حقيقة قول لوط عليه السلام
  • كيف يتصور من نبي الله أن يعرض على قومه ارتكاب فاحشة ليست بأقل بشاعة من الفاحشة الأولى؟!
  • عقاب قوم لوط كان من جنس عملهم

__

قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (72)

التفسـير:

يعتبر البعض هذه الآية دليلاً على صدق الزعم المذكور أعلاه، ولكن استدلالهم هذا أفحش من زعمهم أيضًا؛ حيث يزعمون، من جهة، أن أهل القرية لما كانوا مغرمين بفعل الفاحشة مع الذكور سارعوا إلى لوط طامعين في ضيوفه الرجال، ويقولون من جهة أخرى إن سيدنا لوطًا عرض عليهم بنتين له ليُشبعوا منهما رغبتهم الجنسية بدلاً من التعرض لضيوفه! لو كان القوم تواقين إلى الإناث فكانت في بيوتهم نساؤهم، وأما إذا كانوا قد جاءوا إلى لوط طمعًا في ضيوفه الذكور فقط فلا معنى لقوله لهم: هؤلاء بناتي، فافعلوا بهن ما شئتم! هل يُمكن أن تخرج مثل هذه الكلمة من فم إنسان سليم العقل يا تُرى؟ كلا، من المستحيل أن يُنسَب هذا المعنى – حتى من قِبل الكافر – إلى إنسان معقول، بَلْهَ أن ينسبه أحد إلى نبي من أنبياء الله تعالى.

ثم كيف يُتوقع من نبي الله لوط أن يطلب من القوم ارتكاب فاحشة ليست بأقل شناعةً وبشاعةً من الأولى؟ هل من عاقل يصدّق بأنه في الوقت الذي كان العذاب على وشك أن يحل بالقوم بسبب ارتكابهم الفواحش.. يشير عليهم نبي الله لوط بارتكاب فاحشة أخرى، من دون أن يتذكر أنه لم يجلب عليهم العذابَ من قبل إلا وقوعُهم في مثل هذه المعاصي؟

إن ما يعنيه سيدنا لوط بقوله هذا هو أنكم إذا كنتم تخافون أنني أتيتُ بالأجانب للتآمر مع أعدائكم فلا داعي لمثل هذا الخوف، لأن بناتي المتزوجات بينكم يشكّلن ضمانًا يجب أن يُطَمْئِنكم، إذ تستطيعون بكل سهولة أن تعاقبوهن انتقامًا مني لو هربتُ من عندكم بعد الغدر وإلحاق الضرر بكم. كيف تتصورون أنه يمكنني أن أقوم بأي نشاط من شأنه أن يُلحق بكم ضررًا؟ فإذا كنتم مصممين على فعل شيء في كل حال فاعملوا باقتراحي فهو أفضل من خطتكم، وهي أن تضعوا بناتي هؤلاء تحت الرقابة، فإذا رأيتم مني ضررًا بكم وغدرًا، عاقبتموهن انتقامًا مني، وهكذا ستنحل المشكلة تلقائيًّا من دون أن ترتكبوا إثم إهانة الضيوف بطردهم من قريتكم (راجِعْ للمزيد تفسير الآية رقم 79 من سورة هود).

ولو قيل: كيف يمكن لنبي من أنبياء الله تعالى أن يعرّض بناتِه للأذى والتعذيب على يد القوم؟ فالجواب أن سيدنا لوطًا إنما قصد بقولـه هذا تهدئة ثورة القوم فحسب، إذ ما كان له أن يغدر بهم حتى تتعرض بناته لاضطهادهم.

ويرى بعض المفسرين أن لوطًا يعني بقوله بناتي نساءَ قومه، لأنه كان نبيًّا وكبير السن فاعتبر نساءَ قومه بناتٍ له، والمراد: اذهبوا إلى زوجاتكم وأَشبِعوا منهن رغباتكم إن كنتم فاعلين. (تفسير الرازي) وبالرغم من أن هذا المعنى أفضل من الزعم المذكور أعلاه، إلا أن فيه أيضًا إيماءة إلى أن القوم كانوا يريدون الفاحشة مع الضيوف، وقد برهنتُ آنفًا أن هذه الفكرة لا يدعمها القرآن الكريم ولا العقل السليم. فبالرغم من كون هذا المعنى أفضلَ نسبيًّا إلا أنه لا يبين تمامًا ما أراده القرآن الكريم.

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (73)

شرح الكلمات:

لَعَمْرُك: العَمْرُ: الحياةُ؛ وقيل: العَمر دون البقاء لأنه اسمٌ لمدة عمارة البدن بالحياة، والبقاءُ ضد الفناء ولهذا يوصف البارئ بالبقاء وقلَّما يوصف بالعمر. والعَمْرُ أيضًا الدِّينُ، ومنه “لَعَمْري” في القَسَم .. أي لَدِيني (الأقرب). فقوله تعالى لَعَمْرُك يعني أُقسِم بحياتك أو بدينك.

التفسـير:

قال البعض إن الحلف بحياة أحد سوى الله غير جائز، فكيف حلف الله هنا بحياة نبيه؟ (القرطبي). والجواب: لاشك أنه لا يجوز للبشر أن يحلفوا بشيء سوى الله تعالى، ولكن الحالف هنا هو الله ، ولا بأس في أن يحلف الله بحياة أحد من مخلوقاته، فإنه تعالى قد حلف في القرآن بالليل والنهار والصبح والضحى والرياح أيضًا. والحق أنه شتّان بين حلف العباد وبين حلف الله تعالى، لأن البشر إنما يقصدون بالحلف تعظيمَ الشيء الذي يحلفون به، وأما الله تعالى فإن حلفه بشيء يعني أنه يقدّمه شهادةً على صدق ما يعلن، لأن مثل هذا الحلف نوع من أنواع الشهادة التي لا يمكن أن يقدّمها إلا الله، فإنه وحده يملك القدرة والحكم على كل شيء في الكون، ولكن أنَّى للإنسان المسكين أن يملك هذا التصرف والحكم. وإذًا فلا بأس مطلقًا في حلف الله بشيء من مخلوقاته.

وهناك مسألة أخرى يجب حلّها: مَن الذي حلف الله بحياته هنا؟ أهو لوط أم نبينا محمد ؟ قال بعض المفسرين إن المراد هو سيدنا لوط، وقد حلفت الملائكةُ بحياته (الكشاف). وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه نبينا حيث قال: ما سمعتُ اللهَ أقسمَ بحياة أحد غير نبيه (ابن كثير).

وعندي أن كلمات القرآن الكريم تؤيد رأي ابن عباس رضي الله عنهما، لأننا لدى قبول الرأي الأول نضطر لتقدير محذوف هو “قالوا”، والمعروف أننا نلجأ إلى تقدير المحذوف حين يدل عليه السياق وحين يستحيل تفسير الكلام بمعنى آخر؛ ولكن الأمر هنا ليس كذلك، إذ الخطاب هنا موجّه إلى النبي بشكل قاطع بحيث لا يمكن الاعتراض عليه، لا لفظًا ولا معنًى. وقد حلف الله هنا بحياة نبيه الكريم .. أو بتعبير آخر قدّم أحداث حياته المباركة.. شهادةً على صدق ما حدث مع لوط .

الحق أن الله قد أشار في قول لوط هؤلاء بَناتي إِنْ كنتم فاعلين إلى مشابهة كانت بين لوط ونبينا محمد عليهما السلام. ذلك أنه كما كانت بناتُ لوط متزوجاتٍ بين قومه.. كذلك كانت ثلاث من بنات النبي متزوجات من الكفار، وكنّ هدفًا لاضطهادهم نتيجة دعواه (السيرة النبوية لابن هشام: سعي قريش في تطليق بنات الرسول من أزواجهن). وبما أن قصة لوط كانت تمثّل صدمةً لقلب النبي بطبيعة الحال حيث كانت مثارًا لشجونه الشخصية أيضًا.. فأراد الله تعالى أن يخفف من وطأة الصدمة عنه شفقةً عليه وتعبيرًا عن عظيم حبه لـه، فوجَّه الخطاب إلى النبي قائلا: لَعَمْرُك إنهم لَفِي سَكْرتهم يَعمَهون .. وكأنه تعالى يقول: يا أحبَّ الخلقِ إلي، لا تحزنْ فإننا على علم بمصابك الجَلَل. ذلك أن أعداء لوط – رغم وقوعهم في المساوئ لهذه الدرجة – لم يؤذوه من خلال بناته حيث يخبرنا القرآن الكريم أنه عندما قدّم بناتِه ضمانًا أو كرهائن عندهم ينتقمون منهن إذا رأوا منه غدرًا أجابوه: لقد علِمتَ ما لنا في بناتك مِن حق (هود: 80).. أي أنك تعلم أنه لا يحق لنا أن ننتقم من بناتك. أنت الذي تعرّضنا للخطر، فكيف يمكن أن نعاقبهن عوضًا عنك؟ هذا محال. وأما أعداء النبي فقد بلغ بهم السوء درجة أنهم آذوه وانتقموا منه من خلال بناته المتزوجات بينهم، حيث ورد في كتب السيرة: كان عتبة وعُتيبة ابنا أبي لهب تزوجا رقيةَ وأمَّ كلثوم ابنتي رسولِ الله ، فلما أعلن دعواه قال أبو لهب لابنيه: حرام إن لم تطلّقا ابنتي محمد (السيرة لابن هشام، وأُسد الغابة: تحت كلمة أم كلثوم، والإصابة في تمييز الصحابة). وأما زينب بنت رسول الله فكانت متزوجة من أبي العاص، وكان سبب موتها أنها خرجت من مكة إلى المدينة لتلحق برسول الله ، وكانت حاملاً، فلم يزل الظالمون يضربون مطيتها وينفرونها حتى سقطت من ظهرها، فأجهضت، فلم يزل بها مرضها هذا حتى توفيت بسببه (الاستيعاب في معرفة الأصحاب: كتاب النساء، باب الزاي).

إن ما يعنيه سيدنا لوط بقوله هذا هو أنكم إذا كنتم تخافون أنني أتيتُ بالأجانب للتآمر مع أعدائكم فلا داعي لمثل هذا الخوف، لأن بناتي المتزوجات بينكم يشكّلن ضمانًا يجب أن يُطَمْئِنكم، إذ تستطيعون بكل سهولة أن تعاقبوهن انتقامًا مني لو هربتُ من عندكم بعد الغدر وإلحاق الضرر بكم.

فالله تعالى يواسي هنا حبيبه قائلاً: إن قومك أسوأ من قوم لوط، حيث لم يتحلوا بالمروءة مثل قومه، بل قد آذوك في بناتك وسوف يؤذونك بسببهن في المستقبل أيضًا – مع العلم أن هذه السورة مكية وحادث السيدة زينب – رضي الله عنها – وقع بعد الهجرة – ونحلف بحياتك أنهم في غوايتهم يعمهون، ونقدم حياتك شهادة على غوايتهم هذه.. بمعنى أنك لم تؤذهم أبدًا حتى يثوروا عليك، بل لم تُرد لهم إلا الخير والنصح دائمًا، مما يشكل برهانًا ساطعًا على أن العداوة قد أعمتهم، وأنهم محرومون كلية من خشية الله وتقواه. فما دمنا قد عاقبنا قوم لوط على جريمتهم، أفلا نعاقب هؤلاء الأشقياء وجرائمُهم أبشع وأفظع؟

وعلاقة هذه الآية بموضوع السورة تتمثل في أن الله قد قال لرسوله هنا: لقد بلغ اللؤم بالكفار درجة أنهم يلجأون إلى هذه المكائد السخيفة للتشكيك فيما نـزل عليك من الوحي، وكأن اضطهادهم لبناتك دليل – في زعمهم – على كذبك؛ ولكن الأمور تُعرف بخواتيمها، ولسوف نستأصل شأفتهم في يوم من الأيام حمايةً لوحينا وحفاظًا على شرفه، وسوف ننتقم منهم توطيدًا لكرامتك. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وبارِكْ وسلِّمْ إنك حميد مجيد. فدتك نفسي وروحي يا محمد. قد أُذويتَ كثيرًا في سبيل إعلاء كلمة الله. رفع الله شأنك، وأحيا ذكرك إلى أبد الآباد!

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (74)

شرح الكلمات:

الصيحة: العذابُ؛ الغارةُ إذا فوجئ الحي بها (الأقرب).

مُشرِقِين: أشرقت الشمسُ: طلَعتْ؛ أضاءتْ؛ وقيل: شرَقت الشمسُ: طلَعتْ، وأشرقت: أضاءتْ وصَفَا شعاعُها. وأشرقت الأرضُ: أنارتْ بإشراق الشمس. وأشرق الرجلُ: دخَل في شروق الشمس (الأقرب).

التفسـير:

لقد قيل من قبل: مصبِحين ، وأما الآن فقيل: مشرقين ؛ مما يوهم، لأول وهلة، أن هناك تعارضًا في الكلام، ولكن ليس ثمة تعارض، لأن الصبح يكون من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، كما يُطلَق الصبح على أول النهار أيضًا؛ وبما أن العذاب حل بالقوم وقتَ الإشراق (انظر تكوين 19: 15 -23)، فلا بأس من استخدام كلتا الكلمتين: مصبحين ومشرقين.

فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيل (75)

شرح الكلمات:

أَمطَرْنا: أَمطرت السماءُ: مطَرتْ. وقيل: مطَرَ في الخير والرحمة، وأمْطَرَ في الشر والعذاب (الأقرب).

سِجِّيل: سجَل به سَجْلاً: رمى به مِن فَوق. وسجَل الماءَ: صبَّه. والسِّجِّيل: حجارة كالمَدَر؛ قيل معرَّب (الأقرب). ولكن كما بينتُ من قبل- في تفسير سورة الرعد الآية 19 كلمة “جهنم”، وتفسير سورة إبراهيم الآية 36 كلمة “صنم”- أنه من الخطأ القول عن الكلمات التي تُستخدم مادتها أو مشتقاتها في اللغة العربية أنها معرَّبة.

التفسـير:

كما أن قوم لوط قلبوا الموازين حيث رضوا بالرذائل مُعرِضين عن الأخلاق السامية.. كذلك قلب الله مدينتهم رأسًا على عقب، وجعل عاليَها سافِلَها، وكأنه قال: حسنًا، فلتكونوا من الأسفلين المنحطين للأبد.

وقال البعض: كيف نـزلت الحجارة مطرًا عليهم؟ والجواب أن الزلزال العنيف في بعض الأحيان يجعل قطعًا من الأرض تتطاير في الهواء، وهذا ما حدث معهم، حيث تطايرت الأحجار بزلزال عنيف مدمر، ثم عادت وسقطت عليهم كالمطر. وقد يكون المعنى أن جدران بيوتهم سقطت عليهم كمطر من الأحجار. ويبدو أن القوم كانوا يبنون بيوتهم من الحجر والطين، لأن السِّجّيل يعني حَجرًا مخلوطًا به الطين.

أي أنك تعلم أنه لا يحق لنا أن ننتقم من بناتك. أنت الذي تعرّضنا للخطر، فكيف يمكن أن نعاقبهم عوضًا عنك؟

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (76)

شرح الكلمات:

المتوسِّمين: تَوسَّمَ الشيءَ: تخيَّلَه وتفرَّسَه؛ طَلَبَ وَسْمَه أي علامتَه؛ تَعرَّفَه، يقال: توسّمتُ فيه الخيرَ أي تبيّنتُ فيه أثرَه (الأقرب).

التفسـير:

يقول الله تعالى إن في هذا الحادث لآياتٍ لأصحاب العقل والفراسة، حيث يمكن لهم أن يدركوا أن هناك تشابهًا بين حادث لوط وما يحدث بمحمد ، وأن الله تعالى سوف يدمر أعداء نبيه كما دمر قوم لوط.

لا شك أنه لم يقع هناك أي زلزال لجعلِ أعداء سيدنا محمد عبرة وآية، بيد أنهم أُمطِروا الحجارة يوم بدر، حيث هبّت ريح عاصف، وتطايرت الرمال والحصى، ووقعت في أعين الكفار، فلم يستطيعوا إصابة الهدف بدقة أثناء القتال. (شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية: باب غزوة بدر العظمى، ودلائل النبوة للبيهقي: باب التقى الجمعانِ)

كما أن الله تعالى جعل عالِيَ مكة سافِلَها بشكل معنوي أيضًا، حيث جعَل عِلْيَةَ أهلِها أدانيَها، وأصاغرَها أكابرَها، وذلك حين أهلَكَ زعماءَهم كأبي جهل وعتبةَ وشيبةَ مع عائلاتهم، بينما آتى الحكمَ والمُلك المستضعَفين كأبي بكر وعمر وغيرهما. ولقد وقع في عهد خلافة سيدنا عمر حادث عجيب يرسم لنا مشهدَ جعلِ الأصاغر أكابرَ والعكس كذلك. ذات مرة كان عمر في مكة في موسم الحج، فجاء عليةُ قريش لزيارته، وكان عنده بعض الصحابة الذين كانوا عبيدًا في الماضي، فقرّبهم عمر في المجلس وأخّر أكابرَ مكة هؤلاء. ولما خرجوا من عنده قال بعضهم لبعض: لم نر مثلَ اليوم قط، فإن عمر قد أهاننا. فقال أحدهم لزملائه: الذنب ذنبنا، ففي الوقت الذي كان آباؤنا لا يألون جهدًا في معارضة النبي كان هؤلاء القوم يبذلون لـه كل غال ورخيص. أفليسوا أولى وأحقَّ منا بالتكريم اليوم؟ (سيرة عمر لابن الجوزي: الباب الثامن والثلاثون، في ذكر عدله في رعيته)

Share via
تابعونا على الفايس بوك