الفرصة الذهبية

تعريب: نادر الحصني الحسيني

قبل أربعة آلاف سنة مضت.. كابدت القبائل الإسرائيليّة عناءً من ربقة الأسر في قبضة الفراعنة الحديديّة، إذ استُخدِموا لبناء الأهرامات التي تَقف اليوم كآثار خالدة لأولئك الحُكّام. يُقال بأنَّ مائة ألف رجل كدُّوا وعَرِقوا لثلاثين سنة لبناء الهرم العظيم «خوفو». نُدرك من هنا مدى التعذيب والتسخير والعمل الشاق الذي بُذل في بناء هذه النُصب التذكارية الهائلة.

إنَّ مليونين وثلاث مائة ألف قطعة من الحجر تزن كل منها 54 طنًّا قد استُعملت للبناء. بالإضافة إلى 56 قطعة هائلة من الرُخام تزن الواحدة 54 طنًّا قد استُعملت لسقف غرفة المدفن. وقد جُلبت هذه الأحجار من أماكن بعيدة جدًا.

هذا التسخير والاضطهاد كانت تفرضه عليهم العائلة الملكية، فيسومونهم سوء العذاب. ولكن ما يُنزله العباد من ظُلم يُزيله الله. فبدأ الانحطاط ينخر في عظام الحضارة الفرعونيّة وحان زوال عهد قوّتهم وجبروتهم. أما التحرُّر والنهضة في حياة الشعب الإسرائيلي فكانت تنتظر الأوان لمشيئتِه تعالى.. فهي قريبةٌ بمتناول اليد.

فأضفى الله على موسى حلّة النبوة وأرسله إلى فرعون ..اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، وأن يطلب منه إطلاق سراح بني إسرائيل:

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (طه: 48).

ولكن فرعون طغى وتكبَّر وأنكر بعثة رسول الله موسى. فثار عندئذٍ غضب الله، فأرسل عليهم مصائب عمَّت البلاد:

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (الأعراف: 134).

  أسباب الموت والبلاء تلاحقت الواحدة تلو الأخرى حتى تقدَّم فرعون لطلب موسى مقهورًا مغلوبًا على أمره.. متردِّدًا يقدِّم رجلاً ويؤخِّر الأخرى. وهكذا بدأت الهجرة العظيمة لبني إسرائيل من أرض مصر. ولأربعين سنة تاهوا على وجوههم مُقيمين في الصحراء قبل أن يأذن الله لهم بدخول أرض الميعاد. وخلال ذلك الأمد جاء الوحي «بالقانون الإلهي» في صورة الوصايا. لقد عاش الإسرائيليون قبل ذلك في ربقة الأسر لمئات السنين، وبدا لهم المـــُستقبل الزاهر منذ ذلك اليوم، وأضفى الله عليهم بركاته ونعمائه وفتح لأعينهم طريق الخلاص.

وهنا يجب أن نتذكَّر جيدًا أنَّ القانون الموسوي ليس بالقانون الكامل.. ولم ينزل للإنسانيّة كلها، بل هو خاصٌ ببني إسرائيل، ولم يكن من المفروض أن يعُمَّ ليُغطِّي حاجات الإسرائيليين على مدى الأزمان والعصور. لقد نزل ذلك القانون لهداية الإسرائيليين فقط.. وضمن المقتضيات الخاصة لذلك العصر. لذلك نجد أنَّ بعض الوصايا تفتقر إلى الاعتدال، وتميل بطبيعتها إلى أقصى التطرُّف. فنجد مثلاً

«لاَ تُشْفِقْ عَيْنُكَ. نَفْسٌ بِنَفْسٍ. عَيْنٌ بِعَيْنٍ. سِنٌّ بِسِنٍّ. يَدٌ بِيَدٍ. رِجْلٌ بِرِجْل.» (التثنية 19: 21)

  بعد أربعة عشر قرنًا بعثَ الله فيهم رسول الله عيسى . مع العلم أنه لم يأتِ بقانونٍ جديد كما ورد في متّى: «لا تظنُّوا أنّي لأنقُضَ النَاموسَ أو الأنبياء. ما جِئتُ لأنْقُض بل لِأُكمِل». (إنجيل متّى5: 17). فلم يأتِ سيدنا عيسى بقانونٍ جديد، بل جاءهم عن طرف السماء بتعليمٍ يتَّسمُ بالرفق واللين، لأنَّ اليهود كانوا تشدَّدوا في بعض الأمور وأساءوا في تطبيق بعض التعاليم. فكان ذلك ليُعدل من مذهبهم الانتقامي الظالم ومجافاتهم للعدالة في تفاسيرهم للقانون. فكانت تعاليم المسيح في هذا المجال تميل إلى الاتجاه المعاكس من اللّين والتسامح. ففي متّى نجد: «سمِعتم أنّه قيل: عينٌ بعين وسِنٌّ بِسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاموا الشرّ، بل من لَطَمكَ على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا». (متّى 5: 18-19).

وكل من سيدنا موسى وسيدنا عيسى قدَّم الأنباء عن بعثة نبيٍ يَعلو عليهم بالدرجة والمقام وسيأتي بالشريعة الكاملة، ألا وهو الرسول الأعظم محمد . فقد نزل عليه القرآن الكريم.. الشريعة الكاملة المثالية العالمية للإنسانية جمعاء على مدى العصور ومرِّ الأجيال. ففي التثنية نجد:

“أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ.” (اَلتَّثْنِيَة 18: 18-19)

  هذه النبوءة تُشير إلى ظهور نبي مثيل موسى وشبيهٌ له. والميزة الكبرى لسيدنا موسى أنه نبي جاء بشريعة جديدة. ولذلك من الخطأ الظن أنَّ هذه النبوة قد تحققت بمجيء سيدنا عيسى، لأنه بنفسه صرَّح «ما جئتُ لأنقُض الناموس.. بل لأُكمل». فما جاء ليبُدِّل قانون موسى.. وما جاء بقانونٍ جديد. وكذلك صرَّح سيدنا عيسى .. بأنّه لم يبلغ الحقائق الروحيّة اللازمة لتقدًّم الإنسان بعدد كامل، بل سوف تبلغ كمالها وتمامها فيما بعد حيث قال:

“إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ.” (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 16: 12-13).

ذاك الذي سيأتي هو نفس النبي «من وسط إخوتهم مثلك» الذي أنبأ عنه سيدنا موسى. والنبوءة قطعًا لا تُشير إلى روح القُدس الذي هو واحد من الثالوث في الآلهة المسيحية، بل تُشير إلى خير الخلق جميعًا محمد .

من جمال الإسلام أنَّه يُقدِّم طريقًا معتدلاً للسلوك، فنجد تعاليمه في الوسط.. لا تأخذ طريق تعليم سيدنا موسى في التشدُّد ولا تميلُ في اللّيونة والضعف إلى ما ذهبت إليه التعاليم المسيحيّة. فمثلاً جاء في سورة الشورى:

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى: 41)

  الإسلام في تعاليمه لا يُصرُّ على القصاص مقابل الإساءة، ولا يَفترض العفو بدون قيد أو شرط.. ففي كِلاهما حلُّ مُرضٍ. إذا كان العفو يؤدِي إلى إصلاح المـُذنب وندمه وتوبته فالعفو هنا خير. واللهُ يُجازي عليه. وإذا تبيَّن أنَّ اتخاذ مثل هذا المقياس من الرحمة سيُعتبر ضعفًا.. ويُشجِع المسيء على التمادي في غيّه.. فعندئذٍ يجب أن تُنزل به العقوبة المناسبة دون ظلم.

العقل الرزين

الإسلام من أشدِ الأديان سماحةً في العالم وأكثرها توسعًا في التفكير والتفهُّم لوجهات النظر المختلفة، وأبعدها عن التعصُب والتحيُّز، وشريعته هي القانون الأزلي لكل عصر ولكل بيئة وللإنسانيّة جمعاء. يقود الإنسان في طريق الوسط والاعتدال، ونتيجة تعاليمه نجد أن عقل المسلم الحق متوازن.. يعمل بالروية والتأنّي. وإذا صَلَح العقل ونضجَ التفكير صلحت الأعمال، لأنَها تصدر عن ميزان العقل.. فالإنسان إنّما هو أفكاره، والجسم يصدع للعقل ويخضع له. فإذا قامت الأفكار الشيطانيّة في العقل خرجت في صورة عاداتٍ خبيثة.. وحياة جسديّة منحلّة. بينما الأفكار الطاهرة والصالحة تنعكس وتتبلور في عاداتٍ متأصِّلة.. طاهرة ونبيلة. وكذلك يتجلّى العقل المتوازن عند المسلم الحق، فيتحلّى بعاداتٍ كريمة، ويتمتع بالسيطرة الكاملة على أفعاله الجسديّة.

المسلم الحق يجب أن يكون واسع التفكير.. وليّنًا في التجاوب للأفكار الغريبة عنه. فالتعصُّب والجمود وانصباب التفكير على ما نقله الآباء والأجداد، فَسُدَ أو صلُح، ليس من ميزات العقل الرزين. وهذه للأسف هي الحالة الفكرية للسواد الأعظم من المسلمين اليوم.

الإسلام هو إكسير الحياة الخالدة، ولكن انصباب انتباه المسلمين وتكالبهم على الحياة الماديّة أدى إلى فشلهم في أن يتشرَّبوا الأُسس النورانيّة لعقيدتهم ودينهم. فهم لا يتمتعون بذلك الحبور وتلك الغِبطة التي ينعم بها أصحاب العقول التي تبحث عن الحقيقة بدون تحيُّز.. ولا بذلك السلام الذي يُنزل السكينة على قلوب الذين لا يعرفون التعصُّب.. فتتجرَّد عواطفهم فقط للحب والوئام. وهذا القصور الفكري يعمُّ اليوم المسلمين عامةً، ونجده في أهل العلم ورجال الدين أيضًا للأسف الشديد.

العقل المتَّزن أثمن من أندر اللآلئ وأفخم الجواهر. فالرزانة والهدوء يجعل صاحبه يعدُّ لكل أمرٍ عُدَّته، ويحسب للنتائج حسابه، ولا يجنح إلى النقمة، ولا تثور فيه العواطف فتطغى، ولا يحيد عن الصواب، بل على النقيض فهو في حزمٍ وجزم.. وسيطرة على جسده وأعصابه. إنّه مصدر مغناطيسيّة قوية تجذب الناس من حوله. ومن ذا الذي لا يميل ولا ينجذب إلى العقل الهادي المتفاعل النشيط. فصاحبه رابط الجأش في السرَّاء والضراء، لا تُزعزعه الخطوب ويروِّض النفس على التحمُّل والصمود. تجد وجهه مُتهلّلاً يُشعُّ من سماته النور.

كان هذا هو شأن حضرة مرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود ، فهو خير مثال في عصرنا للعقل الرزين ولمزاج أولياء الله. وصفه أحد تلامذته المقرَّبين مولانا عبد الكريم السيالكوتي :

«قال في أحد الأيام: عندي من قوة السيطرة والتملُّك لرغباتي ونوازع النفس حظٌّ عظيم، فقد جعل الله هذه النفس خاضعةً لإرادتي كل الخضوع.. بحيث لو أنَّ رجلاً تمادى في إهانتي وبسط لسانه أمامي في قذفي وذمّي سنة كاملة، فسينتهي الأمر به إلى الخجل وسيعرف بفشله في إثارة نفسي استجابةً بأي صورة.

فثباته على المبدأ وقوة إيمانه وإرادته هو كثبات الأنبياء (سلام الله عليهم أجمعين). فأنواع التهديد وحتى مشاهد الرعب لا يمكن أن تحرِّك به ساكنًا ولا تكاد تترك في نفسه أثرًا يُذكر. ليس من حادث فظيع أو مصيبة مؤلمة تستطيع أن تلفت أنتباهه إلّا لبرهة ريثما يقول: “لا حول ولا قوّة إلا بالله”، ولن تُشغله عن واجباته وما انكبَّ على إنجازه ووطَّنَ النفس على إنهائه».

وورد في شهادة الآخرين من أصحابه رضوان الله عليهم.. أنَّ ضبط النفس والسيطرة الكاملة للعقل ولين المزاج، ولطف المعشر.. كانت صفاته الدائمة في الصحة والمرض.. مصداقًا لقول القرآن الكريم:

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ (إبراهيم: 28)

  فذلك التثبيت من الله هو ما نراه في خلق سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود واتِّزانه في الطبع والقول والعمل. وقد ناله بالتأسِّي بالقدوة العظمى لسيده وسيدنا محمد المصطفى . الرجل ذو الكمال الذي لا يأبه بنيران الدنيا.. مِنْ فَشل وسوء حظ وتعب وأعباء هو نفس المؤمن الذي خاطبته جهنَّم بقولها: مُرَّ بسلام، فإن أنوارك قد أطفأت ناري.

والرزانة كل الرزانة في أن نفتح المجال للأفكار الجديدة. والعقل المتردِّد الذي يتأرجح دائمًا في سُلم الأنغام بين أقصى النهاية وأدنى البداية ليس بالرزين حقًا. فالعقل الرزين على النقيض.. يُشرف على الأمور ويُزيِّنُها من مَقَرٍّ ثابت لا يتزَعزَع.

فالمتوحش الذي يهتاجُ ويغضب لأدنى الأمور لا يمكن أن يكون رزينًا.. والمتمدِّن الذي يستسلم لجماح الغضب وتجتاحه غرائز إنسان ما قبل التاريخ، وتتملّك مجامع نفسه، ويفصل بين حالتيه العقليّتين خيطٌ واهٍ، وقليل من الضغط يُبدِّد رداء مدنيّته وثقافته، ويتسرَّب ذلك الوقار كالماء يندفع من شقٍّ في السدِّ المنيع.. وتأخذ الدوافع الغريزيّة بجوانح النفس.. فتخرج إلى السطح تلك اللعنات الموروثة من القسوة والعنف وتصرُّف العجماوات.. مثل هذا الشخص ليس من الرزانة في شيء.

بذور الإنسان تحمل بالوراثة الصفات الفيزيائيّة والنفسيّة لأجداده عبر التاريخ.. وفيها المزايا التي ستنتقل إلى أبنائه في المستقبل على مرِّ العصور. تلك البذور تحمل الدوافع لتصرُّفات آبائه ملوّنة بتصرفات آبائهم وأجدادهم.. أو بالأصح هناك سلسلة متواصلة من البذور تحمل الصفات المميزة لهؤلاء الأجداد إلى ما قبل التاريخ حيث اصطبغت بالوحشية والقوة.. وبقيت هذه الصفات مخزونة في نُطفِهم.. وستبقى طوال العصور الإنسانيّة المقبلة. والعقل الرزين هو الملجأ الوحيد للسيطرة على مظاهرها الفيزيائيّة الهوجاء.

هنا معلمٌ على حظٍّ من الرزانة والوقار.. قضى عمره في تقديم النُصح والإرشاد.. يخدم الله والإنسانيّة، وتأثيره على الآخرين في حياته الصالحة الطيّبة وشخصيته الجذّابة يُحاط بالإكبار والإعجاب.. وبينما كان في منزله يومًا يُعِدُّ خُطبةً أثار الأطفال صخبًا وضجيجا.. فتبدَّدت الأفكار في رأسه عبر الرياح.. وتعقدت سمات وجهه، وتصلّبت في تعابير المصاب بالجنون. فأصدر لهم الأمر بالتزام الهدوء. فَسَادَ الصمت لِبُرهة. وما أن عاد منكبًّا على تحضير خطابه حتى تصاعدت أصوات الضجيج ثانيةً. فكان ذلك أكثر من احتماله، فوقف فجأةً على قدميه، وفي عينيه لهيبٌ من الجمر.. وألقى كفَّه بثقلها على قفا طفل، فأرسله ينقلب على الأرض..  وانطلقت من لسانه كلماتٌ ألقت الذعر في نفس الزوجة، فهنا فقد الواعظُ حلمه ورزانته. والغرائز الوحشيّة قد ثارت واستولت على العقل بكامله.. وصار مظهرًا طبيعيًّا من طبائع السُلالة القديمة للإنسان من أهل الغابات والكهوف.

الصفات الوحشية تنعكس بصورةٍ أكبر أو أصغر في تسعٍ وتسعين في المئة من تصرُّفات الناس اليوم. وغابات الحياة الأساسية من التعايش السلمي.. تتطلّب منا أن لا نترُك لهذه الدوافع الغريزيّة لتصبح ثوراتٍ وحشيّة. فصاحب العقل الرزين يملك مقاليد الأمور في نفسه في ضبطٍ حازم. وهذه مناسبةٌ جيدة لإيراد المثل القائل: «الذي لا يملك زمام نفسه لا يملك زمام الآخرين»

تبديلٌ جذريّ يمكن أن يأخذ مجراه في حياة الإنسان.. بإبقاء الصفات والمزايا لرجال الله في فكره ونُصبَ عينيه على الدوام.. يتخذهم قدوةً ويحتذي مثالهم. ولو أنّ الواعظ الذي ثار وآذى الطفل كان معتادًا على أن يُركّز فكره ويُصوِّر فيه مثالاً لحكمة رجال الله الصالحين لما تعثر ولما فقد أعصابه وظلَّ في سيطرةٍ كاملة على نفسه.

كان حضرة مرزا غلام أحمد المهدي والمسيح الموعود هادئ الطبعِ منبسطَ الأسارير عند ضجيج الأطفال في منزله مهما بلغ. كان طبعه الهادئ مُثيرًا للعجب، وكان عقله الحاضر على درجة فائقة من الصفاء، وكان من السيطرة الذهنية بحيث أن الصخب والضجيج مهما بلغ فلن يبدل من مجرى أفكاره، ولن يفقده التركيز على الموضوع في مجال البحث، وكان من الحكمة والرزانة بحيث لا يبدو عليه أي أثر للانزعاج، وكأنه لا يشعر بما يدور من حوله أثناء الصخب والضجيج. وهذه الحالة الفكرية من هدوء النفس واطمئنان القلب هي ما يدعو لأجله عباد الله الصالحين: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ، وأيضا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي .

يقول مولانا عبد الكريم:

“لقد شاهدت سيدنا المهدي والمسيح الموعود مُنكبّا على كتابة مواضيع هي من الصعوبة بمكان. يصوغ مقطوعات عديمة النظير في الأدب العربي، في وسط عاصفة من الأصوات المزعجة والصخب الشديد. حوله أطفال طائشون ونساء ذوات عقل بسيط في شجار محتدم، في وسط الصراخ والعويل، وأصوات الغضب وعبث الأطفال وجدته يتابع الكتابة وكأنه في معتكف أو في مغارة نائية بعيدًا عن العباد. في مثل ذلك الجو من حوله أنهى معظم كتاباته التي ليس لها نظير باللغة العربية والفارسية والأردية”.

ليس هناك شك بأن المسيح الموعود كان على حظ عظيم من الوقار.. أنعم الله عليه واجتباه بقربه.. فكانت تنعكس عليه صفاته العُليا وأسماؤه الحسنى، وتجلت عليه وظهرت به تلك المزايا والفضائل والأخلاق الكريمة بصورة لم تظهر في إنسان بعد متبوعه سيدنا محمد المصطفى الذي فاق الناس جميعًا خَلقًا وخُلقًا. لقد اختاره الله سبحانه، فأدّبه وطهره، ونقّى قلبه من آثار الآثام، وجنبه مواطئ الزلل، وبث فيه من روحه نسائم الجنة، ومن شعره :

لله حمدٌ ثم حمدٌ

قد عرفنا المقتـدى

.

كادت تُعفِّيني ضلالا

تٌ فأدركني الهُدى

.

يا صاح إن الله قـد

أعطى لنا هذا جَدى

.

هو ليلةُ القدر التي

تعطي نعيمًــــا مُخْلَدا

في قدرة الإنسان، ولاشك، أن يتقدم إلى حد ما بمجهوده الخاص، ولكنه لن يبلغ الدرجات الروحانية العالية والكمال الإنساني الفذ بمجرد المجهود الشخصي، ما لم تتداركه عناية الله، فيُكلل جهوده وجهاده بالنصر.. ومساعيه بالنجاح.. ويُضفي عليه رداء الطهارة والنقاء، ولو لم تتداركه رحمه الله.. فترفعه إلى السماء الدنيوية التي ندعوها بجنة الأرض لأدرك أن نقاءه تشوبه الشوائب مهما اشرأب ورنا وتمنى تلك الرفعة الروحية على الأرض.. فيجب أن يعلم أن سعيه سوف يُرى.. وأنه لن يبلغ مقام أولياء الله ما لم يَفُزْ بذلك المقام، ولن ينال الوصال الإلهي ولن ينعم بتلك الجنة من طمأنينة النفس وراحة البال.. إلا إذا خاف مقام ربه.. ونهى النفس عن الهوى.. وأطاع وخضع وعاش حياة الصالحين، وعندئذ فقط:

فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى .

ونجد في سورية الليل:

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (الليل: 13-14).

لقد كلأ الله سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود بالحماية والرعاية، وتولاه برحمته ووالاه بنعمة القرب منه، وعن هذه النعمة يكتب حضرته فيقول ما معناه:

“كثيرة هي القيود والسلاسل التي تقيد الإنسان، وجهوده الشخصية مهما بلغت من الشدة في السعي ومهما تحمل من العنت، فهي وحدها ليست بكافية لتحريره من قيوده، يَود لو أنه نجى من ربقة المعاصي.. وأصبح طاهرًا نقيًا، ولكن جهوده بدون جدوى ما لم يتداركه الله برحمته.. ويمُد إليه يد العون، وأن يترفع الإنسان عن المعاصي كُليا ويحوز بالنفس المطمئنة، فذلك يجري فقط بقدرة القادر. لا توجد قوة أخرى على الأرض أو في السماء تُنجيه من العثرات.”

إن أعلى درجات التقدم في المجال الروحي يمكن بلوغها.. عندما تشتد الرغبة إليها.. وتحتدم الإرادة لنوالها. وحتى هؤلاء الذين يعيشون في الدرك الأسفل من درجات الجهل والضعة.. في متناولهم الفرصة لبلوغ ذلك النبع النوراني الذي تنغمس فيه الروح متى انبَلج في عقولهم ضياء الحق، فما من قوة تحجزهم عن تلك النعمة العظيمة.. حتى أنهم قد يسبقون أساتذتهم على ذلك الصراط المستقيم. يحتوي التاريخ على كثير من الأمثلة لهؤلاء الأبدال، رجال من أشد أعداء شريعة الله ورسله تفتحت إمكانياتهم الروحية فجأة فيما بعد، فاستيقظوا للحق، وجاهدوا، تداركتهم أحضان الله على حين غُرة فتبدلت بهم الحياة من الحضيض إلى النعيم. ومع أننا نقوم ضد التطرف من أدنى البداية إلى أقصى النهاية.. إلا أنه لا حد لمدى ما نذهب إليه من حب الله ورسوله، فذلك النوع من التطرف استثناء.

ليكن من المفهوم والمعلوم أن الرغبة في التفوّق على الأنداد بالمكارم والفضائل هي ميول مشجعة، وعدم وجودها ضعف في القلوب، وقد قال القرآن الكريم:

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (البقرة: 149).

في الشؤون الدنيوية يوجد مبدأ يقود الرجال إلى عتبة النجاح أساسه تلك النيران المشتعلة من الرغبات وتعقّب المآرب بعزيمة وروح التباري والتزاحم والتحدي والسباق لبلوغ الغايات. ونجد القانون نفسه يسري في مجال التسابق إلى المراتب الروحانية. مستر هنري فورد الذي أسس شركة صناعة السيارات المعروفة باسمه سنة 1903 يُعتبر من أقوى أقطاب الصناعة منذ وجدت، ومع ذلك لم يتعد تعليمَه الابتدائي. قضى سنيه المبكرة في الفقر، ترك الدراسة في سن الخامسة عشرة، وعمل تحت التدريب في ورشة للآلات، كان يعمل عشر ساعات في اليوم بأجر دولارين ونصف أسبوعيا، وسكنه وحده كان يُكلف ثلاث دولارات ونصف أسبوعيًا، فليُغطي الفرق كان يعمل مساءً من السابعة إلى الحادية عشرة في محل للمجوهرات. هذه كانت البداية المتواضعة لحياة مستر فورد وشركة السيارات التي بناها سنة 1903 والتي قد أتَمَّت صنع 28 مليون سيارة في مطلع سنة 1940، وعندما تُوفي سنة 1947 كانت أملاكه الشخصية تقدر بمئتي وخمسين مليون دولار.

إذا كان بقدرة الإنسان أن ينتشل نفسه من قرار الفقر والضعة إلى ذُرى الثروة والمكانة والمجد الدنيوي، فكذلك باستطاعته أن ينبعث من موته الروحاني وينفض عنه حياته الحيوانية.. ويسمو إلى منازل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشُهداء والصالحين. الوحش الإنساني يستطيع أن يصعد إلى منازل أولياء الله وينعم بصحبتهم وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .

ولا تحسبَنَّ أن المتوحشين يعيشون فقط في الغابات والأدغال. فكم من وحش في ثوب الآدميين يكمن في الأزقة والشوارع، وآلاف منهم اليوم يعيشون في المدن الكبيرة. وقليل من عامة البشر من لا تركبه بين الفينة والأخرى تلك النوازع الوحشية الموروثة من آثار الأجداد أهل الكهوف والغابات. هذه الميول الشاذة والانحرافية الدفينة بداخل النفس تطفو على السطح وتنبعث من الموت في حياة هؤلاء البؤساء الذين ظلموا أنفسهم، وتجنبوا طريق الصالحين.

لا مكان للتقدم للذين لا يعقلون، وفي الجهالة سادرون.. ما داموا لا يبذلون الجهد في ردع أنفسهم، ولا يملكون زمامها ولا ينهونها عن الهوى، ولا ينتهون عما يقدمونه من الأعذار بأنهم عبيد لطبائعهم الجائحة.

رُب رجل في حالة ثورة الأعصاب وقلة الصبر حاول أصدقاؤه أن ينتحلوا لضعفه الأعذار بقولهم: هذه هي طبيعته، لا شيء يمكن أن يتبدل فيها. ولكن لا شيء أبعد عن الحقيقة من هذا الزعم. إذا صدق الإنسان في قصده لإصلاح نفسه وتقدمها في مراحل الحياة وفي صقلها الأخلاقي.. فلا شيء يقف في طريقه قطعيًا.

طلاب علم النفس في دراسة التصرفات العقلية يعلمون أن فن التفكير الإيجابي يمكِّن الإنسان ذا الأفعال السيئة أن يتبدل إلى إنسان فاضل على حظ من مكارم الأخلاق. الحقيقة أن قيمة الإنسان تكون بمدى رفعة تفكيره وسمو مقاصده. فالرجل الذي ينشر الأشواك في طريقه ويعكر صفو نفسه وصفو حياة الآخرين من حوله بطبعه الحاد المتحفز للشر، هو نفسه يملك القدرة الداخلية لأن يبدل من ذاته، فيتحول إلى إنسان هادئ ذي مزاج حلو وخلق رائق. والقرآن الكريم يقول:

وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (النجم: 40-41).

إذا ترك نفسه تنساق في تيار الحياة بدون أن يأخذها بيد حازمة فيلزم النفس حدها.. فهو على ما هو.. لأنه لا يبذل الجُهد في الطريق الصحيح.. ولا ينفُض عن نفسه الأغلال.

الحياة ساحة معركة.. كل منا يستطيع فيها أن يكون القائد لمصيره ولمجرى مستقبله، فإذا طلب المعونة من الله كان له النصرُ المؤكد.

الإسلام طريق السلام. يقود الإنسان إلى الصراط المستقيم، ويضيء قبله بنور الإيمان، فالمسلم الحق نراه مشحونا بالقدرة والجاذبية.. يستهوي قلوب الناس بخلقه السمح، فهو المثال للرجل ذي الطبع المتوازن والعقل الرزين. لا يكفي أن يكون المسلم مُحمَّلا بصلابة الأخلاق والروح الإسلامية، بل يجب أن يُعبر عنها بأساليب مضبوطة ومتزنة، فالمسلم الغيور الذي يأخذ به الحماس.. فينطلق في الحديث مستمرًا بدون توقف، وليست عنده خصال المـُستمع الصبور، هو خارج عن الموضوع، ولا يُحقق من غاياته شيئا، وهكذا المدافع عن الإسلام الذي يبدأ بالتذمر والتأفف تجاه نقد الخصوم، وتتوتر منه الأعصاب لمجرد المعارضة ولا يقبل النقد.. لا يُحقق أي غاية.

وضمن هؤلاء أيضا الخطباء على المنابر والواعظون في المحافل الذين يُخاطبون الجموع بعبارات منمقة فيها من دفعات الحماسة أكثر مما فيها من المعاني.. أحاديث فارغة لا تؤدي إلى غاية. وهذه صور تمثيلية أقدّمها قد كُتبت خصيصًا لتوقظ الفكر إلى جمال التوازن والتناسب والتوقيت في مرافق الحياة من حولنا.

الاتزان في الطبيعة

الأرض في كوكب تابع للمجموعة الشمسية، تنطلق على مدارها حول الشمس بسرعة ثمانية عشر ميلا ونصف في الثانية، فما هي القوة التي تُبقيها ثابتة في مدارها؟ هي في الحقيقة نفس السرعة المعينة بالدقة بحث تُولد قوة طاردة.. معادلة تمامًا لجاذبية الشمس وللجاذبيات الثانوية للكواكب من حولها! إذا نقصت سرعتها سقطت في جاذبية الشمس والتهبت وانتهت الحياة فيها، ولو زادت سرعتها لانطلقت خارجة عن مدارها ولاختفت في مجاهل الفضاء، ولَقُضي على الحياة فيها لبعدها عن أشعة الشمس. فالأرض في مدارها في مركز متزن.. أيّ تغيير فيه يُحطم الحياة.

الاتزان يلاحظ في كل حركة من حركات هذه السفن الضخمة ذات الحمولات المذهلة، منذ خروجها من مينائها عابرة البحار حتى بلوغها مقصدها حيث تنقل حمولتها.

المرسى يرفع.. والحبال المثبّتة تُفك عقودها وتُزال، ثم يعلو هدير المـُحرك في أعماقها وباستمرار بطيء تتحرك مبتعدة عن الميناء، فتنحدر في الممر المائي متجهة إلى عرض البحار، المشاهدون من الميناء أو القرويون على شاطئ البحر تَراهم يُحدقون بها بعيون مشدوهة ملؤها الإعجاب وهي تنزلق على صفحات الماء الزجاجية الزرقاء بصمت وسهولة عجيبة. ما يدفعها إلا وجود تلك القوة الخفية التي لا توصف والاستجابة في الحركة بما يتناسب معها. والآن وقد أصبحت في عرض المحيط تعلوها السماء الدكناء مُلبدة بالغيوم، وتتوسط حدود الآفاق، ليس حولها إلا الماء والسماء. تلعب بها الأمواج وتتضارب على جوانبها، ويتطاير الماء فيرش الأعالي والسطح، إلا أن السفينة الفخمة تشق عباب الماء ببطء واستمرار متقدمة إلى غايتها، لا تأبه بالعوائقِ التي يضعها البحر الغاشم في طريقها. ويستمر مسيرُها وتنظيم سرعتها. وداخل السفينة يعم الهدوء وتسود السكينة، وأخيرا تبدو الأرض على بعد، ثم تقترب فيتبين الميناء، وتتجه السفينة إليه، ويهرع إليها قارب للتوجيه، يسعى على أمواج متلاطمة، ويُرسَل من ظهرها سلم من الحبال ليصعد عليه القبطان، فيقودها عبر الميناء، وبينما تختال إمبراطورة البحر إلى مرساها.. تُعلن ساعة الكنيسة القريبة وصولها بالضبط على موعدها.

القاطرة القوية الهائلة تقف في انتظار الإشارة لتسحب وراءها الاثني عشر من العربات الحديدة خارج المحطة. الآن صدرت الإشارة تُعلن بدء المسير. فاستجاب السائق بأصوات من الصفير، واندفعت القاطرة إلى الأمام ببطءٍ، وظهرت الحركة في المكابس تعلو وتنخفض وتتحولُ على العجلات الفولاذية إلى حركة دائرية، وعلت نفخات البخار المضغوط كرجل يلهث، وبدأت السرعة تتزايد ببطء.. وبتدريج منتظم دبّت على السكة الحديدية بتوازن عجيب.. لا تهتز ولا ترتج.. ولا يضيع من القوى الموجّهة إليها شيء. فالفائض من القدرة الذي لا يعمل لتحريكها.. يوجّه إلى زيادة سرعتها بالتدريج. وبوقت لا يُذكر نراها تترك المدينة من ورائها. وتجدّ سعيا عبر الوديان والسهول، وركابها في الداخل لا يشعرون بأي إزعاج، بل يجدون الحركة اللطيفة الناعمة تُهلّلُ لهم فيشعرون بالنُعاس.

تلك من عجائب القوى الميكانيكية التي تفرض على الحركة سيطرة كاملة، وتتحكم في سرعتها، والسر في التناسق والتلائم في تنظيم القوى يعود إلى موضوع الاتزان.

الصبر من التعاليم الأساسية للإسلام، فهو يتطلب من المسلم ربط الجأش والاعتدال والتوازن في العواطف والتغلب على الرغبات والنوازع بشكل مُستمر ودائم. وهذا القرآن الكريم يوجهنا:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران: 201).

نبي الإسلام محمد .. لم يترك أبدًا للعواطف المناوئة أن تأخذ بزمام نفسه، نجده رابط الجأش في كل المناسبات، كان ذا لباقة وذوق حتى في طفولته، كان على الرغم من يُتْمه منبسطَ الأسارير راضيا بحياته.. صبورا، لا يتأفف ولا يتذمّر، فكان مدة كفالة عمه مثال القناعة والبعد عن السفاسف التي يشتغل بها الأطفال عادة، كما روت “أم أيمن” حاضنته، فكان إذا أقبل وقت الأكل جاء الأولاد يتخطفون.. وهو قانع بما سييسِّره الله له.

وفيما بعد، عند هجرته برفقة أبي بكر الصديق وعندما التجأ معه إلى غار ثور، بكى سيدنا الصديق خوفًا على محمد وعلى ضياع المسلمين بضياعه لما رأى الكفار واقفين بمدخل الغار.. فأجابه الرسول بهدوء: “لا تحزن إن الله معنا”، وها هو القرآن ينقل إلينا خبرهما

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا (التوبة: 40)

وفي مناسبة أخرى كان الرسول الأعظم نائمًا دونما حراسة.. واستيقظ ليجد أحد أعدائه مشهرًا السيف فوق رأسه، وقال له هازئًا ومهددًا، وقد ظن أنه ظفر به: من يمنعك مني الآن؟ فأجاب الرسول ببساطة وهدوء: الله. فدهش الرجل لثقته البالغة بالله والنفس المطمئنة التي لا يُعكر صفوها الأحداث، فسقط السيف من يديه.

الأسى تحت وطأة الكارثة يتلاعب بالشعور ويُحدث انفجارًا في تيار العواطف، ولكن رسول الله كان عند وصية القرآن الكريم: ولا تفرحوا بما آتاكم .. ولا تحزنوا على ما فاتكم. مرّ الرسول يومًا بامرأة يعلو عويلُها لفَقد طفلها، فمنعها بلطف، فأجابت: لأنت أدرى بمصيبتي وآلام قلبي؟ لو فقدتَ عرفت الحزن، فقال : “لقد فقدت سبعة”، ومضى في طريقه.

ليس الإسلام بالدين المتطرف ولا بالصارم، ولكنه دين الاعتدال والتوسط، والمـُسلم المـُلتزم لدينه يحيط نفسه بالنُبل والوفاء، ولا يميل إلى الشطط، ولا يتعدى الحدود في تصرفاته.

Share via
تابعونا على الفايس بوك