في عالم التفسير
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (البقرة: 68)

 

شرح الكلمات:

هُزُوًا: هزَأ به ومنه: سخِر منه (الأقرب).

فقوله تعالى: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا يعني: أتجعلنا هدفًا للاستهزاء؟

الجاهلين: الجهل: فعلُ الشيءِ بخلاف ما حقُّه أن يُفعَل (المفردات).

التفسير:

كان بنو إسرائيل يعيشون في مصر، وكان المصريون يعظّمون البقرة تعظيمًا كبيرا، ولذلك استولت عظمتها على قلوب بني إسرائيل أيضًا. ويتضح من الآية رقم (52) من سورة البقرة، ومِن الكتاب المقدس (سِفر الخروج 32) أن الصنم الذي اتخذه بنو إسرائيل إلهًا كان على صورة عجل؛ مما يدل على أن تعظيم البقرة في قلوبهم وصل إلى حد تأليهها. ولما كان الهدف الأساس للأنبياء هو القضاء على الشرك وإظهار جلال الإله الواحد الأحد، الخالقِ المالك لكل مخلوق، فكان لزامًا أن يكون في شريعة موسى ما يستأصل مِن قلوب بني إسرائيل تعظيمَ البقرة الذي كان قد دفعهم إلى عبادتها، ولولا ذلك لعادوا إلى عبادتها بعد فترة. ولذلك أمرَتهم شريعة موسى في عدة مواضع بذبح البقر. ومن الواضح أن الذين يذبحون حيوانًا مرة بعد أخرى لا يمكن أن يخلعوا عليه صفات الألوهية.

تشير هذه الآية إلى أن موسى أمَر قومه ذات مرة بذبح بقرة، فحاولوا مماطلته، ولكنهم اضطروا إلى الامتثال لأمره في نهاية المطاف.

لقد ذكر الله تعالى هنا نكرانًا آخر للجميل ارتكبه بنو إسرائيل؛ فَبَعْدَ عبادة العجل وتلقِّي العقوبات القاسية، وبعد التوبة والخجل، لم يكن متوقعا من هذا الجيل نفسه أن يسقط في وحل الشرك ثانية، ولكنهم لم يتخذوا من ذلك كله عبرة، بل مالوا إلى الشرك مرة أخرى. ويبدو أنه – لسوء حظهم- وُلد في قطيعهم عجل رائع اللون والجمال، ولما كانت عبادة العجل شائعة بين المصريين، حتى إن أكبر معابدهم كان ذلك الذي يوضع فيه صنم عجل جميل بدون عيب، فتلَهَّفَتْ قلوبهم إلى تعظيم ذلك العجل الجميل نتيجة تأثر عقائدهم بحكم عيشهم في مصر. فأمر الله تعالى موسى بأن يسنّ بينهم سنّةَ ذبح البقر قمعًا للميول الوثنية في قلوبهم. لقد كاد المريب أن يقول خذوني، فقد ظنّوا أن هذا الأمر يخصّ عجلهم الجميل المحبوب الذي كانوا يتحدثون عن جماله. كان حديثهم عنه قد تناهى إلى مسامع موسى بطريق أو بآخر، فلم يبادروا إلى ذبح أي بقرة عملاً بأمر الله ليتحقق الغرض من ذلك وهو إزالة تعظيم العجل من قلوبهم بالتدريج، وبدون أن يهتك سترهم، وانهالوا على موسى بوابل من الأسئلة حول مواصفات تلك البقرة وعلاماتها، ظنًا منهم أن الله تعالى يريد ذبح بقرة معينة. وكانت نتيجة هذا النقاش أنْ ذكر الله تعالى لهم علامات دقيقة لعجلهم الجميل الذي بدأ تعظيمه يترسخ في قلوبهم، فاضطروا إلى ذبحه في آخر المطاف، بالإضافة إلى تعرضهم للخجل والإحراج.

ونجد في تاريخ المصريين أدلة كثيرة على عبادة العجل وتعظميه، فقد ورد عن عجل (آبيس) أنه عجلٌ مقدس عبَده المصريون منذ القدم، ووضعوا صوره بين أصنامهم وتماثيلهم، وكان الأهم بين كل الحيوانات المقدسة لديهم، واتخذوا يوم ميلاده عطلةً وعيدًا ويومَ وفاته مأتمًا وحزنًا في البلاد كلها، وكان مأتمه لا ينقطع إلى أن يجدوا عجلا جديدا بمواصفات وعلامات تؤكد كونه مظهرًا للإله. وكان له معبد كبير في مكان اسمه ممفيس. وكانوا يقومون بتحنيطه عند موته ويدفنونه في مقابر خاصة محفورة في الصخور.

)موسوعة الأديان والأخلاق، (Encyclopedea of Religions & Ethics

وورد أيضا: كان العجل أهم الحيوانات التي كان المصريون يعبدونها، وتوجد آثار عبادته في الماضي الموغل في القدم. فكلما مات مثيلٌ للعجل “آبيس” بحثوا عن عجل جديد ذي مواصفات مماثلة، ومَن وُجد العجل المنشود في قطيعه أكرموه إكراما كبيرا، ومَن عثر على ذلك العجل أعطوه جائزة كبيرة. وكانوا يأتون بأنثاه أيضا ويضعونها في حجرة في معبد ممفيس، ويسمحون لهما بالسفاد مرة واحدة فقط في السنة، ثم يقتلون أنثاه. وكانوا يحتفلون بيوم ولادته كل عام ويتخذونه إجازة عامة. كان الناس يجتمعون لزيارته. كان المصريون يعرفون أخبار المستقبل من خلال أحواله، وينتفعون في زعمهم مما يراه سدنةُ معبده من أحلام ومنامات، بل كانوا يعدّون كلام الأطفال اللاعبين أمام معبده أنباءً مستقبلية. وإذا مات حنطوه وعملوا له مومياء ودفنوه في قبر محفور في الصخور. ولم تكن عبادة العجل “آبيس” خاصة بقبيلة معينة، بل كان أهل مصر كلهم يعبدونه.

ويقال أن الملك المصري “كاكاو” (kakau)، ثاني ملوك السلالة الفرعونية الثانية، هو الذي أسس عبادة هذا العجل، وبنى له معبدًا في “ممفيس”، وسمى العجلَ “آبيس” على اسم والد إله الشمس “بتاح” (phtah). كما أنه شرع عبادة عجل آخر اسمه “منفيس” (mnevis) كتذكار حي لإله الشمس، وذلك في هوليوبولس. كما أنه بدأ عبادة عجل آخر يدعى “باخا”، وكان يُعَدّ في أول الأمر مظهرًا للإله “منتوي” (mentui) ثم مظهرًا لإله الشمس، وذلك في مكان يدعى “هرمانتيس” (hermonthis).

وكان المصريون يعبدون العجل بالإضافة إلى عبادة البقرة، بل كانوا يعبدون حيوانات أخرى غير العجل، وكانوا يقدسون كل فرد من جنس ذلك الحيوان الذي كانوا يضعون له في المعبد تمثالاً ممثلا عن ذلك الجنس، وإن كانوا لا يعبدونه، وكان أكل لحم الحيوان من ذلك الجنس حراما عندهم، وإذا تعمد أحدهم قتل حيوان من جنس الحيوانات التي اتخذوها آلهة فكان يعاقب بالقتل، أما لو قتله خطأً لَغرّموه بغرامة. وسلسلة العجول الآلهة من سلالة عجل ممفيس تصل حتى نهاية الملوك المصريين، فبدءًا من عصر رعمسيس الثاني -الذي وُلد موسى في زمنه- حتى عصر البطالمة (Ptolemaic period)، قد وُضعت للعبادة تماثيل لأربعة وعشرين عجلاً على الأقل واحدًا بعد الآخر في معبده بممفيس. (النيل والحضارة المصرية، لـ “مورت” (moret) المحاضر في جامعة فرنسا، صفحة 364)

لقد ثبت من هذه المقتبسات أن عبادة العجل بوجه خاص كانت شائعة في مصر، وكانت عجول ذات مواصفات معينة تُنتقى لهذا الغرض، وكان بنو إسرائيل متأثرين بهذه العقائد المصرية بحكم عيشهم بين المصريين، فوُلد بالصدفة في قطيع بعض بني إسرائيل عجلٌ جميل ذو مواصفات غير عادية، فظنوا أن إله الشمس قد نظر إليهم بلطفٍ ومحبة، فوُلد الإله في صورة هذا العجل الجميل عندهم، فأمرهم الله عندها بذبح ذلك العجل لكي يقضي على هذا الشرك بينهم.

علمًا أن القرآن الكريم قد استعمل كلمة البقرة هنا، وهي تُستعمل للمؤنث والمذكر.

ولا يذكر الكتاب المقدس تفاصيل هذا الحادث كما ذكرها القرآن الكريم، وقد سبق أن ذكرتُ أنَّ ذكر الكتاب المقدس لحادث تاريخي أو عدمه لا يعنى شيئًا مقابل كتاب سماوي محفوظ. ومع ذلك فقد تحدث الكتاب المقدس عن تضحيةٍ بعجلٍ ذي مواصفات كالتي ذكرها القرآن الكريم، حيث ورد:

{كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا إِلَيْكَ بَقَرَةً حَمْرَاءَ صَحِيحَةً لا عَيْبَ فِيهَا، وَلَمْ يَعْلُ عَلَيْهَا نِيرٌ، فَتُعْطُونَهَا لأَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ، فَتُخْرَجُ إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ وَتُذْبَحُ قُدَّامَهُ. وَيَأْخُذُ أَلِعَازَارُ الْكَاهِنُ مِنْ دَمِهَا بِإِصْبِعِهِ وَيَنْضِحُ مِنْ دَمِهَا إِلَى جِهَةِ وَجْهِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَتُحْرَقُ الْبَقَرَةُ أَمَامَ عَيْنَيْهِ. يُحْرَقُ جِلْدُهَا وَلَحْمُهَا وَدَمُهَا مَعَ فَرْثِهَا. وَيَأْخُذُ الْكَاهِنُ خَشَبَ أَرْزٍ وَزُوفَا وَقِرْمِزًا وَيَطْرَحُهُنَّ فِي وَسَطِ حَرِيقِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْكَاهِنُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ، وَبَعْدَ ذلِكَ يَدْخُلُ الْمَحَلَّةَ. وَيَكُونُ الْكَاهِنُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. وَالَّذِي أَحْرَقَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ بِمَاءٍ وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ وَيَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ. وَيَجْمَعُ رَجُلٌ طَاهِرٌ رَمَادَ الْبَقَرَةِ وَيَضَعُهُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ، فَتَكُونُ لِجَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي حِفْظٍ، مَاءَ نَجَاسَةٍ. إِنَّهَا ذَبِيحَةُ خَطِيَّةٍ} (العدد 19: 2-9)

لا يذكر الكتاب المقدس هنا ما دار بين موسى وبينهم من أسئلة وأجوبة كما ذكر القرآن الكريم، لكن المرء يدرك بتأمل قليل أنه رغم ورود هذا الحادث في الكتاب المقدس كحادث عادي إلا أن الغاية المتوخاة من ذبح مثل هذه البقرة إنما هي محو الشرك من قلوب بني إسرائيل، ووقايتهم من تأثير الأمم الأخرى. ولعل هذه هي الحكمة في تسمية الماء الذي خُلط به رماد البقرة “ماءَ نجاسةٍ”، أي الماء الذي غُسلت به نجاسة الشرك، بمعنى أن بني إسرائيل لو استمروا في ذبح مثل هذه العجول والبقر التي كان يعبدها المصريون لتطهرت قلوبهم من نجاسة الشرك.

لقد ذكرت كتبُ الحديث اليهودية هذا الحادث بتفصيل أكثر مما ذكره الكتاب المقدس هنا. فقد وردت في (مثتا) -وهو أحد كتب الحديث اليهودية- بحوثٌ مفصلة جدا عن هذه البقرة، بل هناك باب كامل عن الحادث. وورد في رواية الرِّبّيّ “نسيس” أنه لم توجد بقرة بتلك المواصفات بعد موسى (موسوعة الكتاب المقدس). وهذه الرواية من أحاديث اليهود تصديق كامل لما ذكره القرآن الكريم بأن الله تعالى كان يريد منهم في الواقع ذبحَ بقرة محددة متميزة بجمال غير عادي وبعلامات معينة ما كانت تتوافر في كل بقرة دائمًا.

ثم قال الله تعالى: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، أي أن الاستهزاء والسخرية في أمور الدين هو دأب الجاهلين. والأسف أن كثيرا من الناس لا يدركون هذه الحقيقة، فتقسو قلوبهم جراء الضحك من أمور الدين أو عدمِ الجدّية فيها.

 

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (البقرة: 69)

 

شرح الكلمات:

فارضٌ: فَرُضت البقرةُ: كبرتْ وطعنتْ في السنّ. لا فارضٌ ولا بِكر: لا مُسنّةٌ ولا فتيّة (الأقرب).

بِكْرٌ: البقرة الفتيّة (الأقرب).

بِكرٌ في قوله تعالى: لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ هي التي لم تلد. (المفردات)

عَوانٌ: النَصَف في سنّها (الأقرب)، أي المكتملة الحيويّة.

التفسير:

أمر الله تعالى اليهود بذبح عجلٍ أو بقرةٍ، فبدأوا يسألون عن علاماتها إذ كانوا يخافون في قلوبهم على عجلهم المحبوب. فقال الله تعالى: إنها لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ، أي أنها بينَ الفارض والبكر.

ثم قال تعالى فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ، أي لا تتعرّضوا للإحراج والإذلال بكثرة السؤال. لكن اليهود لم يرتدعوا، بل تمادوا في السؤال كما هو بيّنٌ من الآيات التالية.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (البقرة: 70)

 

شرح الكلمات:

صفراءُ فاقعٌ لونُها: فَقع لونُه: اشتدتْ صُفْرتُه. الفاقع: الخالصُ الصفرةِ؛ الخالصُ الصافي من الألوان أيَّ لونٍ كان، والمشهور أنه صفةٌ للأصفر (الأقرب).

التفسير:

رغم الإشارة الإلهية لبني إسرائيل بأننا نستر عليكم فلا تهتكوا ستركم بالأسئلة، فإنهم استمروا في السؤال، فردّ الله عليهم: إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ .

توجد في العربية كلمات مختلفة لبيان شدة كل لون، فمثلا إذا كان الشيء الأسود شديدَ السواد قيل: حالكٌ، وإذا كان الأصفر شديد الصفرة ورائع الجمال قيل: فاقعٌ.

وصف الكتاب المقدس البقرة أنها حمراء، بينما وصفها القرآن الكريم أنها صفراء. ولو اعتُبر هذا اختلافًا فقد سبق أن قلت إن القرآن الكريم وحي سماوي محفوظ، وهو الأحق بالاعتبار عند الاختلاف مع الكتاب المقدس الذي هو غير محفوظ من التحريف. غير أني أرى أنه ليس ثمة اختلاف، لأن بعض الألوان متشابهة وتوصَف بأسماء مختلفة من منظورات مختلفة، ومن تلك الألوان اللونُ الأصفر الفاقع. فمِن ناظرٍ يسميه أصفر، وآخر يسمّيه أحمر. فمثلا لو وضعنا الزعفران أمام عدة أشخاص لاختلفوا في تسمية لونه، ولقال بعضهم إنه أصفر، وقال غيرهم إنه أحمر. ويبدو أن لون تلك البقرة سمِّي عند اليهود أحمر، وعند العرب أصفر. ولما كان القرآن بالعربية فسمّى لونها أصفر. فثبت أنه ليس باختلاف في الواقع.

ثم قال الله تعالى: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ . هناك إشكال هنا وهو أن ضمير المؤنث في تَسُرُّ راجع إلى (لَوْن) الذي هو مذكر، فكيف هذا؟

والجواب أن من قواعد العربية جواز استعمال فعل للمضاف نظرًا إلى المضاف إليه تذكيرًا وتأنيثا. ولما كانت كلمة (لَوْن) مضافة إلى الضمير (ها) العائد إلى البقرة، جاء الفعل تَسُرُّ بصيغة التأنيث بحسب ضمير المؤنث (ها)، وقال: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ؛ والمعنى: يسرُّ لونُ البقرةَ الناظرين.

ويجوز في العربية استخدام الضمير بالمعنى أيضا، فلأن اللون هنا يعني الصفرة، فالمعنى: تسرُّ صفرتُها الناظرين.

ويجوز أيضًا أن يُعتبر الضمير عائدًا إلى البقرة، أي تسرّ البقرة الناظرين، فالجملة صفة أخرى للبقرة.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (البقرة: 71)

 

شرح الكلمات:

تشابهَ: تَشابَهَ الرجلانِ: أشبَهَ كلٌّ منهما الآخرَ حتى التبسَا. (الأقرب)

التفسير:

لم يرتدع اليهود عن السؤال بعد ذلك أيضا، وطلبوا علامات أخرى للبقرة. ولما كانوا يشكّون في أن الله تعالى يريد بقرتهم المعظَّمة، قرّروا في نفوسهم أخيرًا أنهم إذا أُمروا بذبحها في كل حال فسيذبحونها، ولذلك قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ .

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (البقرة: 72)

 

شرح الكلمات:

مُسَلَّمَة: سلّمه الله من الآفة: وقاه إياها (الأقرب). فمعنى مسلَّمةٌ أنها سليمة من المرض والعيوب.

شِيَة: وَشَيتُ الشيءَ وَشْيًا: جعلتُ فيه أثرًا يخالف معظمَ لونه (المفردات).

شِيَةٌ: كلُّ لونٍ يخالف معظمَ لونِ الفرس وغيرِه (الأقرب).

فمعنى لَا شِيَةَ فِيهَا أن لها لونًا واحدًا لم يخلط بلون آخر.

التفسير:

وأخيرًا ذكر الله تعالى كل المواصفات التي تم بها تحديد ذلك العجل، حيث قال الله لهم بأن هذا العجل لم يُستخدم للحراثة ولا للسقي، أي هو عجلٌ قد تركتموه كالفحل، مُعفىً من العمل تعظيمًا وتكريمًا له، لا عيب فيه، ولا يؤذيه أحد، فليس به أثر لجرح أو ضرب. وكأن هذا هو وصفٌ للثيران التي يعظّمها الناس تعظيما عقائديا. وهكذا بيَّن الله تعالى لهم كل علامات عجلهم المحبوب، حتى قالوا في نهاية المطاف: الآن جئت بالحق، أي لقد صدق حدسُنا بأن الله يقصد عجلنا المحبوب.

والواقع أن قول الله تعالى كان حقا من قبل ومن بعد. كان تعالى يريد أن يعوّدهم على ذبح البقر دون أن يهتك سترهم، لكي ينمحي هذا الشرك من قلوبهم شيئا فشيئا، ولكن إصرارهم كان السبب في تحديد عجلهم المحبوب، فقالوا: الآن جئت بالحق، وذبحوا البقرة آخر الأمر كارهين.

إن قولهم الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ دَليلٌ واضح على أن أفكار الشرك كانت قد تولدت في نفوسهم بصدد عجل معين، وإلا فكيف يمكن أن يوجهوا سؤالاً تلو سؤال عند الأمر بذبح بقرة ثم يقولوا بعد أن أُخبروا بالعلامات المفصلة: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ . يأمر الأثرياء عندنا خدمهم بشراء عجول لتُقدَّم أضحية يوم عيد الأضحية، ولكن لم يحدث قط أن خدمهم قالوا لم نفهم أي عجل نأتي به، ولا يسألون مرارا لتحديد عجل معين، لأنهم يفهمون من العجل أيَّ عجل، وليس عجلاً محددًا. أما اليهود فكانت الأفكار الوثنية قد ترسخت في قلوبهم بشأن عجل معين، فظنوا منذ البداية أن المقصود من الأمر بذبح بقرة ليس إلا ذبح عجلهم المحبوب، فظلوا يطيلون النقاش حتى أخبرهم الله بعلامات عجلهم الذي كانوا يعدّونه مظهرًا لله تعالى.

ثم إن اتخاذ بني إسرائيل العجل إلهًا عند ذهاب موسى إلى الجبل دليلٌ آخر على عقيدتهم الوثنية بشأن البقر. ومن الثابت تاريخيا أن المصريين كانوا يعبدون العجل الحي ويعبدون تمثاله أيضًا. وكذلك بنو إسرائيل عبدوا تمثال العجل مرة، ثم حاولوا عبادته حيًّا في المرة الثانية.

ثم إن لون العجل دليل آخر على تأليههم إياه؛ لأن تمثال العجل الذي صنعوه من الذهب كان أصفر، كما أن البقرة التي أُمروا بذبحها كانت أيضا صفراء بحسب القرآن الكريم، ثم إن الصفراء تعني الذهب أيضًا في العربية (الأقرب). فصناعة التمثال من الذهب، وكون البقرة التي أمروا بذبحها صفراء اللون لدليلٌ على أن العجل الذي كان اليهود يعدّونه موصوفا بصفات الإلوهية كان أصفر اللون.

وهناك دليل قياسي قوي على أن العجل الذي أُمر اليهود بذبحه كان بالفعل، أو كاد أن يصير، مركزَ عبادتهم، وهذا الدليل هو أنه كان أصفر اللون. وقد سبق أن أثبتُّ من تاريخ المصريين القدامى أنهم قاموا بتأليه العجل في المعبد بممفيس باعتباره مظهرًا لإله الشمس. كانوا يعبدون ذلك العجل في ممفيس باسم “بتاح” الذي يقال أنه كان أبًا لـ “رَع”، أي أبًا لإله الشمس، وكانوا يعدّون العجل مظهرًا لإله الشمس في معبديْ هوليوبولس وهرمانثس. ولأن الشمس صفراء اللون، ففي كون ذلك العجل أصفر اللون دليل قوي على أن اليهود اعتبروه مظهرًا لإله الشمس التي هي أيضا صفراء اللون.

ولو صحّ هذا القياس لأدركنا بسهولة أن اللون الأصفر الذي وصف به القرآن الكريم تلك البقرة أقربُ إلى الواقع من اللون الأحمر المذكور في الكتاب المقدس.

أما قوله تعالى وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فيعني أن ذبح ذلك العجل كان شاقًّا عليهم، لأنهم كانوا يظنون بحكم تأثير البيئة المصرية أنه متصف بشيء من الألوهية.

ما أكثرَ أوامرِ اللهِ حكمةً! لقد روّج الله تعالى لتقديم قربان البقرة في المسلمين أيضا للقضاء على الشرك المتعلق بها والموجود في بعض بلاد العالم حتى اليوم. وللأسف أن من المسلمين مَن يستعدّون بدون مصلحة دينية للتخلي عن حقهم المشروع لذبح البقر، بينما يخرج فريقٌ منهم بالبقر والعجول المعدَّة للذبح في تظاهرة تجرح شعور جيرانهم من أتباع دين [1] آخر بدون داع. وكلا التصرفين باطلٌ غير جائز.

على المؤمن إصلاح نفسه، وليس إيذاء جاره. وما أقربَه إلى العدل والإنصاف ذلك الاقتراح الذي قدمه مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى جيران المسلمين من أتباع الديانات الأخرى. لقد قال في كتابه “رسالة الصلح” بأننا نعُدّ صلحاءَ الهندوس مثل حضرة (كرشنا) وحضرة (رام شندر) من أنبياء الله تعالى بحسب تعاليم القرآن الكريم، ولو أن الهندوس احترموا رسولنا محمدا بالمقابل، فإننا مستعدّون للامتناع عن ذبح البقر في هذه البلاد. ولكن المؤسف أن الهندوس لم يقبلوا هذا العرض العادل جدا.

1  يشير هنا حضرة المفسر إلى بلاد الهند التي يقدّس فيها الهندوس البقر. (المترجم).
Share via
تابعونا على الفايس بوك