حقيقة الإسراء والمعراج الحلقة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

في عالم التفسير

لحضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه

الخليفة الثاني للإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام

 ترجمة وتلخيص: الحاج محمد حلمي الشافعي

  بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء: 1 -2)

مصطلح المعجزة

وينبغي أن نُشير هنا إلى أنَّ لفظة (المعجزة) ليست مصطلحًا قرآنيًا أو نبويًّا وإنّما هي من وضع رجال العلم، وقد عرَّفوها بأنها ((العمل الخارق الذي يُجريه الله تعالى على يد مدَّعي النبوة ليكون دليلاً أمام قومه على صدقه في دعواه)). وهذا يقتضي أن يتم العمل أمام قومه، يشهدون وهو يقع ويلمسون نتائجه بأنفسهم، وإلا فهو ليس بأمرٍ مُعجز، فإذا ادَّعى شخص أنَّ أمرًا حدث له وهو في خلوته.. وكان ما يدَّعيه بعيدًا عن المألوف وما جرت به العادات كان ذلك مدعاةً لتكذيبه، وللمكذِّبين عذرهم في ذلك.

وأودُّ أن أُبيّن من الآن، أنَّ تكذيب واقعة وردت في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف لأمرٌ يوقع المكذّب في غيابة الجهل وظلمات الكفر. أما تكذيب أحداث الواقعة استبعادًا لحدوثها بسبب غرابتها أو صعوبتها فربما كان ذلك أشدُّ جهالةً وأعظم كفرًا.. لأنَّ المولى تبارك وتعالى إذا أراد شيئًا فلا رادَّ لما أراد.. فلنترك هذا الافتراض ولا شأن لنا بمن يُكذّب الرسول أو يستبعد على الله أمرًا أراده. ولكن جديرٌ بنا أن نتذكَّر أنَّ أعمال الله، جلّ وعلا، كلها هي من المعجزات.. بدءًا من جناح البعوضة إلى أعظم المجرَّات. فماذا بالله عليكم، في هذا الكون وليس معجزًا لكل الكائنات؟ هل هناك شيءٌ في هذا الكون من إبداع أحدٍ من خلق الله؟ إنَّ من يرى في ما يُسمُّونه خوارق شيئًا أكبر من شيء لا يعرفون لله تعالى قدره حقّ المعرفة. إنَّ كل صغيرة أو كبيرة في هذا الكون معجزة كاملة بالنسبة لكافة المخلوقات. وعجز الناس عن خلق خلية أو ذرّة واحدة هو مساوٍ بنفس القدر بعجزهم عن خلق بحر أو جبل أو قمر.

ولا بأس من أن نُكرّر مرةً أخرى أنَّ الآية الإلهية أو ما يُسمُّونه معجزة لا يكون لها أي مغزى أو قيمة إن كان شاهدها من جرت على يده وحده، ذلك لأنَّ المكذِّبين سيُمعِنون في تكذيبه، والمصدِّقون له قد يُفتن بعضهم ويقع في التكذيب. أما الموقنون به فهم يُصدِّقون من قبلها ومن بعدها، ولا معنى لها بالنسبة لهم إذ أنهم لم يشهدوها بأنفسهم لتترك أثرًا ما في نفوسهم.

كما أنَّ المعجزة أو ما يعتبرها البعض معجزة، إذا لم تكن عاملاً بنّاءً في بيان صدق المدَّعي فإنَّها تكون عملاً لا يتسم بالحكمة، لأنّها عندئذٍ تعتبر عقبة في سبيل المدَّعي، وفتنةً شديدة لقومه. إنّها لا تكون دليلاً واضحًا بل عاملاً مُربكًا مُحيّرًا. ومما يُشار إليه هنا ما يزعمه بعض رجال الدين من أنَّ هناك أمورًا خارقة للعادة تشبه المعجزات.. يسمُّونها استدراجًا، لأنّها تقع على يد الكاذب ليتمادى في كذبه. الحق أنَّ مثل هذا القول افتراءٌ على الله تعالى.. الرحمن الرحيم الذي يُعامل الناس بالرأفة ولا يريد بهم التضليل والكيد. كما أنَّ مثل هذا الاستدراج يُوقع الأبرياء في خطأ لا حيلة لهم في اجتنابه.

حقيقة المعجزة القرآنية

يقول الكثير من العلماء بأنَّ القرآن المجيد معجزة رسول الإسلام الكبرى، وهذا قولٌ صحيح.. لأنّه كلامٌ بلسان العرب، إلا أنّهم لا يستطيعونه.. ولم يقدروا عليه.. وإلى اليوم هم عاجزون عن أن يأتوا بمثله في نظمه وأسلوبه وجماله البياني. ولكن الأهم من ذلك لهم ولغيرهم أنَّ العالمين جميعًا لا يستطيعون أن يأتوا بما في سورةٍ واحدة من سوره، طويلةٍ أو قصيرة، من تشريعٍ كامل، أو حكمةٍ بالغة، أو تعليمٍ رشيد، أو مثلٍ دقيق، أو عقيدةٍ طاهرة، أو تعريف بصاحب الملك والملكوت، أو نبأٍ غيبي لا يتخلَّف.. أو.. مما نعلمه اليوم وما يتكشّف لنا في الغد من كنوز القرآن التي لا تفنى وطرائفه التي لا تبلى. هذه هي المعجزة الحقّة.. تغيب الشمس وتُشرق.. ولكنها باقية تملأ الدنيا هدايةً وسعادةً لمن أراد الهداية وطلب السعادة.

الإسراء والمعراج لم يكن بالجسد العنصري

إنَّ حادثة الإسراء والمعراج لو كانت بالجسد ما أضفت على مغزى الإسراء أو معنى المعراج مزيدًا من الإعجاز.. ذلك لأنَّ تحقّق ما أشارت إليه أحداث المعراج وتأويل ما ورد في واقعة الإسراء يتطلب عمل آلاف مؤلفة من جند الله. إنَّ روايات الحادثتين تحكي لنا أنَّ جبريل وملكًا أو اثنين هم الذين اشتركوا في واقعة شقّ الصدر ورحلة السماء والأرض، ولكن الأحاديث تحكي لنا أنَّ سبعين ألف مَلَك نزلوا مع سورة الكهف وعلى رأسهم مَلَك الوحي.. يحرسون السورة حتى يتحقق ما أومأت إليه من أنباء الغيب. بل إنَّ آلافًا من الملائكة نزلوا في معركة بدر الكبرى، ووعد المؤمنون بـتأييد خمسة آلاف من الملائكة بعد معركة أُحد. وفي هذا ما يكشف لنا عن أحداث تطلَّبت مددًا سماويًا أعظم بكثير مما تطلَّبته حادثة الإسراء أو حادثة المعراج.

وإذن فالمسالة ليست مسألة صعوبة أو غرابة أو إمكان حدوث.. فحياة الرسول زاخرةٌ كل يومٍ بأحداثٍ جسام.. لا يتأتى لإنسان أن يُحقّقها وحده ما لم تكن جنود العالم العلوي في ركابه. فمعركة الإصرار على كون الرحلتين بالجسد وإنكار الرحلتين كليّة معركة باطلة بين طرفين لم يُدركا حقيقة المعراج وحقيقة الإسراء.. ومن ثم راحا يضربان بعضهما بالأدلة والبراهين التي قامت على مقدماتٍ بعيدة تمامًا عن واقعه الأمر وحقيقة الأحداث.

إننا نقول لمن يُنكر هذه الواقعات: إنها ليست أحداث جسدية مادية فلا تتسرّع بالإنكار، ولكنها إشارات روحانية تحمل إعجازًا أعظم بكثير مما تنكره من حركات المادة. ونقول لمن يُلحّ على أنّها رحلات بدنية: رويدك فإنّك لا تُضفي على محمد المصطفى كرامةً ولا سمُّوًا، لأنَّ ما تتوهّمه كذلك ليس في الواقع شيئًا يُذكر بجانب ما استحقه من كرامةٍ ومنزلة، وليس من شأن هذه الحركات الجسدية أن ترفع منازل المصطفين الأخيار، وإنّما هي شيءٌ كبير في عين أصحاب النظرة السطحية والهِمم الضعيفة.

تحليل الأحداث

ولنتجول معًا في بعض هذه الأحداث، ونتأمل ما فيها مما نظنّه تكريمًا حسب فهم أصحاب النظرية الجسدية. وإنّا لا نعيب على هؤلاء أنَّهم لفرطِ محبتهم للرسول يريدون أن يخلعوا عليه من فهمهم ما يجعله على المستوى الذي ترسمه لهم مخيلتهم.. متناسين أنه بشر، وإن كان أكرم من البشر، ومتغافلين عن وظيفة الرسالة التي يحملها أعظم الرسل. ولنبدأ بشرح حادثة شقّ الصدر.. إذا كانت هذه حادثة جسدية مادية حقًا، فما يكون فضل الرسول على سائر البشر في مقاومة الشيطان واكتساب الحكمة والعلم؟ لقد أزالت الملائكة حظّ الشيطان منه وغسلوا باطنه وملأوا قلبه حكمةً وعلمًا دون كسب أو جهد من جانبه. فهل هذا يُكسبه فضلاً على بعض أتباعه الذين جاهدوا حقَّ الجهاد لاكتساب التقوى؟ عفوًا يا رسول الله.. فإنّك أطهر وأنقى وأحكم مَنْ ولدته أمٌّ بحسن عملك وجميل اتِّباعك لهدى ربك.. بذلت من دمك وجسمك وروحك وملكاتك ما استحققت به أعظم شهادة حصل عليها أحدٌ من خلق الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ .. شهادةٌ يحفظها لك القرآن المجيد وسُنّتك الطاهرة وسيرتك العبِقة ترويها الأجيال جيلاً بعد آخر. إن حكمتك وعلمك وطُهرك لا يكفيها طستٌ أو بحر، ولكنها جهاد عمرك لحظةً بلحظة.. ويومًا بيوم.. وحركةً بحركة.. صلى الله عليك حق الصلاة.

أين التكريم أو الترفيه

ويقول المفسِّرون المحدثون.. إنّ الرسول بعد أن ماتت زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها ثم عمه أبو طالب، واشتدَّ إيذاء قريش له، ورحلته إلى الطائف التي عاد منها بعد أن لقيَ منهم أسوأ استقبال وأسوأ رد.. أراد الله تعالى أن يُطيّب خاطره ويجبر كسره. فأخذه في رحلة إلى الملكوت الأعلى بصحبة جبريل، حيث اجتاز السماوات السبع ولقي بعدها ربه.

إنّه لقولٌ طيب، يترك في نفس المسلم أثرًا رائعًا، ويتضمن في ذات الوقت حقيقةً واقعة.. ولكنها غير ما أراده المفسرون بقولهم. فإنَّ الرحلة الجسدية تُرضي الإنسان العادي، الذي يجد متعةً في تغيير المكان، ومشاهدة أماكن جديدة، ورؤية المناظر الطبيعية التي تُريح بصره، وترفه عن ملله وتعبه، كما يذهب أحدنا إلى المصيف أو المشتى، ولو كان المصطفى من هذا الصنف من الناس، وحاشا أن يكون منهم، فما أحسبه رأى في هذه الرحلة، لو كانت رحلةً جسدية، أي نوعٍ من الترفيه. فقد شاهد مناظر تقشعرُّ لها الأبدان، من عُصاة أمته الذين تُقرض ألسنتهم بالمقاريض، ورأى من يأكلون اللحم النيء الخبيث، ومن يأكلون الضريع والزقّوم.. إلخ.. فأيُّ ترفيهٍ في هذا؟

وإذا كانت الرحلة للتكريم، فمن رأى؟ جبريل؟ إنّه يلقاه كل يوم. الأنبياء السابقين؟ .. إنّهم هم الذي يُكرَمون برؤيته؟ ربُّ العزّة تبارك وتعالى؟ ثم هل هناك مكان أو موقع للقاء الله ورؤيته، أيها الناس؟ إننا لا يليق بنا أن نقول إنَّ محمدًا يلقى الله تعالى.. بل إنّه معه في كل حين.. متى غاب عنه حتى يراه؟ فأين التكريم وهو ينهل منه في لحظات حياته المباركة بلا حساب!!

يقولون كانت الرحلة لترضيته.. وهل لا بد من مغادرة الأرض لبضع ساعات أو لحظات ليترضى الله تعالى محمدًا ؟ هل تذكرون دعاءه: ((إذا لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي)).. إنّ محمدًا لا يأبه لكل مصاعب الدنيا وإهانات الغوغاء وجهل الجاهلين ما علم أنَّ الله تعالى راضٍ عنه. ولقد علم ذلك في التوّ واللحظة.. ألا تذكرون مَلَك الجبال عندما جاءه يبلغه تحية الله جلّ وعلا، ويسأله إن كان يرغب في عقاب قرى الشرك؟ هل تذكرون جوابه.. ورحمته.. ورجاءه في أن يؤمن قومه؟ هل تنبّهتم إلى معدن هذه النفس الطاهرة؟ هل تُرضيها رحلة ليلية يرى أثناءها بعض المشاهد الرمزية؟

الحقيقة أنَّ الرحلة السماوية كانت فعلاً للتكريم والترفيه والترضية.. لا لمحمد وحده وإنّما لأمته معه ومن بعده. لقد كانت آيةً سماوية له يشهد صدقها بنفسه ويشهد صدقها صحابته وأتباعه عبر الدهور. كانت معجزةً رائعة، لا لأنها حركة بدنية لجسد واحدٍ من البشر، بل لأنها جاءت حقًا وصدقًا وواقعًا ملموسًا في مجملها وتفصيلها. وسيتضح لنا ذلك عندما نتناول أحداث المعراج.

نعود إلى موضوع الكشوف والرؤى.. التي هي وحي الله تعالى في هيئة صور ومرايا.. وهي على ثلاثة أنواع:

الأول: ترى الاشياء والأمور مثلما تكون في العالم المادي دون تبديل.

الثاني: تكون بعض المشاهد بحاجة إلى تأويل وتعبير.

الثالث: تكون كل المشاهد تحتاج إلى التأويل والتعبير.

وسنرى من تدبُّر ما ورد في أحاديث العروج والإسراء أنَّ الحادثتين كانتا من قبيل الكشف لأن الكثير من تفاصيلهما تستلزم التأويل حتمًا..

رُويَ عن أنس بن مالك أنّه قال: كان أبو ذر يُحدِّث رسول الله قال: ((فُرِجَ بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرجَ صدري، ثم غسله من ماء زمزم. ثم جاء بطبق من ذهب ممتلئ حكمةً وإيمانًا. فأفرغها في صدري، ثم أطبقه. ثم أخذ بيدي، فعَرَج بي إلى السماء.

ورُويَ عن أنس أنَّ رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشقَّ عن قلبه، فاستخرج منه علقةً فقال: هذا حظُّ الشيطان منك. ثم غسله في طبق من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ ثم أعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعني ظِئره، فقالوا: إنَّ محمدًا قد قُتِل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرسي أثر المخيط في صدره. (مسلم).

لندع جانبًا الخلاف الثانوي بين الروايتين، ولنتدبّر النقطة الجوهريّة، أعني واقعة شقّ الصدر والطست، وهنا يعنُّ لنا أن نتساءل: ما هي تلكم العلقة، وما علاقتها بحظّ الشيطان؟ إنَّ الشيطان كما نعلم ونفهم من القرآن يأمر بالفحشاء ويسعى لتضليل الناس ويزيد لهم العداوة والبغضاء وما إلى ذلك من الشرور.. وكل هذه الأمور ليست بالأشياء المادية التي تشغل جانبًا من قلب الإنسان العضوي، وليست مما يُزال بالغسيل من ماء زمزم.

وهكذا نقول عن الحكمة والإيمان الذين كانا في طبق من ذهب وأُفرغا من قلبه عليه السلام.. ولا مناص من الإقرار بأنَّ هذه الواقعة كانت كشفًا يرمز إلى معنى سامٍ،  إذ يصوِّر لنا مدى ما توفّر للرسول من حفَاظةٍ مُحكمةٍ من أية مؤثراتٍ سيئة بفضل ما أُوتيَ من حكمةٍ سماوية وإيمانٍ ثابتٍ قويم.

وما يستدعي الانتباه أنَّ الروايتين لشخصٍ واحد، هو أنس بن مالك وأنّه شقّ قلب الرسول ، طِبقَ إحدى الروايتين وهو صغير يلعب، وفي الرواية الأخرى وهو ببيته بمكة.. مما جعل بعض العلماء مثل الحافظ الذهبي يرى أنَّ هذا الأمر حدث مرتين.

وقد رُويَ عن أنس بن مالك أيضًا أنَّ رسول الله قال:

((أُتِيتُ فَانْطَلَقُوا بِي إِلَى زَمْزَمَ. فَشُرِحَ عَنْ صَدْرِي. ثُمَّ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُنْزِلْتُ”. (صحيح مسلم)..

وهنا لا ذكر للطست الذهبي.

كذلك تعرَّضت الروايات العديدة لكيفية الانتقال، فقيل: إنَّ جبريل أتى بالبُراق إلى الرسول ، وهي دابةٌ بيضاء طويلة فوق الحمار ودون البغل، حافرها عند منتهى طرفها. (البخاري ومسلم).. وفي رواياتٍ أخرى اكتفى بأنه دابةٌ بيضاء. ورُويَ عن رسول الله أنَّ جبريل أخذ بيده. فعرج به إلى السماء الدنيا. (البخاري ومسلم). وهنا يبدو أنّه مضى دون حاجةٍ إلى دابةٍ يركبها.

وكذلك اختلفت الروايات في وصف جبريل.. فعن الزبير عن جُبير أنَّ الرسول قال إنّه رأى جبريل يشبه ((دحية)) أو ابن رمح دحية بن خليفة. (مسلم). وروى أن زرّ بن حُبيش سُئِلَ عن قول الله تعالى: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ، فذكر أنَّ ابن مسعود قال: إنَّ النبي رأى جبريل له ستمائة جناح. وفي روايةٍ أخرى: رآه في صورته له ستمائة جناح. (البخاري ومسلم)..ورُويَ عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئِلت عن قوله تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ… ، فقالت: إنّما ذلك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجال، وأنّه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فَسَدَّ أُفُقَ السماء. (مسلم)

وجديرٌ بنا ألا نفهم من اختلاف الروايات أنّها باطلة يمكن طرحها جانبًا أو إنكار كل ما جاء فيها عن المعراج أو الإسراء.. فهذا تسرُّعٌ في الحكم دون تبصُّر.. ومن الممكن التوفيق بين بعض هذه الاختلافات، مع العلم أن مؤلّفيها جماعةٌ من المشهود لهم بالعلم والخلق، والمعروفين بالحرص الشديد على الاستقصاء والتوفيق. وغاية ما يمكن قوله عن تلكم الأحاديث التي وردت في المراجع الرئيسية بصفة عامة أنّ الذاكرة قد تخون راويًا من سلسلة الرواة فينسى جزء من تفاصيلها، أو يُقدّم أو يؤخّر ترتيب بعض جزئياتها، فيحدث في الرواية نوع من القلب. أو قد يُخطئ الناسخ في النقل، وهذا أمر نجده في الكتب المطبوعة في عصرنا هذا، على الرغم من توافر أسباب الضبط والتصحيح والمراجعة. ولا ننسى أن الروايات كانت تُروى وكانوا يتناقلونها في أغلب الحالات بالمعنى لا بالنص.

ولنُلقِ نظرةً أخرى على ما رُويَ عن المطيّة التي ركبها الرسول في سفره الروحاني.. فبالإضافة إلى ما رويناه عن البخاري ومسلم والحافظ الذهبي فقد ورد في تفسير الدُرّ المنثور:

((أُتيتُ ليلةَ أُسريَ بي بِدابّةٍ فوقَ الحمار ودونَ البغل، خَطْوُها عند منتهى طَرْفِها، كانت تُسخَّرُ للأنبياءِ قبلي)).

 وأخرج البيهقي عن أبي سعيد الخُدري أنَّ أصحاب الرسول قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن ليلة أُسريَ بك.. وقال فيه..

((فإذا أنا بدابّةٍ يُقال له البراق.. وكانت الأنبياء تركبه قبلي يضع حافره مدَّ بصره. فركبته)).

وروى البيهقي أيضًا في حديثٍ طويل قال فيه: ((ثم أُتيتُ بالمعراج الذي تعرج عليه الأرواح. فلم ترَ الخلائق أحسنَ من المعراج)). (تاريخ ابن عساكر)..

فَحَمْلُ واقعة ركوب البُراق على المعنى الظاهر يعني أيضًا أنَّ الأنبياء عُرجَ بهم بالجسد العنصري، وكانت الدابّة تحمل المؤمنين الصالحين بأرواحهم!! وهذا نوعٌ من الخلط يبعث على التساؤل ويُثير الاعتراضات.

وأخرج ابن حنبل وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وأيضًا المختار بسندٍ صحيح عن ابن عباس قال:

((ليلة أُسريَ برسول الله دخل الجنة، فسمع في جانبها حسًّا. فقال لجبريل: ما هذا؟ فقال: هذا بلال المؤذِّن. فقال النبي حين جاء إلى الناس: ((قد أفلحَ بلال، رأيتُ كذا وكذا..)) (الدرّ المنثور).

  وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما حديثًا مشابهًا يتضمَّن وجود بلال في الجنة وإن لم يرد فيه ذكر المعراج.. فعن أبي هريرة أنَّ النبي قال لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال، حدِّثني بأرجَى عملٍ عملته في الإسلام.. فإنّي سمعتُ دفَّ نعليك بين يدي في الجنّة. قال: ما عملتُ عملاً أرجَى عندي أنّي لم أتطهَّر طهورًا في ساعة ليلٍ أو نهار إلا ما صليتُ ما كُتِبَ لي أن أُصلّي)).

(دفّ نعليك) رواية البخاري، (وخشف نعليك) رواية مسلم.. والمعنى تحرّك مشيك وصوته.

فلو سلّمنا جدلاً بأنَّ المعراج كان بالجسد العنصري فكيف ذهب بلال المؤذّن إلى الجنة مع أنه كان نائمًا في مكة؟ وهل هو أيضًا عُرِجَ به إلى السماء ليلة معراج الرسول ؟ الواقع أن تصوّر المعراج أو الإسراء بكيفيّة مادية يتعارض تمامًا وما تضمَّنته الروايات العديدة من وقائع وصفات تنطق من نفسها بأنَّ الحادثتين كانتا كشفًا روحانيًّا.

وقد أورد ابن كثير في تفسيره نقلاً عن ابن جرير مايلي: ((لما جاء جبريل إلى رسول الله بالبُراق، فكأنّها حرَّكت ذنبها. فقال لها جبريل: مَهْ يا بُراق، فوالله ما ركِبكِ مثله. وسار رسول الله ، فإذا هو بعجوزٍ على جانب الطريق، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: سِرْ يا محمد. فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا بشيء يدعوه متنحّيًا عن الطريق. فقال: هلمَّ يا محمد، فقال له جبريل: لا تلتفت إليه. فسار ما شاء الله أن يسير. قال: فلقيه خلقٌ من خلق الله. فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر. السلام عليك يا حاشر. فقال له جبريل: أُردِد السلام يا محمد. فردَّ السلام.. حتى انتهى إلى بيت المقدس. فعُرِضَ عليه الخمر والماء واللبن، فتناول رسول الله اللبن. فقال له جبريل: أصبتَ الفطرة، ولو شربتَ الماء لغرقتَ وغرِقت أمتك، ولو شرِبتَ الخمرَ لغويتَ وغويتْ أمتك.

تأويل الأحداث

ثم قال جبريل: أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق فلم يبقَ من الدنيا إلا كما بقيَ من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه فذلك عدو الله إبليس أراد أن تميل. وأما الذين سلَّموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام)).

وفي روايةٍ أخرى قيل: إنَّ ما قُدِّم للرسول كان خمرًا ولبنًا وعسلاً. وقيل كذلك: إنّهما اللبن والعسل. وفي رواياتٍ أخرى: خُيِّرَ بين اللبن والخمر. وبعض هذه الروايات قُدِّم فيها ذكر الخمر على العسل. (راجع البخاري: وابن حنبل، وابن كثير، ودلائل النبوة للبيهقي).

ولكن الثابت في هذه الروايات المختلفة أنَّ النبي اختار اللبن. ويبدو أنَّ الحديث الأول الذي ذكر الأشربة الثلاثة، وبترتيبها الوارد فيه الماء فالخمر فاللبن، هو الأولى بالاعتبار، ذلك لأنَّ الرواية هذه تتضمَّن ثلاثة أشربة تقابل ثلاثة أمور رآها الرسول في طريقه إلى بيت المقدِس: فالمرأة العجوز أوَّلها جبريل بالدنيا وقرب نهايتها. وكذلك الماء يُعبِّر عن الدنيا إذ أنَّ حياة كل شيء حي فيها يتوقف على الماء، وتؤدي ندرته إلى القحط والهلاك. كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: 21).

وذلك الذي نادى الرسولَ عبَّر عنه جبريل بأنه إبليس وكذلك عبَّر جبريل عن امتناع الرسول عن شرب الخمر بأنَّه نجّى نفسه وأمته من الغواية.. فإبليس والخمر مشتركان في الغواية، وقد قال تعالى: .. إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة: 91). أما اللبن فهو شرابٌ فطريٌ طاهر وغذاءٌ رئيسي للإنسان يشربه الطفل مدفوعًا إليه بفطرته النقيّة التي برأه الله تعالى عليها. ولون البياض مثلٌ للصلاح والفلاح.. وقد عبَّر جبريل عن شربه بأنه إصابةٌ للفطرة.. ويناسب ذلك لقاء الرسول للأنبياء وسلامهم عليه وردُّه عليهم.. وفي ذلك إشارة إلى أنَّ أمته ستُصان من الهلاك، ولا ينقطع عنها غذاء العلوم الإلهية الروحانية الطاهرة.

وللردّ على من يعترض بأنَّ جبريل بدأ تعبيره بالحديث عن اللبن وقد ذُكر آخرًا.. نقول بأن تأويل اللبن يعني خبرًا سارًا، فبدأ به ليُبشِّر الرسول ويطمئن على أمته قبل أن يذكر له تأويل الخمر والماء.

تأويل جبريل للأحداث يؤكد كون الرحلة كشفًا

ومن الشواهد الدالة على أنَّ رحلة الإسراء لم تكن بالجسد العنصري تلك المشاهد التي احتاجت إلى التعبير.. والتي قَبِلَ بها الرسول دون اعتراض.. فلم يقل لجبريل مثلاً: كيف تفسّر لي العجوز بأنها الدنيا مع أنّي أراها بعيني رأسي امرأةً عجوزًا. لقد اقتنع بتفسير جبريل، لأنه يعلم بأنَّ ما يراه ليس من قبيل الرؤية الحسيّة بالعينين، وإنّما أمرٌ روحي من عالم الكشف. ولو قلنا بغير ذلك لكان التعبير، لا سمح الله، لغوًا لا معنى له. فلم نسمع ولا نقرأ في كتاب الله مثلاً أنَّ الدنيا امرأةٌ عجوز. وليس من المعقول أنَّ من يشرب الماء يغرق أو يُقضى عليه بالغرق. لقد كان رسول الله بعد ذلك يشرب الماء ولم يحرّمه على مُتّبعيه، ولم يغرق النبي ولم يغرق أتباعه. وهل اللبن هو الفطرة والهداية؟ إنَّ الكفار يشربون اللبن ربما أكثر من المؤمنين، ومع ذلك فلم يهتدوا.

لا أعتقد أنَّ أحدًا يختلف معنا في أنَّ هذه المشاهد كلها كانت من قبيل الكشف الروحي ولم تكن واقعًا ماديًّا.. ومن ثم فكيف تكون الرحلة بالجسد المادي وكل ما يجري فيها من عالم الرؤى والكشف؟ وما معنى أن يتحرّك الجسد أو ينتقل من موضعه إذا كان في عالم الرمز، ولن يكون للجسد المادي دورٌ ما فيما يجري من أحداث؟

ونكرّر ما سبق من أنَّ الكشوف تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ ترى فيه الأشياء والأمور كما هي عليه في العالم المادي دون تبديل (تجلية بيت المقدس للرسول وهو جالسٌ عند الكعبة وهو يروي رؤيا الإسراء للكفّار)، وقسمٌ يحتاج جميع ما فيه من وقائع إلى التأويل والتعبير (رحلة المعراج إلى السماوات العلا)، وقسمٌ يجمع بين سابقين.. أي أنَّ بعض أحداثه تحتاج إلى تعبير والبعض الآخر يمثل الأمور كما هي في عالم المادة.. وواقعة الإسراء من هذا القسم الأخير.

ولإيضاح ذلك نضرب مثلاً بما رواه ابن الأثير في تاريخه: ((أنه بعد الإسراء قعد رسول الله في المسجد الحرام وهو مغموم خشية ألا يُصدّقه الناس. فمرَّ به أبو جهل، فقال له كالمستهزئ: هل استفدت الليلة شيئًا؟ فقال : نعم، أُسرِيَ بي الليلة إلى بيت المقدس. فقال: أبو جهل: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! فقال: نعم. فقال أبو جهل: يا معشر كعب بن لؤي، هلمُّوا، فأقبلوا. فحدَّثهم النبي . فمِن بين مُصدِّقٍ ومكذِّب ومُصفِّقٍ وواضعٍ يده على رأسه. وارتدَّ الناس ممن كان آمن به وصدَّقه.. وقالوا: فانعتْ لنا المسجد الأقصى. قال : فذهبتُ أنعت حتى التبسَ عليَّ.. فَجِيءَ بالمسجد وإنّي أنظرُ إليه، فجعلتُ أنعته. قالوا: فأَخبِرْنا عن عِيرنا. قال: مررتُ على عِير بني فلان وقد أضلُّوا بعيرًا لهم وهم في طلبه، فأخذت قدحًا فيه ماء فشربته. فَسَلْهم عن ذلك.

ومررت بعير بني فلان وفلان، فرأيت راكبًا قعودًا بذي مرّ فنفر بِكرهما مني. فسقط فلانٌ فانكسرت يده. فسلوهما.

ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جملٌ أورق عليها غرارتان مخيطتان، تطلع عليكم من طلوع الشمس.

فخرجوا إلى الثنية. فجلسوا ينتظرون طلوع الشمس ليُكذَّبوه، إذ قال قائلٌ: هذه الشمس قد طلعت. فقال الآخر: والله، هذه العِير قد طلعت يقدمها بعيرٌ أورق كما قال. فلم يُفلحوا، وقالوا: إنَّ هذا سحرٌ مُبين)). (الخصائص، وسيرة اين هشام، ومسند ابن حنبل).

فهذه الرواية تُبيّن لنا أنَّ ذلك الجزء من أحداث الإسراء من النوع الجلي الذي لا يحتاج إلى تأويل. ومعنى ذلك أنَّ الإسراء كان كشفًا. ولو كان بالجسد وبرؤية العين البصيرة ما اختلط الأمر على الرسول وما اشتبه عندما أخذ يصفه للكفار ولم يمضِ على عودته من هناك سوى مدة وجيزة.

ورويَ عن أنس بن مالك عنه أنَّ رسول الله قال:

((رُفِعتُ إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة، نبتُها مثل قِلال هجر، ورقُها مثل آذان الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان. فقلت: يا جبريل ما هذان؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات)). (ابن حنبل).

 هذا الحديث يدلُّ كغيره على أنَّ المعراج النبوي لم يكن رحلة جسدية، والسبب واضح كل الوضوح.. فهل غيَّر الله تعالى الموقع الجغرافي لأنهار المنطقة، وجعل النيل والفرات ينبعان أو يصبان في أصل شجرة النبق، ولا تدري بذلك الشعوب العديدة التي تسكن حولهما؟ أرأيتم أنَّ فهم الحادثة على أنّها من أعمال الجسد العنصري يجعل منها مجموعة من التُّرّهات، والعياذ بالله. ولو سلّمنا بأنَّ هذه الأحداث إنّما هي أمورٌ رمزية مجازية فما معنى أن يكون الجسد قد انتقل إلى هذا المكان الرمزي، إذا جاز التعبير، وما معقولية هذا الفعل، وما مغزاه؟

الرحلة تتضمَّن إشارةً

الواقع أنَّ هذا الكشف الروحاني العظيم يتضمن الإشارة الإعجازية إلى ما سيقابل الإسلام من الانتشار خارج الجزيرة العربية، وسيبدأ ذلك في المنطقة بين نهري الفرات والنيل، وإنَّ ازدهار الأمة الإسلامية ورفعة شأنها سيكون على يد هذه الشعوب، وأنَّ الخير الخلقي والروحاني سوف يعمُّ أهل المنطقة وهو نابع من ظلال الدوحة الروحانية العظيمة التي ارتقى إليها نبي هذه الأمة العظيم .. ويربطهم بالفَلاح الأخروي والازدهار الدنيوي.

إنَّ إدراك أحداث المعراج إدراكًا صحيحًا يمكننا من تصوّر عظمة المعراج وحكمته ومغزاه ومراميه القريبة والبعيدة. وكل ذلك يفوت من يظنون أنَّ المعراج أو الإسراء كان رحلة بالجسد المادي، فضلاً عما يُثيره ذلك من اعتراضات يتعذّر الإجابة عليها.. فمثلاً يُقال لأصحاب نظرية الرحلة الجسدية المادية: هل كان الرسول بحاجة إلى رؤية النيل والفرات ليتحقق من آيات ربه الكبرى؟ أليس الأجدر بذلك جماعة من الكفار.. إذ أنَّ إيمان الرسول ما كان يشوبه أي نقص أو ضعف. وما قيمة أن يرى المصطفى سدرة المنتهى على صورةٍ تُخالف شجرة النبق المألوف من حيث ضخامة الثمار وكبر الأوراق؟ إنَّ الإجابة على كثير من التساؤلات من هذا القبيل لا تتأتى إلا إذا لجأنا إلى التأويل وسلّمنا بأنَّ (سدرة المنتهى) ليست نباتًا دنيويًا ماديًا وإنّما هي رمز إلى أمور أخرى روحانية.

معنى السدرة

ولفظة سدرة مشتقة من (سدر)، يقال سدر الشعر أي سدله، وسدر الثوب أي أرسله طولاً، وسدر الرجل أي تحيّر. والسدر شجر النبق، والسدر البحر. والمقصود من تجلّي ربّ العزّة تبارك وتعالى للمصطفى عند سدرة المنتهى أنَّ النبي قريبٌ إلى الله تعالى قربًا يعجز الإنسان عن تصوّره، أو يعني أنَّ الوحي الإلهي للرسول بحرٌ لا ساحل له يذخر بالمعارف والحقائق الإلهية، أو ّأنَ َّالمعارف والعلوم الإلهية التي كُشفت للرسول كالدوحة العظيمة التي يستظلُّ الإنسان بظلها، فتحميه من شدة الحرّ، وينشد سالك الطريق الروحانية في جانبها الراحة ويطرح عن أطراف جسمه التعب والعناء.

كما أنَّ من خصائص أوراق السدرة أنَّها تُستعمل في تحنيط جثث الموتى للمحافظة عليها من الفساد، فالمعنى أنَّ التعاليم التي جاء بها المصطفى من وحي الله تعالى لا يتطرق إليها الضياع أو النسيان أو التلاعب في نصوصها، لأنّها في حفاظة الله تعالى مصونةً من التحريف.. ومن ثم فهي بدورها تحفظ المتمسك بها من الفساد الخلقي والانحطاط الروحاني، وهي صالحة لذلك على مرّ العصور.

كما أنَّ سدرة المنتهى تتضمَّن إشارة غيبيّة إلى صلح الحُديبية الذي انتهى به الصراع الشديد بين المصطفى والمؤمنين وبين قريش من جانب آخر.

إنَّ (سدرة المنتهى) التي ترمز إلى ما تفضّل به الله تعالى على المصطفى وأمته من تعاليم وإرشادات حكيمة وشريعة إنّما هي الطريق إلى الجنة.. جنة الدنيا من فلاحٍ وازدهار وسعادةٍ وارتقاء، وجنة الآخرة التي يعجز اللسان والبيان والتصوّر عن وصف ما أعده الله تعالى فيها من أسباب النعيم والسعادة. وكلما ازداد المؤمنون استمساكًا وعملاً بشريعة الله تعالى كلما ازدادت حياتهم جمالاً وكمالاً ووجدوا من الله تعالى تغيّرات وترقيّات تجلُّ عن الوصف.

وتقرّر الآيتان

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ،

أنَّ الكشف كان جليًّا، لم تكلّ بصيرة المصطفى ولم تُخطئ ولم تنحرف عن رؤيته.. لقد كان كشفًا يتضمَّن آيات ربّانية عظيمة.. بل هي العظمى بين الآيات.. لأنّها تكشف له وللناس جميعًا.. عن حقيقة محمد ورسالته، ومنزلته عند الله تعالى، ومكان شريعته وكتابه بين الشرائع والكتب، ومستقبل دعوته ومصير أمته. آيات سيشهدها الناس، ويراها الأعداء قبل الأتباع. سيرى الجميع صدق رؤياه.. كماله الخلقي.. كمال تشريعاته.. كمال أتباعه.. فوزه وانتصاراته.. ازدهار أمته.. الأخطاء والمعاصي التي تقع من بعض المنتسبين إلى أمته.. العلاج الربّاني لكل الشرور بإقامة الصلاة وإن قلَّ عدد مراتها فإنَّها مباركة الأثر في ترقية أمة المصطفى وصيانتهم من الزلل، إن واظبوا عليها وجعلوا منها صلة مستمرة مع ربّ العزة تبارك وتعالى..

نعم هذه الآيات الكبرى والدلائل العظمى على أنَّ محمدًا له حديث وشأن مع الله تعالى لم يُضاهه فيه إنسٌ ولا جان.

تأويل أحداث أخرى

وهكذا الحال بالنسبة للأحاديث العديدة الخاصة بوصف الإسراء والمعراج، علينا أن نفهم حقيقتها ومعانيها على ما يوافق تعبير الرؤيا.. فمثلاً تعني رؤية بيت المقدس حصول الرائي على العزّ والفلاح، وتعني الدابة (أي البُراق) أن الراكب ينال مرتبةً عالية بعد سفره، ويعني الصعود إلى السماء الأولى أنَّ حياة الرائي لا تمتدُّ إلى الشيخوخة وأرذل العمر، وبلوغ السماء الثانية يرمز إلى أنَّ الرائي يكون عالمًا حكيمًا، وتعني السماء الثالثة العزّة والإقبال في الحياة الدنيا، وتعني السماء الرابعة قرب السلطان والحصول على السلطة، وتعني السماء الخامسة الفزع والاضطراب والمخالفة والحرب، وتعني السماء السادسة حصول الرائي على الجاه العريض والسعادة الدائمة، ويرمز بلوغ السماء السابعة أنَّ الرائي يبلغ درجة عالية من القدر والمنزلة الرفيعة بحيث لا يُدانيه أحد. وعلى العموم فإنَّ فتح أبواب السماء يدل على قبول الدعاء والبركة والخير. وقد تحققت فعلاً كل هذه الأمور والأنباء للرسول .

أما المشاهد الأخرى فهي لا تحتاج إلى تأويل إذ أنها تصوّر بعض الخطايا التي سوف يقع فيها الضعفاء من أمة محمد أو التي يقع فيها معارضوه فعلاً أو التي ستقع من أعداء أمته في المستقبل. وقد عُرضت المشاهد بطريقة رائعة تُبيّن مدى ما تمثله هذه الخطايا من قبح في سلوك الإنسان ومدى ما ينتظر مرتكبيها من عقوبةٍ دنيوية إذ ينفر منهم ذوو الطبائع السليمة، ومدى ما يستحقونه من عقاب أُخروي بسبب استبدالهم الذي هو أدني بالذي هو خير.

أدلة أخرى على كون الإسراء رؤيا

وفيما يتعلق بالإسراء فقد سمّاه القرآن المجيد في نفس السورة ((رؤيا)) حيث قال:

وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ .

وإذا ادَّعى المفسرين أن رؤيا تعني أيضًا رؤية العين فإنَّ القرآن المجيد استعملها بمعنى الكشف في مواضع عدة: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ ، هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ (سورة يوسف). يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا (سورة الصافات). وجاء في معجم لسان العرب وأقرب الموارد: الرؤيا ما رأيته في منامك. وفي مجمع البحار: الرؤيا ما يُرى في المنام.

وقد ذهب بعض الصحابة رضي الله عنهم وعلماء الحديث إلى أنَّ الإسراء كان كشفًا ورؤيا فقط لا رؤية عين. وقد روى ابن اسحاق وابن جرير عن معاوية إذ سُئِل عن مسرى رسول الله قال: ((كانت رؤيا من الله صادقة)). (الدرّ المنثور). وروى ابن اسحاق قال: حدَّثني بعض آل أبي بكر أنَّ عائشة رضي الله عنها كانت تقول: ((ما فُقِدَ جسدُ رسول الله ولكن الله أسرى بروحه)). (التفسير الكبير للرازي).

أما كون هذه الرؤيا فتنة فقال ابن اسحاق قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتدَّ عن إسلامه لذلك أي الإسراء:

وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ . (سيرة ابن هشام ج1).

  ويقول البعض: لو كان الإسراء روحيًا لما اعترض عليه كفار قريش الذين حكى لهم الرسول . ولكن فات هؤلاء الظروف التي حكى فيها المصطفى وطبيعة الكشف. أنَّ ما رآه المصطفى ، كان كما ذكرنا من قبل، ليس من قبيل الرؤيا المنامية التي يراها النائم.. وما كان له ليحكي لهم ما يراه في منامه، بل ما رآه النبي كان كشفًا، رآه وهو كامل الحواس.. لأنه وحيٌ إلهي.. فهو أشدُّ في حقيقته مما يقع لغيره من الناس.. كل ما في الأمر.. أنه لا تصحبه حركة مادية، وأنّه مشاهدة رمزية تستلزم التعبير والتأويل.

ثم إنَّ أم هانئ رضي الله عنها وهي المرأة المؤمنة الحصينة فهمت ما قاله الرسول ولم تجد فيه ما يدهشها، ولكنها تعرف عقليّة كفار مكة وتلمُّسهم الأسباب للتهكُّم والسخرية، ولذلك لما عزم على الخروج أمسكت بردائه وقالت له تحذّره من أن يحكي لهم رؤياه، لأنَهم لن يُدركوا مغزى ما رأى وسيتخذونه مادةً للاستهزاء: يا نبي الله لا تحدِّث الناس، أي الكفار المعارضين، بهذا الحديث فيكذّبوك ويؤذوك، قال: والله لأُحدِّثنَّهم.

وبينما المصطفى عند الكعبة يمرُّ به عدو الله أبو جهل فيسأله في سخرية: هل من نبأٍ جديد؟.. والآن لنتساءل فيما بيننا.. ما هي الأنباء التي كان يرويها الرسول للناس ويتوقع سماعه أبو جهل؟.. كانت أنباء الأمم السابقة وما حلَّ بهم من عقاب إذا خالفوا أنبياءهم، وأنباء مستقبل الإسلام الباهر وما يحيق بأعدائه من عقاب. وها هو الرسول يروي لهذا الساخر المستهزئ ما أراه له الله تعالى.. بلهجة الواثق مما رأى.. المطمئن لوعد الله تعالى.. يروي بأسلوب من يحكي الأمر الواقع. وحتى الله تعالى؟ فقال : نعم، أُسريَ بي الليلة..

ولم يدعه عدو الله يُكمل حديثه، بل أسرع يدعو الناس ليكونوا شهودًا معه يشتركون وإيّاه في السخرية والتكذيب من أصدق البشر .

ماذا نتوقع من رسول الله ؟ هل يُبادر ليقول إنَّ ما رآه كان حلمًا من أحلام المراهقين المتعبين؟ كلا، لم يكن حلمًا، ولو قال ذلك، وحاشا له أن يتهرَّب من الحق، لزادت سخريتهم وتمادوا في تهكُّمهم.

إنّه يحكي ما رآه حقيقةً وصدقًا.. وهم لا يُدركون تجربة الرؤيا التي يُريها الله تعالى لعباده.. ويكشف لهم فيها من عجائب آياته الكثيرة.. فلا بدَّ وأن يروي لهم الكشف الذي رآه.. وليكذِّبه من يُكذّب.. فهذا دأبهم يُكذِّبون منذ أن قال لهم أنّه رسولٌ أمين من ربّ العالمين.. وليرتدَّ ذوو الإيمان الضعيف الذين جمعوا بين الوهن وسوء الإدراك. أما المؤمنون.. من أمثال الصدِّيق ومن على شاكلته وما أقلَّهم.. فقد أدركوا وصدَّقوا واطمأنوا إلى ما تحمله رؤيا رسولهم من خيرٍ عظيم.. تحقق بعد شهورٍ قليلة.. وما انفكَّ يتحقق حتى يومنا هذا.

نعم يا رسول الله.. ما كان لك أن تخفف من دهشة أبي جهل وأمثاله فتجعل من الكشف الصادق والرؤيا الحقّة حُلمًا يراه النائمون منهم.. ولكنك رويت ما رأيت.. وكان حقًا أنّك رأيت.. وكان حقًا تأويل ما رأيت.. ولقد أسرعت السماء لتُكمل لك صدق رؤياك.. وتكرّر لك مشهدًا لم يتركّز عليه انتباهك.. وأنت منهمكٌ في صلاتك ولقاء إخوانك.. فمن ينظر إلى الجدران ويذكرها وأمامه هذه المتعة الروحية العظمى.. نعم أسرعت السماء لتكشف لك ما سبق أن كشفته لك منذ ساعات قلائل.. ولينتبه أولئك الذين يظنُّون أنَّ الرسول قد ذهب بجسمه ورأى بعينه بيت المقدس.. ثم تختلط عليه الصور المادية بعد فترةٍ وجيزة لأمرٌ بعيد الاحتمال.

هذا، وإنَّ طلب المعارضين من المصطفى أن يصف لهم بيت المقدس لأمرٌ يدلُّ على الغباء.. لأنَّ الرحلة تمَّت في الليل.. ولا يتوقع من زائر الليل لفترةٍ قصيرة أن يُلاحظ مثل هذه الأمور.. فكان وصفه لها دليلاً آخر على أنَّ ما رآه كان في حالة الكشف الصادق.. سواء فيما رآه النبي ليلاً، أو ما رآه أثناء حكايته لأحداث الرحلة.

كما أنَّ وصف رسول الله لما شاهده من القافلة والعير ليس من الأمور التي يراها الإنسان ليلاً وهو يمضي بسرعة البرق.. ولكن هذه التفاصيل الدقيقة تدلُّ على أنّه رآها فعلاً في عالم الكشف.. وأنَّ ما سمعه أصحاب البعير الضال أو أصحاب الماء المشروب هو أيضًا على سبيل الكشف.

وجديرٌ بالملاحظة أنَّ جبريل لم يمنع الرسول من شرب مائهم مع أنه أخبره أنه لو شرب الماء لغرق وغرقت أمته.. كما أنَّ المصطفى ما كان ليشرب من ماء أو يكشف إناء دون أن يستأذن أصحابه.. وهذا مما يُضعف هذا الجزء من الكشف النبوي العظيم.

معنى رؤية المسجد الأقصى والصلاة بالأنبياء

ولقد جاء قدر من كشف الإسراء من القسم الذي ترى فيه الأمور كما هي، في دنيا الواقع.. وهو ما رواه المصطفى من مروره بعِير بأحد الوديان ودلَّهم على بعيرٍ ضلَّ لهم. ومثل هذا القدر لا يحتاج إلى تأويل.. وقد جعله الله تعالى برهانًا فوريًا على صدق رؤيا المصطفى . أما المقصد الرئيسي من هذا الكشف والغرض منه فأمرٌ عظيم.. فقد أراد الله تعالى أن يُخبر الرسول ويُريه المخرج القريب من تكذيب قريش ومعارضتها وتعذيبها لأتباعه من المؤمنين.. وذلك بهجرته إلى المدينة المنوّرة، وما يتعلق بهذا الانتقال من ظفرٍ وانتصار للإسلام.

والمراد من رؤية المقدس هو المسجد النبوي الشريف الذي بناه في المدينة المنوّرة.. التي بارك الله تعالى فيها وما حولها، وأعطاها من المجد والسلطان والعلوّ في الدنيا والآخرة أكثر من بيت المقدس، ولقد رفع مسجده فيها على كل مساجد الأرض غير المسجد الحرام.

أما لقاؤه الأنبياء وصلاتهم جميعًا خلفه فتعبيره أنَّ شريعته ودينه ينسخان كل ما سبق من شرائع الأنبياء، وأنه سيكون رسولا وهاديًا ومبشرًا ونذيرًا لكل أمم الدنيا. وفيه إشارة إلى أنَّ دعوته تنتشر في أطراف الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وأنَّ هجرته إلى مهجره ستكون سببًا ومفتاحًا لذلك. وفيها النبأ بأنّه سيملك بيت المقدس وسيكون سيد ملوكها وعلمائها وأهلها أجمعين.

ولو اطلعنا على ما كتبه صاحب تعطير الأنام لوجدنا أن تأويل كشف الإسراء يتفق وما ذكرناه: ((تدلُّ رؤية كل مسجد على جهته والتوجه إليها كالمسجد الأقصى والمسجد الحرام ومسجد دمشق ومسجد مصر وما شاكل ذلك. وربما دلت على علماء جهاتهم أو ملوكهم أو نواب ملوكهم)). ومن المناسب أن نطبّق هذه التعبير واقعة الهجرة ونتائجها على الآيات والواقعات.

التأويل في ضوء الأحداث التاريخية

لقد بدأ الله تعالى قوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ ، وقوله (سبحان) يُبيّن أنَّ الإسراء ليس إلا رؤيا تتضمن نبأ عن أمرٍ يكون في المستقبل ويُظهر سبُّوحيّة الله . وطبعًا لا تثبت سبُّوحيّة الله تعالى بمجرد إسراء الرسول إلى بيت المقدس، ولكنها تتجلّى في الهجرة بصورة أعلى وأجلى.. إذ يتم هذا النبأ بواقعة الهجرة وكونها مدعاةً لإتمام الأنباء القرآنية الأخرى من جهادٍ وقتال وفوزٍ ونجاح للإسلام ودخول الناس في دين الله، وقيام حكومة ودولة إسلامية وتأسيس مدينة دينية واكتساحٍ للشرك من جزيرة العرب.. فحصول كل هذه الأمور يدلُّ على كون الله تعالى (سبّوحًا)، وليس ثمة عاقل يُداخله شك في أنَّ أساس الفتوحات الإسلامية كلها هي الهجرة النبوية الكريمة.

إننا لو أمعنا النظر فيما جرى ليلة الهجرة لتبيّن لنا أنَّ الله حقًا هو سبّوح منزّه عن كل نقصٍ وعيب، ينصر عباده المخلصين رغم ما دبّره المشركون لقتله من حصار لبيته. فقد نبّه الله تعالى رسوله إلى الخطر المحدق به، وسهَّل له الطريق دون معرفة أعدائه، وأعمى عيونهم عنه، بل وحمى عليًّا إذ عرَّض نفسه لخطر القتل ونام في فراش النبي من أجل محبته له. ولقد غشَى الله أبصارهم عندما وصلوا الغار. فلم يتمكنوا من رؤية الرسول وصاحبه مع أنهما كانا على قيد شبرٍ منهم. أليست هذه من آيات الله الكبرى؟ أليس الله الذي أجرى ذلك كله سبوحًا؟ أليس لسان حالنا دائمًا يقول: سبحان الله ربِّ العالمين!

أما قوله (ليلاً) فمن المعروف أنَّ المصطفى سرى ليلاً من مكة إلى المدينة. ولقد كان جبريل مع النبي في الإسراء وكذلك كان أبو بكر مع المصطفى في هجرته. وهذه إشارة إلى رفعة شأن أبي بكر عند الله تعالى إذ أقامه مقام جبريل .. كصاحبٍ ومُعين للرسول .

وما يجب ذكره أنَّ موسى في رؤياه تلقّى وحيًا يشبه ما قاله الله تعالى عن إسراء الرسول فقد قيل:

بُورِكَ مَن فِى ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ .

وقيل في الإسراء:

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ .

فكما بارك الله لموسى في الأرض التي ستكون فيها شريعته، بارك الله لمحمد في الأرض التي ستكون فيها شريعته.. وكلا الأمرين مِصداق لسبُّوحيّة الله تعالى.. فبيت المقدس كان مركزًا وسببًا لتأسيس حكومة قوم موسى وقيام شريعة موسوية كذلك كانت المدينة المنوّرة والمسجد النبوي مركز الحكومة المحمّدية ومهبط الشريعة الإسلامية التي أقامت دولة بني إسماعيل في العالم. ولذلك شبّه الله تعالى المدينة المنوّرة بالمسجد الأقصى من حيث القدسيّة والبركة.

وما يلفت الأنظار إلى سبُّوحية الله تعالى أنّه بدأ السورة بقوله (أَسْرَى) كقوله إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا .. وهذا هو الأسلوب القرآني في ذكر الأنباء الغيبيّة والتي ستتحقق لا محالة، لذلك تأتي بصيغة الماضي دلالةً على ذلك.

كيف بارك الله في المدينة المنوّرة

ولقد تم النبأ الإلهي (باركنا حوله) في حقّ المسجد النبوي والمدينة المنوّرة إذ أنّ الله تعالى باركها، فقد بارك تعالى المدينة المنوّرة وما حولها، وجعلها حرمًا بفضل دعاء نبيّها إذ قال:

(إنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ). (مسلم).

ثم قال:

“اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا وفي مُدِّنَا”. (البخاري).

وقال:

“اللَّهُمَّ اجْعَلْ بالمَدِينَةِ ضِعْفَيْ ما جَعَلْتَ بمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ”. (البخاري).

وقال عن مسجده: لَا تُشَدُّ اَلرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى. (البخاري). وقال أيضًا: أنا آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد (أي أفضلها). (البخاري).

وهكذا بارك الله تعالى في المسجد النبوي ومدينته كما بارك بيت المقدس في زمن بني إسرائيل، بل إنّه بارك المدينة أكثر بكثير. ولما كانت المدينة المنوّرة عاصمةً للإمبراطورية الإسلامية كان الإسلام دائمًا آخذًا في الرقي والانتشار.. ولكن لــمّا غيّر المسلمون عاصمة الإسلام.. توقف رُقيّ الإسلام وبدأ في الضعف والاختلال، وظهرت الخلافات الذاتيّة والحروب الداخلية، ولم تنته حتى يومنا هذا.

ومن مظاهر البركة التي نزلت بالمدينة بهجرة المصطفى إليها ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كان وباء الحُمَّى بالمدينة قبل قدوم النبي . فلما قَدِمَ إليها زال وباء الحُمَّى بدعائه. فسمَّاها المدينة. (وجاء في كتب اللغة أنَّ المدينة كانت تسمَّى يثرب، ومعناه البكاء والصراخ، لكثرة بكاء أهلها على موتاهم من الحمَّى).

وأما قوله: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا فكما سبق أن أشرنا بأنَّ كثرة الآيات والمعجزات الباهرات والغزوات القاهرات للشرك وأهله التي وقعت بعد الهجرة.. وظهور الإسلام على أعدائه وإعلاء كلمته في جزيرة العرب كل هذا وغيرها أكبر آية من آيات ربه دونهما الآيات الأخرى. ولقد كشف الله تعالى كل هذه الآيات باختصار وجمال على طريق المثال في كشف الإسراء.. ولكنه ذكر أنَّ وقوعها في عالم الحقيقة والواقع سوف يتم في المستقبل بالتفصيل والوضوح الذي رآه في الكشف، وسيكون ذلك بطريقة تدفع الدنيا إلى الإقرار بأنَّ الله تعالى (سُبُّوح).. وتحقق قوله لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ولن يعمى عن هذه الآيات إلى المعاند أو المتعصب.

والقسم الأخير من آية الإسراء:

… لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

يؤيد رأينا لأنَّ مشاهدة بيت المقدس وحده في اليقظة أو في المنام أو في الكشف لا يدلُّ على كونه تعالى سميعًا بصيرًا. وهذا يوجب الاعتراض على أنَّ القرآن يأتي بألفاظ في غير محلها.. ولكن هجرة الرسول لهي الدليل الأكبر على أنّه هو السميع البصير. لقد سمع دعاء النبي وتضرّعاته هو وأصحابه لخلاصهم من كيد الكفار وظلمهم ولإعلاء كلمة الله وانتشار الإسلام.. ففتح لذلك باب الهجرة وجعلها أساسًا وأكبر ذريعة لنشر رسالة التوحيد والحضارة الإسلامية. وسمع أيضًا دعاء أبيه إبراهيم من قبل إذ قال:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

إنّ الهجرة هي التي يسَّرت للرسول أن يتلو على أتباعه آيات الله تعالى، ويزكّي المؤمنين، ويُعلّمهم الكتاب والحكمة بحرية تامة. وهو جلَّ وعلا بصيرٌ لأنّه حمى الإسلام والنبي والمسلمين في المدينة وفي كل المواقع، وحفظهم من مكائد الكفار في كل موطن. وهو حافظ وما زال حافظًا للإسلام والقرآن، وكان هذا هو الدليل على أنّه بصير، يُحيط بصره بكل شيء.. فليعلم الذين لا يؤمنون بالحق حتى وبعد ظهور الآيات الكبرى، وليعلم المنافقون والضعفاء في الإيمان بأنه سوف يُجازيهم حسب آثامهم ويُحاسبهم حسابًا شديدًا.

(إلى المسجد الأقصى)

ولأنَّ المسجد الأقصى يُشير أيضًا إلى بيت المقدس نفسها، وتأويل ذهاب المصطفى إلى هناك يحمل نبأً غيبيًّا بأنّه سيملك تلك البلاد، وتكون من مراكز الإسلام الهامة. ولقد تحقّق هذا النبأ بعد سنوات معدودة.. وعلى يد أمير المؤمنين سيدنا عمر دخل الإسلام بيت المقدس، ومكثت في أيديهم ثلاثة عشر قرنًا.. ورغم أنها ذهبت اليوم إلى أيدي النصارى واليهود.. إلا أنَّ ذلك قد تم حسب نبأ المصطفى .. ولسوف تعود هذه البلاد المقدَّسة إلى أيدي المسلمين عاجلاً أو آجلاً حسب نبوءته إن شاء الله.

وإذا أخذنا بتعبير رؤية المسجد أنّه رؤية علماء البلاد التي بها المسجد فقد تحقّق ذلك أيضًا لأنَّ بيت المقدس كانت مركزًا عظيمًا للعلماء المسلمين.. خرج منه الكثيرون من مشاهير الإسلام ومحدِّثيه.

سرٌّ لطيفٌ آخر

هذا، وإنَّ إسراء الرسول إلى المسجد الأقصى يُشير أيضًا إلى أنه عندما تضعف شوكة الإسلام، وتغطي الأرض ظلمة الهجران لكتاب الله ودينه وشرعه.. وعندما يُلقي المسلمون بأنفسهم تحت سيطرة الغرب الصليبي، تسري بركات المصطفى إلى رجلٍ من أمته.. هناك في أقصى بلاد الإسلام ليكون مسجده مركزًا لبركات العلم المحمَّدي، منارةً لإشعاع الإسلام الصحيح، فيُنير العالم بفيوض الإسلام والقرآن، ليفيق المسلمون من غفلتهم ويرجعوا إلى الدين الصحيح، ويحوزوا نفس البركات والأنوار والمجد والحياة التي أُعطيت لأتباع أنبياء بني إسرائيل، والتي أُعطيت للمهاجرين والأنصار. وهناك يتحقق قول الله تعالى:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

وتبدو عزّة الله تعالى وحكمته في إحياء الإسلام وتجديده ببركة محمد في بعثته الثانية وعلى يد سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود .

Share via
تابعونا على الفايس بوك