم وأمانيهم.

وإليكم عاملا أجيرًا بسيطًا سندعوه هنا جو سميث (Joe Smith)، يشتغل في إصلاح الطرقات وحفر الخنادق، وهو أحد آلاف العمال الذين يشتغلون في هذه المهنة، لكنه يختلف عنهم جميعًا في أنه لم يرض أن يقضي بقية حياته عاملا أجيرًا. وكان يجيش في سريرة نفسه قلق ورغبة كي يعمل في حياته ليصل إلى مهنة أهم وأفضل. وكان يتحرى ويسأل نفسه: ما هي القدرة التي يتمتع بها الآخرون والتي أوصلتهم إلى قمة النجاح في الحياة؟ فقرر أن يقوم بتحليل مزايا بعض الشخصيات البارزة ممن يعرفهم، حتى اكتشف حقيقة نجاحهم. فمضى ينمي في شخصه تلك الميزات، ومع مرور الزمن بدأ يشعر تحولاً تدريجيًا في نفسه حتى لاحظ هذا التحول فيه أصدقاءه وزملاءه، وبدأوا ينظرون إليه كرجل ذي شأن. وهكذا بدأ يرتقي سلم النجاح شيئا فشيئًا، وفي وقت غير طويل أصبح مواطنا بارزا في مجتمعه، وشاع صيته في طول البلاد وعرضها.

جو سميث هذا أدرك أن ا لتعليم الذاتي والثقافة الذاتية كانا من العوامل الأساسية لمنافسة الشخصيات البارزة التي اتخذها مثالا أعلى له. كما لاحظ أن من مميزات هؤلاء الأبطال التحكم بالكلمات والحديث المؤثر. وهنا قرر أن يترك دور السينما وقاعات الرقص وحانات الشرب، وكرَّس وقته لدراسة قواعد اللغة وحسن التعبير والإلقاء. ووفر أمواله التي كان يصرفها على اللهو واللغو، وابتاع بها الكتب التعليمية المناسبة.

لقد كان الهدف الذي سعى لتحقيقه كبيرًا وجسيمًا، لكنه كرس أوقاته وأفكاره لتحقيق ذلك الهد فحققه. لقد درس الكتب، ولم يكن يستوعب ما جاء فيها أول الأمر، فقرأها مرة بعد أخرى حتى فهم ما فيها تمامًا. ثم ابتاع قاموسًا قيما أصبح رفيقه اليومي، واستغلّ كل لحظة لكسب المزيد من العلم والمعرفة. وبينما كان يسافر في أتوبيس أو قطار لم يُضع وقته ينظر من خلال الشبابيك والنوافذ، بل كان يطالع ويدرس أحد كتبه، ويشغل نفسه في الدراسة. لقد مرت السنوات، وجاء اليوم الذي نُودي فيه بجو سميث أحد السياسيين والخطباء العظماء في عصره.

إن استغلال لحظات الفراغ لزيادة المفردات هو من قبيل حسن استعمال الوقت، فالقدرة على الكلام والإفصاح تقود إلى النجاح. ومن بين المنافع الحاصلة من وفرة المفردات ما يلي:

  1. زيادة الثقة بالنفس.
  2. القدرة على التعبير بطلاقة ودقة.
  3. القدرة على معرفة مفهوم ومعاني الألفاظ المختلفة.
  4. الإلمام بالمفردات علامة امتياز، والناجحون في الحياة هم أولئك الممتازون. لقد أظهر استطلاع أجراه بعض المدرسين أن الإنسان المتوسط لا يقدر على فهم المكتوب ما فوق مستوى الأطفال من ذوي الأعمار 13 و14 سنة، وأن الشخص في سن الـ 25 يكون قد استوعب 95 بالمائة من مفرداته. ذلك يعني أنه سيزيد من مفرداته في سني حياته الباقية 5 بالمائة من مفرداته فقط، إلا إذا قام بعمل خاص في ذلك.
  5. المفردات تعين على التأثير في الغير.
  6. المفردات تزيد من المستوى الفكري للإنسان.
  7. يقول بعض علماء النفس أن المرء يعجز عن التفكير بدون كلمات، فإذا صح هذا القول فإن القدرة على التفكير إذًا منوطة بالمفردات.
  8. الشخص الذي يتحكم بالكلمات يسهل عليه إيحاد عمل.

الدكتور ولفريد فانك (Wilfred Funk)، يعتبر من أشهر المراجع في الكلمات، وعلى مدى سنوات نشر في مجلة “المختار” (Reader’s Digest)، حول موضوع: “خيرٌ لك أن تزيد مفرداتك”. وقد عرض اكتشافًا مدهشا رواه في الأساس الدكتور تمبلمان (Temple man)، أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة الينويز سابقًا، وهو:

“في هذه المؤسسة التعليمية يمد الطلاب باختبارات مختلفة، منها امتحان في المفردات يشتمل على 29 كلمة. وقد أدركت المؤسسة بعد سنوات من إجراء هذه الامتحانات أنه قد يكون من المفيد معرفة ما إذا كان لنتائج هذه الامتحانات أثر على مركز الطالب ودرجته في المستقبل. ولدهشة أولئك الذين أجروا هذا التحقيق ظهر أن امتحان المفردات هذا والمختصر للغاية المكون من 29 كلمة فقط يُنبئ بأصح العبارات عن معدل الطلاب للفصل القادم وفي جميع المواد.”

وهذا ما حدا بالدكتور تمبلمان ليعلن ويقول: “أيها السادة الآباء ومدراء المدارس، إذا أردتم طلابكم أن ينجحوا في دراساتهم في الكلية فما عليكم إلا أن تهتموا بمفرداتهم”.

قال جون روسكين (John Ruskin) مرةً: “لو كان لي ولد أو بنت ذو تحصيل ما فإني أفضل أن يكون هذا التحصيل في مجال الخطابة”.

وهنا لا بد من كلمة تحذير: علينا أن نتجنب التعالي في استعمالنا الكلمات. إنه لا فائدة من استعمال ألفاظ غريبة نادرة إلا إذا جاءت مطابقة لمقتضى الحال. لا شك يمكنكم استعمال هذه الألفاظ أحيانا في الكتابة أو المحادثة، ولكن استعمالها فوق الحدود تظهر اهتمام قائلها في إبراز براعته الشخصية.

يقول سيدنا علي :

“خير للمرء أن يُعلم نفسه من أن يعلّم الناس”.

هذه الحقيقة تبناها بعض خيرة المفكرين والمدرسين الذين أدركوا أنه أنفع للطالب أن يتدرب على الدراسة بنفسه، ويعلم نفسه من أن يُحشى رأسه بالمعلومات. فالعلم الحاصل بالمثابرة الشخصية يرسخ في العقل بصورة أعمق. ووظيفة المعلم يجب أن تكون في الأساس في العقل بصورة أعمق. ووظيفة المعلم يجب أن تكون في الأساس توجيه الطالب وتشجيعه قدر الإمكان.

من الممكن استغلال الأوقات الضائعة إلى أقصى الحدود كي لا تذهب هباءً، ولنحفظ هذا القول الحكيم لبيتمان (Pittman): “الوقت المنظم يدل على العقل المنظم”

ويقول اللورد تشيستر فيلد (Chesterfield): “من الغريب أن يضيع أحد بطريق الخمول حتى ولو لحظةٍ واحدة من تلك الفترة الزمنية القصيرة التي وضعت تحت تصرفنا في هذه الحياة”.

ويقول تشاننج (Channing): “لقد قيل إن الذين لديهم أكثر الوقت هم أقل من يستفيدون من ذلك الوقت. إن ساعة واحدة في اليوم تصرف بانتظام لدراسة موضوع مفيد تعود بعلوم كثيرة وغير متوقعة”.

ويقول كولاينكورت (Caulaincourtr): “لقد اعتاد نابليون أن يقول إن 22 ساعة من أصل 24 ساعة يجب أن تشتغل في أمور مفيدة”.

تصور لنا حياة الدكتور الطبيب ماسون جود (Mason Good)، إلى أي مدى يمكن الاستفادة من الوقت الضائع خلال النهار. فقد كان كاتبا منتجا في مواضيع الطب والدين وغيرها من الأبحاث القديمة (الكلاسيكية). وبينما كان يسافر في عربته ليعود مرضاه، تمكن من ترجمة إنتاج لوكريتيوس Lucretius، أحد أشهر الشعراء الرومان.

لقد عاش النبي وقضى كل لحظة من حياته المقدسة في عبادة الله. كان قليلا ما ينام الليل. وكان من عادته أن يقضي ثلثي الليل في الصلاة والخشوع لله تعالى. يقول القرآن الكريم في ذلك:

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ (المزمل: 21)

إن النظام البشري يشتمل على طاقات تختلف في طبيعتها عن قوة العضلات، وقد أطلقت عليها أسماء مختلفة كالطاقة الداخلية، أو القوة الشخصية أو قوة الأعصاب، إلى غير ذلك. والحقيقة أنها طاقة مغناطيسية. وإن تطوير وممارسة هذه الطاقة الهائلة والقيمة جدًا من أهم مقومات الحياة الناجحة. إنها أهم وأفضل من كل الدراسات الدنيوية. هذه الطاقة كافية في داخل كل إنسان، ولكنها عند 99 بالمائة من الناس تهدر بمعظمها دونما نفع بطرق مختلفة، ومن أهمها:

عدم ضبط النفس، التعب، الغضب، القلق، سرعة الانفعال، الكآبة، الخوف، الألم، قلة الغذاء أو التخمة، الخمول، الهيجان العصبي والإعياء.

كل عمل يجب أن يتم بهدوء، وأن يكون عملا بناءً، كي نحتفظ بالقوة الجاذبية، ونمارسها ونطورها، وننتج في الوقت ذاته طاقة وقوة أعظم. فهناك قانون ذهبي يقول: إن الطاقة إذا ما استعملت بطريقة بناءة فإنها تتعاظم وتقوى شريطة ألا تستغل إلى درجة الإنهاك.

الشخص الذي يتعلق قلبه بعمله، ويعمل بسرور وابتهاج وحماس قلما يشعر بالتعب آخر يومه، إلا إذا كان العمل مُضنِيًا إلى أقصى الحدود. ومن الناحية الأخرى فإن الإنسان الذي لا يحب ولا يهتم بعمله سرعان ما يتعب عقليا وجسديا، وحتى قبل نهاية يومه. وهكذا فالرجل الذي يقضي يومه كسولاً خاملاً فإنه بذلك يدمر نفسه عقليا وجسديا وبسرعة. يُشغَّلُ السجناء هذه الأيام في بعض الأعمال كي لا يقعوا في ضجر وتفتر هِمَمُهم. وإن استعمال العلاج العملي (Physiotherapy)، للمرضى المزمنين في المستشفيات اليوم قد أعطى هؤلاء المرضى شيئا من الهدوء النفسي والسعادة بدل الحزن والكآبة.

وبقدر ما يستغل المرء وقته بالحكمة وللمنفعة يقدم المزيد من العمل البناء، سواء تجاه دينه أو ربه. يجب على المرء ألا يَسمح لعقله ولجسده أن يصبحا هزيلين عن طريق الخمول والعمل الذي لا جدوى فيه.

يجب استغلال الوقت بالفرح والسرور قدر الإمكان. قد لا يكون في بعض الأعمال لذّةً ما، ولكن اتخاذ موقف إيجابي تجاه ذلك العمل يحوله إلى عمل مرغوب فيه. ولنأخذ مثلا حادث الزوجة التي طلبت إلى زوجها أن يغسل لها كومة من أواني المطبخ المتسخة. فعلى العموم لا يجد الزوج لذةً في غسل أواني المطبخ، خاصة إذا كان قد رجع لتوه من يوم عمل شاق، أو كانت هناك أمور أخرى تنتظره. وقد يرفض الزوج ويتشاجر مع زوجته، أو قد يقوم بالعمل، ولكن كرهًا. أو قد يندفع إلى العمل بدون اهتمام. فإذا ما استعمل الزوج إحدى هذه الطرق فإنه بذلك قد أساء استغلال وقته. أما الزوج العاقل فإنه يواجه الموقف بصورة أخرى، يفتش لنفسه حافزًا يعينه على القيام بالعمل بروح نشطة، مرحِّبًا ومقدرًا لخدمات زوجته التي قد تكون قضت معظم يومها واقفة على رجليها.. تشتغل وتقوم بعشرات الأعمال البيتية. فالزوج الذي يقدم على التخفيف من عناء زوجته فإنه يفرح قلبها. وهكذا يبدو العمل العبودي وكأنه صادر عن محبة ورغبة. وحيث إن الحب يولد الحب فيصبح البيت مركزًا للسعادة.

حين يشعر الإنسان في نفسه حافزًا نبيلا وصادقًا للقيام بعمل ما عندها تُثمر جهوده، ويأتي عمله بنتائج مفرحة وسارة. ومن أجل معرفة مدى الانضباط الذاتي قد يكون التمرين الآتي مفيدًا لنا: نقوم بعمل لا نميل إليه ولا نحبه. ويمكن أن يكون ذلك بمجرد أن نفرغ علبة كبريت ثم نعبئها ثانية رويدًا رويدًا، أو أن نزور من لا نحبُّه.

وأخيرًا وليس آخرًا، هناك أمر مهمٌ جدًا، وهو الدقة في المواعيد. وهذا الأمر يجب أن يعطى الاعتبار اللازم دائما، إذ بدونه يفقد المرء احترامه بين الناس. وقد وصف هذا الأمر “بآداب الملوك”. من الممكن أن يكسب المرء معركة أو يخسرها، وأن يكون كل ذلك متعلقا بالتوقيت والمواعيد، لأن ساعة الصفر تُعيَّن وتحدد بالثواني. يقول اللورد نلسون (Nelson):

“إن انتصاراتي في حياتي كلها كانت تعود إلى أنني كنت دائما على أتم الاستعداد قبل الموعد المحدد بربع ساعة”

قد يعني ذلك أن الأدميرال المذكور كان يخسر من وقته 15 دقيقة كل مرة، لكن رجلا عظيما ذكيا كهذا لا يمكن أن يضيع وقته بفرك أصابعه، بل لا بد وأن يكون قد شغل نفسه فيما هو أهم وأعظم.

ففي “بحر الوقت” تكمن طاقات هائلة، وما علينا إلا إن نكتشفها ونعرفها، ونستغلها لما فيه نفعنا، آخذين بالحسبان أن فترة حياتنا على هذه الأرض يجب أن نقضيها في الغالب في الأعمال الروحية، إذ لا يعلم أحد منا متى تحين ساعته. وعلينا أن نحسن الاستفاد من أوقاتنا، ففي ذلك صلاحنا وخيرنا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك