أنباء وآراء الفتاوى السياحية !

أنباء وآراء الفتاوى السياحية !

أحمد محمود كريمة

نشرت الصحف الحكومية المصرية الصادرة صباح يوم 23 من نوفمبر سنة 1993م ملخصًا لأقوال نسبتها إلى فضيلة مفتي الجمهورية -حفظه الله تعالى- أمام الشعب الموقر، وتضمن الملخص عدة نقاط تتعلق بالسياحة والسائحين منها:

  1. أن السياحة حلال.
  2. وجوب تأمين السائحين.
  3. أن الدخل السياحي حلال.
  4. مشروعية استيراد الخمور وتقديمها للسائحين ومشروعية صالات الميسر بالفنادق والنوادي.
  5. عدم إقحام الدين في أمور السياحة.

هذا كلامه الذي قرأناه فيما خطه السادة الصحفيون بأقلامهم في صحفهم كالذي كتبه السيد عمرو الخياط في جريدة “الأخبار” الصادرة في التاريخ سالف الذكر.

وإنني أستميح القارئ عذرًا أن أخط بقلمي عدة سطور أساهم بها في الدفاع عن “الأحكام الفقهية الشرعية” التي يراد لها “الطمس” و”الاهتراء” و”الافتراء”!!

ثم أنبه على أنني بهذا لا أتناول شخص فضيلة المفتي -حفظه الله تعالى- فقد تعلمنا وما زلنا أن لحوم العلماء مسمومة! ثم إنني من الظانين الخير به، وما تعودنا الافتيات على أولي الأمر فينا من أهل علم شرعي ومن أهل حكم، ولن نمارس ذلك ما حيينا، عملاً بأحكام ومقاصد الشريعة.

بيد أنّ ما نسب إلى فضيلته -حفظه الله تعالى- منه ما يصطدم بالنصوص الشرعية وما ذهب إليه أصحاب المذاهب الفقهية المعتمدة. وإنني في مقام الاستئذان لمحاولة إبراز تلك الأمور من الوجهة الفقهية الشرعية لا من الوجهة الإعلامية، ولقصد إرضاء الخالق لا لإرضاء المخلوق مهما كان وضعه إذا علم هذا.

فأقول والله جل جلاله المستعان:

أولاً: القول بأنّ السياحة حلال فيه نظر. فالسياحة من حيث الأصل للمسلم وغير المسلم مباحة، وذلك هو الوصف الشرعي الدقيق لها، والأصل في ذلك قول الله تعالى

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنْكبوت: 21)

والسياحة كتصرف من التصرفات قد تعتريها الحرمة إذا كانت من مسلمين في ارتكاب معاصي واقتراف آثام، وقد تكون حرامًا إذا كان في إعدادها محظورات شرعية واضحة، وتكون جائزة في ديار المسلمين إذا كانت التصرفات فيها من مسلمين وغير مسلمين تتفق والتشريع الإسلامي في المعاملات الشرعية من بيوع وأطعمة وأشربة وسلوكيات؛ لأن ديار المسلمين يجب أن يعزّ فيها شرع الله تعالى، ولا تُمتهن فيها شريعته ولا يفتات على أحكامها؛ لأن الدولة هي التي تطوّع وتنقاد للشريعة الإسلامية وليست الشريعة الإسلامية التي تطوع لأهواء البشر ومصالح فئة من البشر!!

ثانيا: القول بوجوب تأمين السائحين قول شرعي سديد حيث أجمع أهل العلم قاطبة على وجوب بذل الأمان للسائحين متى صدر هذا الأمان من أي فرد، وأولى لو كان من هيئة كالسفارات والمطارات وشركات السياحة. ويجب ضمان إعادتهم إلى بلادهم، ولا يجوز مطلقًا إيذاء السائحين بأي صورة وإلا كان ذلك خيانة ونقضًا للأمان وغدرًا. وكل أولئك محرم شرعًا. وما سلف موضّح مفصل في مصنفات السياسة الشرعية وأبواب السير في المصنفات الفقهية المعتمدة.

ثالثا: القول بأن الدخل السياحي حلال قول صحيح، لكن تنقصه الدقة، لأن الذي يعلم بذلك أهل الذكر في المجامع الفقهية المعتبرة وهم أدرى الناس بتوصيف المصادر والمتحصلات والوسائل. فإن كانت شرعية فالقول بالحل لا مراء فيه، وإن كانت غير شرعية فالقول بالحرمة لا جدال فيه. وإن وجد الأمران الشرعي وغير الشرعي وحصل الاختلاط عندنا فتُسأل عنه الجهة المنوطة بالفصل في الأحكام الشرعية المتعلقة بالمجتمع.. وهي “الأزهر” المؤسسة الإسلامية بحكم الدستور ووفق لوائح العمل بالأزهر الشريف وهيآته. ومن المعروف أن دار الإفتاء إدارة تابعة لوزارة العدل تختص بالأحكام المتعلقة بفرد في واقعة معينة، أما ما يحتاج لإجماع أهل الحل والعقد فهذا في المؤسسة الإسلامية وهي الأزهر الشريف، وما ينبثق عنه من ندوات علمية رسمية لأهل الدراية والتخصص الدقيقين.

رابعا: القول بمشروعية استيراد الخمور وتقديمها للسائحين قول باطل تماما لمخالفته النصوص الشرعية جملة وتفصيلاً، فمن ذلك قول الله تعالى

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (المائدة: 91-93).

وقوله جل شأنه:

وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (المائدة: 3)،

وما رواه سيدنا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي أتاه جبريل فقال له: إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحولة إليه وشاربها وبائعها ومبتاعها وساقيها. وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها، أخرج هذا الحديث الترمذي.

وقد اتفق الفقهاء الذين يعتد بهم أن كل ما قُصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق أو في الفتنة، وإجارة الدار لبيع الخمر فيها وبيع العصير وبيع العنب ممن يتخذه خمرًا فإن البيع باطل.. باطل.. باطل! فما بالنا في استجلاب واستيراد الخمور؟ ألم يمر على دار الإفتاء حديث “إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: “لا”. ثم قال رسول الله : قاتل الله اليهود. إن الله تعالى حرم شحومها فجملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه” (متفق عليه)، وخَبَرُ: “حرمت التجارة في الخمر”. وما قرره أهل الفقه الشرعي من أن الخمر لا تُستجلب ولا تُصنع بديار المسلمين ولا يؤكل من بيعها؟ (انظر المغني لابن قدامة ج4/121،122 طبعة النور الإسلامية).

ولا أريد الاستطراد في بيان ما تدل عليه النصوص الشرعية، وما يترتب من مفاسد أليمة وخزايا مؤسفة وانتهاكات صارخة، إن أهملت هذه النصوص، وأحسب أن دار الإفتاء وعلى رأسها أحد المعلمين لكتاب الله تعالى أعلم وأدرى!

وما قيل عن استجلاب الخمور للسائحين وبطلان ذلك شرعًا، يقال أيضًا عن تهيئة أوكار الميسر لهم في ديار المسلمين.. إلا إذا توهمت دار الإفتاء أن مصر ولاية تابعة لـ “مونت كارلو”!!

ويضاف إلى ما سبق أن دار الإفتاء تفتح بابا من الشر عظيما! ذلك أن من حق بعض السائحين كالبوذيين ومن على شاكلتهم طلب نصب أصنام لهم -أسوة باستجلاب الخمور وإعداد صالات القمار- ليعكفوا عليها بجوار مآذن الأزهر الشريف وعلى مقربة من دار الإفتاء!!

خامسا: القول بعدم إقحام الدين في السياحة قول يدعو للعجب والغرابة ويبعث على النكارة! ويدل على تخبط واضح آلت إليه دار الإفتاء!! وذلك لعدة أمور منها:

ا- أن دار الإفتاء أول من خالفت هذا! بِكَم وزخم التصريحات!!

ب- أن السياحة لم تبلغ حد حظر الاقتراب منها كالبحث في الذات الإلهية والاستقصاء عن عصمة الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم.، وماشابه ذلك من الأمور التي يحظر البحث فيها، اللهم إلا إذا كانت الألوان ومرائي الأشياء استوت، فأمسى الخشب والماء سواء! وإلا إذا أرادت دار الإفتاء تحجيم الإسلام وحصره وقصره في جزئيات من أمور الحياة، لا -كما هو الواقع والحق- كل الحياة!

ج- أن دار الإفتاء أحلت لنفسها إقحام الدين في السياحة، وبئس ما صنعت، فقد أحلّت وجوّزت ورخصت لما لم يسبق وما لم يعهد!!

أقول هذا وأخشى ما أخشاه على هذا الدار التي كانت فترات من الدهر عونًا للحق وردءًا للإسلام.. أن تفقد مصداقيتها بين المسلمين داخليا وخارجيا، فلا يُعبأ لدى السواد الأعظم بقولها ولا يُلتفت لقولها، وتصبح أثرًا لا يُزار في “حديقة الخالدين”! ولن تنفعها دنيا ولا أخرى “الفتاوى السياحية”!

****

مع الشكر الجزيل لمجلة “التوحيد” المصرية، (السنة الحادية والعشرون، العدد السابع ص 57 إلى 61) ..

فقد أوضحت ما يقوم به بعض كبار رجال الدين الموظفين لخدمة رجال السياسة والاقتصاد.

“التقوى”

إياك والغضب

روي أن إبليس قال: مهما أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب، لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه، ويعمل بما أريده وأرتضيه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك