لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألبب
  • عندما ييأس الرسل من إيمان الكفار بالله تعالى يأتي نصر الله ويكون حليفهم.
  • عندم يتأخر عذاب الله للكفار يظنون بأن الرسل كاذبون.
  • العاملون بالقرآن تتنزل عليهم الانوار الإلهية في كل مجال من حياتهم بحيث يدرك الرائي أنهم يعيشون في كنف الله تعالى ويحظون بقربه.
  • القرآن النازل على محمد r  يسد كل مايحتاجه الإنسان في مجال الدين وفي كل المجالات التي يحتاج اليها الإنسان فهو كامل.

__

حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ    (يوسف: 111)

شرح الكلمات:

كُذِبوا: كذَبهُ الحديثَ: إذا نقل الكذب وقال خلاف الواقع. كُذِب الرجل: أُخبِر بالكذب. كذَبته نفسه: إذا منَّتْه الأماني وخيَّلتْ إليه من الآمال ما لا يكاد يكون. كَذَبَتكَ عينُكَ: أَرَتْكَ ما لا حقيقة له (الأقرب). قال الأنباريُّ: الكذب ينقسم إلى خمسة أقسام… والثاني: أن يقول قولاً يُشبه الكذب ولا يقصد به إلا الحقَّ… والرابع: كذَبَ الرجلُ: بطَلَ عليه أملُه وما رجاه (التاج)

بأسًا: البأس: العذابُ؛ الشدةُ في الحربِ؛ القوةُ ومنه وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد أي قوة؛ الخوفُ (الأقرب)

التفسـير:

هذه الآية تعتبر من أشد الآيات القرآنية صعوبةً من حيث المعنى، لأن ظاهرها يعني أن الرسل ظنوا أن ما وُعدوا به من غلبة وانتصار كان كذبًا وخداعًا، وهذا باطلٌ ومناف  لمقام الرسالة، لأن الله قد أعلن في هذه السورة نفسها: إنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون ، فلا يمكن إذًا القولُ بأن أنبياء الله يئسوا -والعياذ بالله- من رحمة الله، أو أنهم ظنوا بأن الله وَعَدَهم وعودًا كاذبة، لأن الأنبياء -وهم يُبعثون معلمين وأسوة- لو أساءوا الظن بالله تعالى فكيف يتيسر للآخرين اليقين الذي يحمي من كل شك ووسوسة.

والحق أن المفسرين قد واجهوا المشكلة في فهم هذه الآية لقلة تدبرهم فيها، وإلا فإنها لا تقصد ما ذهب إليه البعض وإنما معناها كما يلي:

  1. الواقع أن هذه الآية تتحدث -مثل التي قبلها- عن الفريقين: الأنبياء ومعارضيهم، وقوله تعالى حتى استيأس الرسل متعلق بالأنبياء، وقوله وظنوا أنهم قد كُذبوا متعلق بالكفار، والمعنى أن الكفار عندما ازدادوا شراً وفساداً قال الأنبياء في أنفسهم: إنه لن يؤمن من القوم إلا من قد آمن، ويئسوا من إِيمان الباقين، وليس أنهم يئسوا من فضل الله ونصرته. وأما الكفار الخائفون من هلاكهم وفق أنباء الرسل عندما رأوا تأخُّر العذاب اطمأنوا ظانين أنه لن يصيبهم الآن أي عذاب، وأن الرسل كاذبون فيما حذّروهم منه. فَبَيناهُم في هذه الظنون إذ جاء نصر الله الذي مهّد لانتصار الرسل ولهلاك الأعداء. وهذه حقيقة ثابتة ما زالت تظهر في زمن كل نبي. فكلما تأخر تحقق النبأ عن العذاب الحاسم واطمأن الكافرون فيما يبدو جاء نصر الله تعالى بغتةً لينتصر الأنبياء على الأعداء.
  2. أو أن نعتبر الضمير في كُذبوا راجعاً إلى الأنبياء، والفاعل هو نفوسهم، وذلك كقولهم: كذبته نفسه: إذا منته الأماني وخيّلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون. والمعنى أن الأنبياء لما رأوا الكفار على الشر وتأخر نصر الله تعالى، ظنوا أن نفوسهم ربما أمّلتهم فيما ليس مقصوداً من الوحي الإلهي، وأن وعد النصر الإلهي لن يتحقق من خلال هلاك الأعداء وإنما بطريق آخر.

وهذا المعنى أيضًا لا يتنافى مع مقام الأنبياء -عليهم السلام- إذ من الممكن أن يقع النبي في خطأ اجتهادي في فهـم المراد الحقـيقي مـن وحـي الله تعـالى.

  1. أو نرجع الضمير في كُذبوا إلى الرسل والفاعل هو الكفار، والمراد أنه لما استمر الكفار سادرين في غيهم وشرورهم لزمن طويل يئس الأنبياء من إيمان بقية الكفار ظانين أنهم كانوا يأملون في إيمانهم عبثًا، فها قد خيّبوا أملهم بالإصرار على الفساد. وبناء على هذا المعنى يكون قوله تعالى وظنوا أنهم قد كُذبوا شرحًا لقوله حتى إذا استيأس الرسل . وهذا أيضًا يحدث مع الأنبياء في كثير من الأحيان حيث يبدي الكفار بعد سماع أنباء العذاب ردودَ فعل توهم وكأنهم سيؤمنون عن قريب، ولكنهم لا يلبثون أن يعودوا إلى سيرتهم الأولى ويُعرضوا عن الحق عقابًا من الله على سوء أعمالهم، أو عنادًا منهم وغطرسةً.
  2. أو أن يكون الله هو الفاعل في كُذبوا ، ويكون الرسل هم نائب الفاعل، وأن نأخذ الكذب بمعنى الصدق الذي يبدو وكأنه كذب، وهذا المعنى للكذب ثابت من اللغة كما ذكرنا آنفًا في شرح الكلمات، والمراد من الآية أن الرسل لما يئسوا من إيمان الكفار ظنوا أن النبأ الإلهي عن إيمانهم كان بحاجة إلى تأويل، ولكن ظننّا أنه يعني إيمانهم، وكان هذا كان خطأً اجتهاديًا منا، إذ لا نرى أي آثار لتحققه حرفيًا، يبدو أن الله يقصد به غير ما فهمنا منه. وبينما هم في هذه الأفكار والظنون إذ فاجأهم نصر الله، وانقلب الوضع تمامًا وكانوا هم الغالبين.

فلا يمكن إذًا القولُ بأن أنبياء الله يئسوا -والعياذ بالله- من رحمة الله، أو أنهم ظنوا بأن الله وَعَدَهم وعودًا كاذبة، لأن الأنبياء -وهم يُبعثون معلمين وأسوة- لو أساءوا الظن بالله تعالى فكيف يتيسر للآخرين اليقين الذي يحمي من كل شك ووسوسة.

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (يوسف: 112)

 شرح الكلمات:

قَصَصِهم: قصَّ عليه الخبر والرؤيا قَصَصاً: حدّث بهما على وجههما، ومنه نحن نقص عليك أحسن القصص . (الأقرب).

الألباب: اللب: خالصُ كل شيء؛ العقلُ؛ أو الخالصُ من الشوائب؛ أو ما زكى من العقل، فكلُّ لب عقلٌ ولا عكس؛ القلبُ (الأقرب).

فالمراد من أولي الألباب : العقلاء الذين لا تشوب طبائعهم شوائب العناد والتعصب، وإنما يدركون الحقيقـة على الفـور.

التفسـير:

يقول الله تعالى: لو أن هؤلاء تدبروا قليلاً في كلام أنبياء الله الأولين، لأدركوا أن ما يقوله محمد سيتحقق لا محالة، لأنه بُعث وفقَ الأنباء الواردة في كتب الأولين، وأنهم لو كذّبوه فقد كذّبوا الأسفار السماوية السابقة. فمثلاً هناك أنباء في التوراة وغيرها عن بعث النبي ، ولو لم يصدقوه للَزم عليهم تكذيب التوراة، إذ لا نجد أحد انطبقت عليه تلك الأنباء.

أما لو قال أحد: إن الذي هو مصداق لتلك الأنباء لم يظهر بعد، بل إنه سوف يُبعث لاحقاً، فالجواب: ما دامت العلامات المذكورة في تلك الأنباء قد تحققت مرة في النبي ، فليس هناك أي أمل في تحققها في شخص آخر مرة أخرى. ولو سلّمنا جدلاً بظهور أحد  في المستقبل طِبقًا لهذه الأنباء لصارت باطلة وموضع شبهة وشك، إذ لا قيمة لعلامات وأنباء تنطبق على الكاذب أيضًا. ثم كيف نجزم بصدق هذا الذي يأتي فيما بعد وإن انطبقت هذه الأنباء عليه فربما يكون كاذبًا كالكاذب الأول.

والدليل الثاني الذي ساقه القرآن هنا على صدقه هو قوله وتفصيل كل شيء .. أي أن الكتاب النازل على محمد يسد كل ما يحتاجه الإنسان في مجال الدين،  وما دام القرآن محتوياً على كل ما لا بُدّ منه للإنسان فما الداعي لنـزول أي كتاب آخر!

إن هذا الدليل يدحض أيضًا ادعاء الذين زعموا بالإتيان بشرع جديد بعد القرآن كمثل “البهاء” الذي ادعى بأنه جاء بشرع جديد (الأقدس، ص233). فيمكن أن نوجه إليه السؤال: ما هي الضرورة الدينية التي لم يلبِّها القرآن حتى مسّت الحاجة إلى شرعك الجديد؟ فالحق أن هذا البرهان قوي جدّاً بحيث لا يستطيع مواجهته أحد من أتباع “البهاء” أو غيرهم، لأن القرآن قد بلغ من الكمال والشمولية بحيث لا يمكن أن يباريه أي كتاب قديم أو جديد، لا في عـدد المسائل المذكورة فيـه ولا في تَنَوُّعها، ناهيـك من أن يبـلغ شأوه فيـما جـاء به من معارف سـامية للغـاية.

ثم وصف القرآن بكونه هدًى .. أي أن ما جاء به النبي لا يكتفي بتفصيل الأمور الدينية، بل أيضاً يوصل الإنسان إلى ربه ويأخذه مُرورًا بالمرحلة الأولى العقلية- إلى مقام العيان والمشاهدة  أي الخبرة الذاتية مع الله تعالى.

وآخر ما ذُكر من مزايا هذا الكتاب هو أن العامِلين به لا يدّعون بلسانهم فقط بأنهم من أهل الله تعالى، بل بالفعل يصبح لهم هذا الكتاب رحمةً. حيث يؤدي العمل به إلى نزول الأنوار الإلهية عليهم، فينـزل لهم التأييد الإلهي في كل مجال من حياتهم بحيث يدرك الرائي أنهم يعيشون في كنف الله تعالى وأنهم يحظَون بقربه حقًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك