وقع الأفعال الطيبة

وقع الأفعال الطيبة

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • ما حقيقة أوامر القرآن السبعمائة؟!
  • تنفيذ كافة أوامر القرآن يصنع منا أناسا نورانيين
  • تفسير النقطة السوداء التي يتركها العمل السيئ على القلب

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

أتحدث منذ الجمعتين الماضيتين حول موضوع الإصلاح في الأعمال. في الخطبة الماضية ذكرتُ بعض الجوانب – بصورة الأسئلة – مما علّمناه المسيح الموعود ، وقلتُ بأن المسيح الموعود ذكر هذه الأمور في تعليمه الذي أعطاناه، فهل نطرح تلك الأسئلة على أنفسنا أم لا؟ وليكن معلوما أن إصلاحنا العملي لا ينتهي على هذه النقطة بل للتعليم الإسلامي عدة جوانب وعدة أوامر وجّهها إلينا القرآن الكريم ووضّحها لنا المسيح الموعود في تعليمه. فيقول:”أقول لكم صدقا وحقا أن الذي يُعرِضُ عن أصغر أمر من أوامر القرآن الكريم السبع مئة فهو يوصد باب النجاة على نفسه بيده”.

وقد وجّه المسيح الموعود أنظارنا إلى هذا الأمر مرارا وتكرارا. ولو حاسبنا أنفسنا بأمانة في ضوء ما قاله المسيح الموعود لتوصلنا إلى نتيجة أننا نصلح أعمالنا لبضعة أيام ثم نعود إلى سابق عهدنا ونعود كما كنّا من قبل.

فهذا موقف خوف عظيم لنا، ويجب علينا أن نقوم بكل عمل ونخطو كل خطوة بحذر شديد وبعد تفكير رصين. لقد قلتُ في الخطب الماضية أيضا أن غاية بعثة المسيح الموعود هي حثّنا على تطبيق تعليم القرآن الكريم على أنفسنا وإقامته وترغيبنا في التأسي بأسوة سيدنا رسول الله وسنته. وقد وجّه المسيح الموعود أنظارنا إلى هذا الأمر مرارا وتكرارا. ولو حاسبنا أنفسنا بأمانة في ضوء ما قاله المسيح الموعود لتوصلنا إلى نتيجة أننا نصلح أعمالنا لبضعة أيام ثم نعود إلى سابق عهدنا ونعود كما كنّا من قبل.

إن مَثلنا كمثل دمية، كما ذكرتُ في الخطب الماضية – التي تبقى مضغوطة ما دامت محصورة في العلبة وعندما يزول الثقل يقذفها النابض خارج العلبة فورا. كذلك ما دامت النصائح توجَّه يبقى تأثيرها ملحوظا في الناس وعندما يزول ضغط النصائح والاهتمام يقذف نابض النفس سيئة من السيئات إلى الخارج ويُظهرها للعيان. لقد كتب إليّ كثير من الإخوة بعد خطباتي السابقة بأننا نسعى جاهدين وندعو الله أيضا، ونرجو الدعاء منك أيضا أن تبقى دمية السيئات مغلقة في العلبة بتأثير الخطب ولا تطل برأسها بين حين وآخر.

“… المعصية التي تترك نقطة سوداء على القلب. إن الصغائر تتحول إلى الكبائر نتيجة غفلة المرء وكسله. إن مَثل الصغائر كمثل حبة صغيرة تكبر وتسوّد الوجه كله في نهاية المطاف.”

على أية حال علينا أن نفكّر جيدا لماذا تحاول هذه الدمية الخروج من العلبة مرارا وتكرارا. لا يمكن إصلاح شيء – والمعلوم أنه يمكن للمرء أن يختار أساليب مختلفة للإصلاح – إلا إذا كان الإنسان مطّلعا على نقاط ضعفه وسعى لتقويمها. أما إذا بقيت الأسباب على حالها لعادت السيئة بعد إصلاح مؤقت. عندما أمعنتُ النظر من هذا المنطلق وقرأتُ أكثر وجدتُ تحليلا لهذا الموضوع قام به سيدنا المصلح الموعود . كان من ميزات المصلح الموعود في الكتابة والخطاب أنه كان يثير الأسئلة المحتملة بنفسه ثم يردّ عليها من خلال الأمثلة. الحق أن تحليل المسائل في ضوء القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وكلام المسيح الموعود كما كان يقوم به المصلح الموعود قلما يوجد نظيره. فارتأيت بناء على ذلك أن أوجّه أنظاركم إلى أساليب الإصلاح المذكورة آنفا مستفيدا من خطب سيدنا المصلح الموعود .

الأمور التي تحول دون إصلاح الأعمال أو تؤثر سلبا هي شعور الناس بوجه عام أن هناك ذنوبا كبيرة وهناك ذنوبا صغيرة. وقد قرر الناس بأنفسهم أو تحت تأثير كلام المشايخ أن هناك ذنوبا صغيرة وذنوبا كبيرة. وهذا ما يعرقل طريق إصلاح الأعمال، ويدفع الناس على التجاسر وارتكاب الذنوب، فيفقد الناسُ الشعور بشناعتها فيزعمون أنه لا بأس في ارتكاب ذنب صغير لأن عقوبته بسيطة. يقول المسيح الموعود :

“إذا مرض أحد، سواء أكان المرض بسيطا أو شديدا ولم يعالجه ولم يتكبد المشقة لمداواته لن يشفى. إذا ظهرت على الوجه حبّة سوداء صغيرة يقلق المرء على أنها قد تزداد وتكبر وتسوِّد الوجه، كذلك الحال بالنسبة إلى المعصية التي تترك نقطة سوداء على القلب. إن الصغائر تتحول إلى الكبائر نتيجة غفلة المرء وكسله. إن مَثل الصغائر كمثل حبة صغيرة تكبر وتسوّد الوجه كله في نهاية المطاف.”

فالجدير بالتذكر أن على الإنسان ألا يحسب أيّ ذنب صغيرا لأنه إن ظن المرء عن أيّ ذنب أنه صغير لما أُتلفت بذرته. فعلينا أن نحاسب أنفسنا من هذا المنطلق أيضا. سوف يؤاخذ الله على الذنوب كلها صغيرة كانت أم كبيرة. عندما نبحث كيف عرّف رسول الله الذنوب وكيف وضّحها للناس نجدْ وجّه إلى أناس مختلفين وبمناسبات مختلفة تعليمات مختلفة. فقد سُئل رسول الله مرة عن أكبر حسنة فقال: البر بالوالدين. ثم سأله شخص آخر السؤال نفسه فقال ما معناه أن صلاة التهجد حسنة كبيرة. وقال لغيره أن الجهاد أكبر حسنة له. فثبت من ذلك أن الحسنة الكبيرة تختلف من شخص إلى آخر وفي ظروف مختلفة.

أودّ أن أوضح عن الجهاد أن معارضينا يتهموننا بأننا لا نجاهد بالسيف. من المعلوم أن الإسلام في ذلك الزمن كان يهاجَم بالسيف من كل حدب وصوب، ففي تلك الظروف كان الجهاد بالسيف حسنة كبيرة دون شك. وقد عدّ الله تعالى عدم الاشتراك فيه دون مبرر مدعاة للعقاب. ولكن النبي قال عن زمن المسيح الموعود أنه “يضع الحرب” أي سيلغي المسيح الموعود الحروبَ لأن أساليب الهجوم على الإسلام سوف تتغير في زمنه، ولن يُهاجَم الإسلام بالسيف بل سيهاجَم بواسطة وسائل الإعلام المختلفة بما فيها المرئية والمقروءة. فستستخدم جماعة المسيح الموعود أيضا الوسائل نفسها. فقال المسيح الموعود واضعا هذا الأمر في الحسبان في بيت شعره: الحرب والقتال من أجل الدين محرّم الآن.

صحيح أن الجهاد بالسيف كان حسنة في زمن من الأزمان لأن الإسلام كان يهاجَم بالسيف بُغية القضاء عليه، ولكن هذه الحسنة لم تعد حسنة الآن بل صارت محرمة ما لم يُرفع السيف أو ما لم تَرفع القوى المعادية للإسلام أسلحة مادية أخرى ضد الإسلام. إذًا، الحسنة الحقيقية والجهاد المسموح به الآن هو الجهاد بالقرآن الكريم، وجهاد نشر تعليم الإسلام الجميل بواسطة وسائل الإعلام المرئية والمقروءة. وإذا كان هناك أحد لا يقدر على هذا الجهاد بسبب قلة علمه أو لأي سبب آخر فإن باب جهاد آخر مفتوح أمامه وهو جهاد التضحيات المالية لنشر الكتب الدينية والنشاطات التبشيرية الأخرى. ولكن إذا قام أحد بهذا الجهاد ولم يؤد حقوق أهله وأولاده ولم يهتم بهم حق الاهتمام فهذا الجهاد ليس الحسنةَ الكبيرةَ بالنسبة له بل الحسنة الكبيرة له هو أداء الحقوق الواجبة عليه. وإن حرمانهم من حقوقهم وعدم التركيز على تعليمهم وتثقيفهم يجعل مثل هذا الشخص مذنبا.

لقد علَّم النبي أحدا كما أخبرتكم أن أفضل عمل هو البر بالوالدين رغم فضيلة الجهاد في زمنه ، فأفضل عمل وأفضل حسنة تختلف من شخص إلى شخص ومن ظرف لآخر.

وكذلك نرى أن إنفاق المال على أعمال طالحة سيئة، قد صدر النهيُ عنه، ففي هذه الأيام توجد ماكينات القمار وهناك أنواع للقمار، وهناك أناس مولعون باليانصيب أيضا، فالناس يلعبون القمار بأسلوب معروف ويتوجهون إلى ماكينات القمار أيضا. لكنهم لا يكذبون في الحياة اليومية مع العامة ولا يظلمون ولا يقتلون وذلك لأنهم يعدّون هذه السيئات من الكبائر، ولا يعدون إنفاق المال في القمار والمنكرات الأخرى سيئةً. فإسراف المال في ارتكاب المنكرات يعدّ من الكبائر عند مثل هذا الإنسان، إذ يعدّ السيئات الأخرى ذنوبا سلفا.

ثم نلاحظ أن المرأة لا تلبس لباسا محتشما، وعند الخروج من البيت لا تراعي الحجاب، وتخرج من البيت حاسرة الرأس وتتجول دون الرداء أو الحجاب ويكون لباسها ضيقا ويُبرز المفاتن مع ادعائها بأنها مسلمة أحمدية. أما إذا طُلب منها المال في سبيل الله وأن تتبرع لجمعية خيرية معينة، فتنفق بسخاء. أو هي تكره الكذب ولا تتحمل أن يكذب أمامها أحدٌ، فالحسنة الكبرى لها ليس التنشط في التبرعات أو النفور من الكذب، بل الحسنة الكبرى لها أن تستجيب لأمر القرآن الكريم بأن تلبس اللباس المحتشم، وأن تهتم بالحجاب وتعرف أن عدم هذا سيئة صغيرة لكن تلك السيئة الصغيرة نفسها ستؤدي بها يوما إلى سيئة كبيرة. باختصار إن مستوى كل إنسان للسيئة والحسنة هو بحسب حالة كل إنسان، وإن أعمال أناس مختلفين في أوضاع مختلفة تحدِّد لهم تعريف الحسنة والسيئة. فما دام الإنسان يفكر في أن السيئة الفلانية كبيرة والفلانية صغيرة وأن الحسنة الفلانية كبيرة والفلانية صغيرة، لا يمكن أن يجتنب السيئات ولا يوفَّق لإحراز الحسنات. يجب أن يكون نُصب أعيننا على الدوام أن الكبائر هي تلك التي لا يقدر الإنسان على التخلي عنها، ويجد صعوبة بالغة في تركها، إذ تكون قد صارت عادة راسخة لديه. أما الحسنات الكبرى فهي حصرا تلك التي يواجه الإنسان صعوبة في إحرازها، أي أن السيئات الكثيرة هي من الكبائر لبعض الناس وهي نفسها صغيرة للبعض الآخرين. وكذلك هناك حسنات كثيرة تعدّ كبيرةً للبعض وصغيرةً للبعض الآخرين.

فإن كنا نريد إصلاح أنفسنا فلا بد من نَبذ هذه الفكرة أولا من القلب، أن الزنا مثلا من الكبائر أو القتل والسرقة والغيبة من الكبائر وما عداها من الذنوب هي صغيرة. فنبذ هذه الفكرة من القلب ضروري، كما من الضروري التخلي عن الفكرة بأن الصيام حسنةٌ كبيرة والزكاة حسنة كبيرة والحج حسنة كبيرة وما عداها من الحسنات فهي صغيرة، كما يسود هذا الخيال في عامة المسلمين. فما دمنا لا ننبذ هذه الفكرة من القلب فسوف يبقى الجانب العملي ضعيفا. وسيقْوى الجانب العملي عندما سنضع في الحسبان قولَ سيدنا المسيح الموعود : إن الذي يهمل واحدا من سبعمائة أمر للقرآن الكريم فهو يغلق عليه باب النجاة بيده.

إذن يجب أن لا نظن كالآخرين أن بعض الحسنات كبيرة وبعضها صغيرة. وهم يغالون في هذا الأمر إذ يزعمون مثلا أن الصيام أكبر حسنة ولا بد من التمسك به ويهتمون به اهتماما كبيرا ولا يهتمون بالصلاة جماعةً، فالذي وجبتْ عليه الزكاةُ يسعى لاجتناب دفع الزكاة لكنه يصوم حتما، لأنه يظن أن الإفطار ذنب كبير.

كان المسلمون في باكستان في الماضي -ولا أعرف ماذا يفعلون الآن- يكتبون عند ملء الاستمارة في البنك أنهم قاديانيون لكي يجتنبوا دفع الزكاة، ذلك لأن الحكومة في باكستان تحسم الزكاة تلقائيا من البنك في كل عام، ولما كان الأحمديون قد اعتُبروا كفارا بحسب القانون الباكستاني في عام 1974 ومن ثم لا تُحسم الزكاة من رصيدهم في البنوك. فهذه هي حالة إيمانهم فهم بشكل عام يعدّون الأحمديين كافرين لكن عندما يريدون حماية أموالهم ينضمون إلى الكفار أنفسهم. هذا ما كان سائدا قبل فترة ولا أعرف ماذا يجري حاليا. فقد آلت حالتهم إلى هذا لأنهم لا ينظرون إلى الله عند تعيين معايير الحسنة والسيئة، ولا إلى رسوله بل يتْبعون الفقهاء المزعومين والمفتين والعلماء.

لقد ذكر المصلح الموعود حادثا من حياة المسيح الموعود أن حضرته كان مسافرا إلى أمرتسر في رمضان وتسنى له أن يلقي الخطاب وفي أثناء الخطاب حين شعر بالجفاف في الحلق ولاحظ ذلك أحدُ الحضور قدَّم له فنجانا من الشاي، فصرفه حضرتُه، وبعد فترة شعر ألما في الحلق مرة أخرى، فقدم إليه الشخص نفسُه فنجانا من الشاي مرة أخرى، فصرفه حضرته وأشار بيده أنه لا حاجة، لكنه حين شعر مرة ثالثة بالجفاف والألم في الحلق قدم لحضرته الشخصُ نفسه فنجانا من الشاي، فشرب حضرته جرعة منه ظنا منه بأن لا يزعم ذلك الرجل أن حضرته لا يستفيد من السهولة بدافع الرياء ليخفي امتناعه عن الصيام في السفر. فحين رأى ذلك غيرُ الأحمديين الموجودين هناك أثاروا ضجة قائلين انظروا إلى هذا الرجل الذي يدّعي أنه المهدي ولم يصم في رمضان. فهم يعطون للصيام هذه الأهمية حتى لو أدى ذلك إلى معصية الله.

يقول حضرة المصلح الموعود : لعل تسعين بالمئة منهم لم يكونوا يصلون، وقد يكون 99 بالمئة منهم كاذبين وخادعين وغاشِّين ونصّابين وأغلب الظن في الوقت نفسه أن يكون 99 بالمئة منهم صائمين آنذاك، لأن الصيام يعدّ أكبر حسنة عندهم. إلا أنهم لا يصومون كما أمر النبي بالصيام، فقد قال حضرته : إن الذي يكذب ويغتاب ويسبّ فليس في نظر الله صائما، وإنما يتحمل الجوع والعطش عبثا. وإذا استعرضنا الأوضاع فسنجد أن غالبية المسلمين تتحمل الجوع والعطش بحسب هذا المعيار. إلا أنهم يعدّون تحمُّل الجوع والعطش حسنةً كبيرة، ويرونه كافيا لنجاتهم، أو يمكن أن يضيفوا إليه بعض الحسنات الأخرى التي هي كبيرة في نظرهم، فيظنون أنها تكفي لتخليصهم.

فشرب حضرته جرعة منه ظنا منه بأن لا يزعم ذلك الرجل أن حضرته لا يستفيد من السهولة بدافع الرياء ليخفي امتناعه عن الصيام في السفر. فحين رأى ذلك غيرُ الأحمديين الموجودين هناك أثاروا ضجة قائلين انظروا إلى هذا الرجل الذي يدّعي أنه المهدي ولم يصم في رمضان. فهم يعطون للصيام هذه الأهمية حتى لو أدى ذلك إلى معصية الله.

فهؤلاء لا ينشرون الحسنات في العالم ولا يتمكنون من تعيين المعيار الصحيح للذنب، إذ قد أقاموا بأنفسهم معايير للحسنات الكبيرة والصغيرة وكذلك للسيئات الكبائر والصغائر، ونتيجة لذلك يسعون لإحراز حسنة كبيرة بحسب تعريفهم للحسنة، ولا يستعدون لمقاومة السيئة التي يعدونها من الصغائر. فعدم تخلّيهم عنها يعني أنهم لا يقاومونها، ومن ثم ينغمسون في السيئات انتقالا من سيئة إلى أخرى باستمرار، مع أن الإسلام يعدّ الحسنة الكبيرة ما يجدها الإنسان شاقةً عليه، وهي تختلف من شخص إلى شخص، كما عدّ السيئة الكبيرة ما يجد المرء صعوبة في تركها.

فإن كنا نريد إصلاح أنفسنا فنحن بأمسِّ حاجة إلى أن نضع في الحسبان دوما، أنه لا بد لنا من بذل المساعي لإحراز كل حسنة والتخلي عن كل سيئة، إن تعريفنا الشخصي (للحسنات والسيئات) لن يمكِّننا من إحراز الحسنات والامتناع عن السيئات. فلو بدأ المرء بتعيين تعريف الحسنة والسيئة وفي ضوء ذلك تخلَّى عن بعض السيئات ولم يترك الأخرى وأحرز بعض الحسنات وأهمل الأخرى لضرَّ نفسه في أحيان كثيرة. إن إهمال الحسنات التي تبدو صغيرة يؤدي إلى الحرمان من الحسنات الكبيرة أيضا كما أن السيئات التي تبدو بسيطة تُلحق بالروحانية ضررا لا يُتدارك في أحيان كثيرة، حيث يُحرم الإنسان من نعمة التطهير والتزكية الإلهية، ثم إن الاستهانة ببعض السيئات تؤدي إلى بقاء بذرة السيئة التي تنبت عندما تسنح لها الفرصة وتنمو عند الفرصة السانحة.

فهناك حاجة ماسة إلى الحذر الشديد، فيمكن القضاء على السيئات إذا بذل الجميع جهودا جماعية في المجتمع والجماعةِ أي إذا حاول كل فرد من المجتمع والجماعة القضاءَ عليها. أما إذا ارتكب كل واحد السيئةَ أو أحرز حسنةً بحسب تعريفه لهما، فيمكن أن يعدّ أحد أفراد المجتمع إحدى السيئات كبيرةً وفي الوقت نفسه يصنفها غيرُه في الصغائر وقد يكون رأيُ الثالث مختلفا عن كليهما. ومن ثم لا يمكن أن تنتهي السيئات من المجتمع. فالقضاء على السيئات ممكن إذا كان الجميع يفكرون في اتجاه واحد. فالمسلمون مثلا يرون أكل لحم الخنـزير أسوأ السيئات بل أسوأ من الشرك أيضا، إذ كل نذل وسارق وزانٍ ونصّاب يسمي نفسه مسلما مع ارتكابه كل هذه الجرائم، أما إذا عُرض عليه لحم الخنـزير قال فورا أنا مسلم كيف يمكن أن أتناول لحم الخنـزير؟ وسبب ذلك أن هناك شعورا جماعيا في المسلمين بأن أكل لحم الخنـزير ذنب وحرام. إن 99.99 بالمئة من المسلمين الذين وُلدوا هنا وترعرعوا هنا في هذا المجتمع يكرهون لحم الخنـزير، فهذا بسبب الشعور الذي خُلق في المسلمين جماعيا. فلإزالة السيئات وإقامة الحسنات يجب على كل فرد من المجتمع أن يولِّد في نفسه الشعور أن الحسنة التي يراها بسيطةً هي أيضا كبيرةٌ كما أن السيئة التي يحتقرها هي الأخرى من الكبائر. فما دام هذا الإحساس لا يتولد في كل واحد منا ولا يسعى له ستبقى السيئات في المجتمع وستظل تُعيق عملية الإصلاح العملي.

ثم الأمر الثاني في إصلاح الأعمال هو البيئة أو خصلة التقليد، لقد فطر الله الإنسانَ على حب التقليد الذي يظهر منذ الطفولة، فالطفل أيضا يحب التقليد طبعًا، وهو لا شك مفيد، إلا أن استخدامه السيئ يُهلك الإنسان، أو يؤدي إلى الدمار، فالطفل يتعلم اللغةَ والأمور الأخرى من الوالدين متأثرا بما يجري في محيطه وبدافع التقليد، حيث يتعلم منهما الحسنات وبذلك يصبح إنسانا متخلقا بأخلاق نبيلة. فإذا كان الوالدان صالحَين ويقيمان الصلاة ويتلوان القرآن الكريم ويتعايشان بالحب والمودة ويَكرهان الكذب فسوف يتحلى الأولاد أيضا بالحسنات. أما إذا كان الطفل يشاهد في البيت الكذب والشجار والسخرية من الآخرين وعدم احترام نظام الجماعة أو سيئات أخرى من هذا القبيل فيتعلم هو الآخر هذه السيئات متأثرًا بها بدافع التقليد في طبعه. وعندما يخرج من البيت يتأثر بسيئات المجتمع والبيئة. لذا ألفت أنظار الوالدين مرارا إلى أن يراقبوا المحيط الذي يكون فيه أولادهم، كما يجب أن يراقبوا في البيت أيضا استخدامَهم للتلفاز والانترنت وغيرهما.

وإذا كان هناك أحد لا يقدر على هذا الجهاد بسبب قلة علمه أو لأي سبب آخر فإن باب جهاد آخر مفتوح أمامه وهو جهاد التضحيات المالية لنشر الكتب الدينية والنشاطات التبشيرية الأخرى.

ثم من الجدير بالاهتمام أن سِنّ تربية الأولاد يبدأ من الطفولة الابتدائية فلا يخطرنّ ببالكم أن الطفل عندما سيكبر سنبدأ بتربيته كلا بل في عمر سَنتين أو ثلاث سنوات يجب أن يتلقى الطفل التربية، إن الطفل يتعلم -كما قلت سابقا- من الوالدين في البيت وممن يكْبرونه ويلاحظهم ويقلدهم. فلا يخطرن ببال الوالدين أبدا أن الطفل ما زال صغيرا ولا يعرف شيئا. كلا بل هو يفهم تماما، وهو يلاحظ كل تصرف للوالدين، وهو يعشّش في دماغه دون أن يشعر. ثم يأتي أوانٌ يبدأ فيه التقليد، فالبنات تقليدا للأمهات يلبسن عند اللعب مثل لباس الأمهات والأطفال يقلدون الآباء، فيقلدون الآباء في الحسنات والسيئات. فالكذب مثلا سيئة، وإنجاز الوعد حسنة، فالولد الذي لم يلاحِظ أرفع معايير الصدق في والديه، ولم ير تمسكهما والآخرين في البيت بإنجاز الوعد، فسوف يتعلم -من ناحية التعليم- أن الكذب سيئة وأن إنجاز الوعد حسنة، إلا أنه عمليا لن يعمل بذلك لأنه يرى في بيته خلاف ذلك. إن العادات تترسخ في الأولاد منذ الصغر، وعندما يكبرون لا يقبلون خلاف ذلك. فعندما يرى الطفل أمه تتهاون في أداء الصلاة وحين يسألها أبوه هل قد صلتْ أم لا فتقول: لم أصلِّ بعد وسأصلي بعد قليل، فيتعلم الطفل أن هذا الجواب رائع، فأنا الآخر إذا سُئلتُ مستقبلا: هل صليتَ فسأقول مثل ذلك “أني لم أصلِّ بعد فسأصلي بعد قليل”. أو عندما يسمعها تقول له: نعم قد صليتُ مع أنه يعلم أنها لم تصلِّ فهو يرافقها طول اليوم في البيت، وهو يعرف أنها لم تصلِّ، فيرسِّخ هذا الجواب في الدماغ، ومثل ذلك تترسخ في ذهنه الأعمال السيئة للوالد أيضا، فهو يرسِّخ في دماغه الأجوبةَ المماثلة الخاطئة للوالد أيضا، فمثل هذين الوالدين يسيئان إلى تربية الطفل، ويدفعانه إلى الأخطاء بعملهما. وعندما يكبر الطفل يعطي الردود المماثلة ويقوم بتصرفات مماثلة خاطئة عمليا.وكذلك تؤثِّر في الطفل أعمالُ الجيران وأصدقاءِ الوالدين ومعارفِهما الخاطئة أيضا. فإذا أردتم الإصلاح العملي الحقيقي، لأولادكم وأجيالكم القادمة لكي يرتفع معيار الإصلاح العملي، فلا بد للوالدين أيضا أن يفحصوا حالتهم العملية، وهم بحاجة إلى أن يصادقوا أناسا صالحين عمليا. باختصار من عادة الطفل أنه يقلِّد ويترسخ في دماغه تأثيرُ البيئة أيضا، فإذا وضعتم الطفل في بيئة صالحة حسنة فسوف يعمل أعمالا صالحة بانتظام أما إذا هيأتم له بيئة فاسدة فسوف يداوم على ارتكاب السيئات. فالذي قد اعتاد على السيئات من الطفولة حين يُشرح له في الكبر أن العمل الفلاني سيئ فلا يقدر على التخلي عنه. عندئذ يجب أن لا يشتكي الوالدان أن أولادهم فسدوا، فمسئولية الوالدين جسيمة وتتمثل في أن يعوِّدوا الأولاد بعملهم على إقامة الصلاة، والتمسك بالصدق بعملهم، ويعرضوا عليهم الأخلاق الأخرى بعملهم لكي يقلدوهم فيها، فليجتنبوا اليمين الكاذب لكي يجتنبها الأولادُ أيضا. كيف تترك الأفكار الراسخة في الصغر تأثيرا عمليا، لقد ضرب المصلح الموعود بهذا الشأن مثال صحابي من أصحاب المسيح الموعود الذي كان ينحدر من عائلة الزعماء من السيخ ثم انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية ولكنه مع ذلك ما كان يأكل لحم البقر. وكان زملاؤه يضايقونه قائلين بأنهم سيطعمونه لحم البقر لا محالة. يقول المصلح الموعود : رأيته ذات يوم مهرولا في دار الضيافة ورأيت وراءه بعضا من أصدقائه وهم يقولون: سوف نطعمك اليوم لحم البقر في كل الأحوال. أما هذا الأخ المذكور فكان يتوسّل إليهم ويقول، أرجوكم ألا تفعلوا. وقال المصلح الموعود أن أحدا أطعمه أو غيره ممن كان حديث العهد بالإسلام لحم بقر فكرهه بشدة حتى تقيأه. إذًا نفوره هذا من لحم البقر كان منذ الصغر حتى ظل ينفره بعد أن كبُر وأسلم أيضا. لا شك أنه غيّر اعتقاده واختار اعتقادا جديدا ولكن الكراهية التي ترسخت في ذهنه منذ الصغر تجاه لحم البقر بالنظر إلى عمل أبويه لم تزُل بعد إسلامه أيضا. يقول المصلح الموعود بأنه لما كانت الأعمال مرئيةً فيقلّدها الناس، ولكن الاعتقاد ليس شيئا ملحوظا لذا يبقى محدودا في دائرته. فكما تخرج من الشجرة المركّبة أغصان من نوع جديد وتحمل ثمارا من نوع جديد كذلك هو مثل الأعمال أيضا فهي أيضا تنمو وتزدهر من بذرة واحدة. فتتجذر بذرتها في الأرض تلقائيا كلما وجدتْ مناخا ملائما.

فباختصار، إن انتشار العمل السيئ سهل إذ ينتشر في المجتمع نتيجة سيئات يكسبها الناس. والمراد من ذلك أن للمجتمع تأثيرا ودخلا كبيرا في انتشار الحسنات والسيئات لذا علينا أن ننتبه إلى هذا الأمر جيدا. وهناك بعض الأسباب الأخرى أيضا سأذكرها لكم في فرصة أخرى بإذن الله. ندعو الله تعالى أن يوفقنا للاهتمام بإصلاح أنفسنا وأولادنا دائما.

فما دمنا لا ننبذ هذه الفكرة من القلب فسوف يبقى الجانب العملي ضعيفا. وسيقْوى الجانب العملي عندما سنضع في الحسبان قولَ سيدنا المسيح الموعود : إن الذي يهمل واحدا من سبعمائة أمر للقرآن الكريم فهو يغلق عليه باب النجاة بيده.

هناك خبر مؤسف أريد ذكره الآن، وهو خبر وفاة العزيز خالد أحمد البراقي من سورية وسأصلي عليه صلاة الغائب بعد صلاتَي الجمعة والعصر. كان المرحوم مهندسا بارعا من حيث المهنة، بالغا من العمر 37 ربيعا. لقد بايع أبواه في قرية حوش عرب في ريف دمشق في عام 1986م وكانوا أول المبايعين في قريتهم. لقد واجه والد المرحوم معارضة وتهديدات شديدة بعد البيعة حتى سُجن في عام 1989م لستة أشهر. وقد اعتُقل أبوه مرتين في عام 2012م و2013م في أثناء أعمال الشغب الجارية في سورية حاليا. كان المرحوم وإخوته وأخواته أحمديين منذ الصغر. لقد اعتقله أحد فروع المخابرات المحلية مساء 18/9/2013م ولم يُعرف مصيره بعد ذلك. ثم استُدعي والد المرحوم وأعطوه مستندات تتعلق بابنه وأخبروه أن ابنه توفي في 28/10/2013م، إنا لله وإنا إليه راجعون. ولم تُسلَّم جثته أيضا إلى والده، وأغلب الظن أن المرحوم مات نتيجة تعذيب المخابرات.

شهد الكثيرون في تعازيهم من أحمديين وغير أحمديين للمرحوم بالصلاح والطيبة وحسن الخُلق والالتزام. كان المرحوم مخلصا وفيا وكان يتحمل مسئولية سكرتير تعليم القرآن والوقف المؤقت في جماعة سورية، وسابقا كان رئيسا للجماعة المحلية في القلمون بريف دمشق، كان صوته جميلاً في تلاوة القرآن، وكان رقيقاً محباً للناس ويُسرع في تنفيذ أي خدمة موكلة إليه وبكل سرور، كان متعاونا مخلصاً محباً مطيعاً لنظام الجماعة والخلافة. ومحبا للوطن وللناس جميعاً، لقد كان موصيًا ومثابرا على دفع ما يترتب عليه من الوصية زوجته أحمدية، لديهما ثلاثة أطفال “شروق” و”أحمد” بعمر أقل من ست سنوات و”حسام الدين” الذي رزقه الله تعالى به قبل اعتقاله بأسابيع قليلة وكان قد نذره لله تعالى في مشروع وقف نو. مما قاله ونشره على صفحته التبشيرية على الانترنت قبل اعتقاله: “حب الوطن من الإيمان. يا ربّ احمِ بلدنا وفرج عنه كل المحن، واجعله أقوى وأجمل وأكمل وأقرب إليك، واجعل أفئدة الناس فيه رقيقةً على بعضهم البعض، متآلفين متحابّين فيك يا ربّ العالمين، وأعن كل الطيبين فيه على نشر الخير والسلام والأمان على مدى الدهر. آمين.”ندعو الله تعالى أن يجيب دعاءه في حق بلده وفي حق الأمة المسلمة بأسرها لتنتهي الفسادات فيها. يقول السيد طاهر نديم: كان كثيرا ما يتواصل معي عبر البريد الالكتروني. لقد تعرّفنا على المرحوم في أثناء إقامتنا في سورية. كان يقابل الجميع بالتواضع، كان إنسانا بسيطا، تقيا، دمث الأخلاق وبشوشا دائما. كان يسكن في دمشق في بيت الجماعة الذي كان يُستخدم كمركز الجماعة أيضا. كان محبا للعلم إلى درجة كبيرة فكان كثيرا ما يأتينا مع ابن عمه فنتجاذب أذيال الحديث حول مواضيع علمية مختلفة. كلما وجد المرحوم كتابا من كتب الجماعة قرأه بحب ولهفة متزايدة. لقد اختار بعض المقالات من كتب الجماعة القديمة وكذلك من مجلدات قديمة لمجلة “البشرى” ونضّدها على الحاسوب وأرسلها إلينا، وكان يساعدنا في مراجعة التراجم أيضا. كان يحب المسيح الموعود والخلافة من الأعماق. لقد بثّت قناتنا الفضائية برنامجا خاصا بمناسبة “يوم المسيح الموعود” وبعد سماعه البرنامج كتب إلي رسالة ملؤها الحب والإخلاص. وسجّل قصيدة من قصائد المسيح الموعود أيضا بصوت يعلوه الألم والحرقة. بعث إلي في أول أبريل 2012م رسالة سجل فيها رؤياه التي رآها في أواخر عام 2006م وفهم منها أنه ستُعهد إليه مسئولية كبيرة ونُصح في الرؤيا أن يتمسك بالحق والصدق وألا يفسح أي مجال أن يصيبه أدنى ضعف. وعندما عيِّن رئيسا لجماعة محلية ظن أن رؤياه قد تحققت، ولكنه كان قد نُصح للتمسك بالحق دائما وعدم إبداء الضعف. فيبدو أنه قد لفظ أنفاسه الأخيرة قائما على دينه الحق دون أن تتزعزع قدماه، ندعو الله تعالى أن يرفع درجاته دائما.

يقول داعية الجماعة السيد مير أنجم برويز الذي مكث في سورية: كان المرحوم يعمل بكل حب وإخلاص وأمانة، وكان يقول بأني أفعل ذلك ليعلم الناس أن الأحمديين صادقون، وأمناء ومجتهدون وذوو أخلاق عالية. ولما كان تبليغ الدعوة ممنوعا في مكان عمله فكان المرحوم يقول بأني أبلغ الدعوة وأؤثر في الناس بأخلاقي لينتبه الناس تلقائيا. كان يحب بلده كثيرا كما يتضح من بيانه المذكور آنفا، وكان ينصح جلساءه وأقرانه أيضا بحب الوطن لأن هذا هو تعليم الإسلام الحقيقي. وعندما ألقيتُ الخطب حول الأوضاع السائدة هناك أسمعها لأصدقائه وحثّهم على ترك حياة العنف وعلى العيش كمواطنين مسالمين، ولكن بعض الأشرار والحساد كانوا يعادونه. ويبدو أن رجال الحكومة هؤلاء هم الذين صبّوا عليه مظالم قاسية حتى نال مرتبة الشهادة. ندعو الله تعالى أن يرفع درجاته دائما ويلهم أولاده وذويه الصبر والسلوان، آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك