تزكية النفس و أنوار الوحي
  • ما معيار كمال المرء؟
  • ما معنى قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}

إن أنوار الوحي الإلهي لا تقبلها بوجه أتم وأكمل إلا النفس التي نالت التزكية على وجه أتم وأكمل. إن تلقي الإلهام والرؤى في حد ذاته لا يدل على ميزة أو كمال ما لم تحظَ النفس ­- بسبب الحصول على التزكية التامة – بحالة يتم فيها انعكاس الأنوار، وما لم تُظهر فيها وجه المحبوب الحقيقي . فكما أن رحمة الله العامة قد وهبت الجميع، إلا ما شذ وندر، العينين والأنف والأذن وحاسة الشم والقوى الأخرى كلها، ولم تبخل بها على قوم، كذلك لم يحرم الله قوما في أي زمن من زرع القوى الروحانية فيهم. وكما ترون أن ضوء الشمس يقع في كل مكان ولا يخلو منه مكان سواء أكان كثيفا أو لطيفا، كذلك الحال بالنسبة إلى قانون الطبيعة المتعلق بالشمس الروحانية، فلا يحرم من نورها مكان كثيف ولا لطيف. صحيح أن ذلك النور يعشق قلوبا نزيهة ونقية. فحين تلقي الشمس الروحانية بنورها على أشياء نقية فهي تُظهره فيها بالكامل إلى درجة تصوِّر وجهَها فيها. كما ترون الشمس حين تأتي مقابل الماء النقي أو المرآة النقية تظهر فيها صورتها الكاملة إلى درجة أنها تتراءى في الماء النقي أو المرآة الصافية كما تتراءى في السماء دون أدنى فرق.

فلا كمال للإنسان من الناحية الروحانية أكبر من أن يحظى بصفاء يصل إلى درجة بحيث تتراءى فيه صورة الله تعالى. فيشير الله في القرآن الكريم إلى هذا الأمر ويقول: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً والظاهر أن الصورة تكون خليفة للأصل وتنوب عنه، لذا حيثما وكيفما تكون الأعضاء والملامح في الأصل، فهي تظهر في الصورة كذلك تماما. لقد ورد في التوراة والحديث الشريف أيضا أن الله تعالى قد خلق الإنسان على صورته، والمراد من الصورة هنا هو التشابه الروحاني نفسه. وواضح أنه حين يقع ضوء الشمس على مرآة صافية فلا تتراءى فيها الشمس فقط، بل تُظهر المرآة صفاتها أيضا، ومنها انعكاس ضوئها إلى غيرها. والحال نفسها بالنسبة إلى صورة الشمس الروحانية، فحين يقبلها القلب النقي بصورة انعكاسية تخرج من ذلك القلب أيضا أشعة كأشعة الشمس وتنوِّر الأشياء الأخرى، وكأن الشمس كلها تدخله بكل قوة وعظمة.

وهناك نقطة أخرى جديرة بالانتباه، ألا وهي أن الناس من النوع الثالث الذين لهم علاقة كاملة مع الله تعالى ويتلقون وحيا كاملا خالصًا، لا يستوون من حيث استقبال الفيوض الإلهية، كما لا تتساوى دائرة قواهم الفطرية، بل منهم مَن تكون دائرة قوته الفطرية أضيق، ومنهم مَن تكون دائرته أوسع منها، ومنهم مَن تكون دائرته أوسع كثيرا، وهناك مَن تفوق سعة دائرته التصورَ والخيال. يحظى بعض الناس بعلاقة قوية مع الله تعالى، وبعضهم علاقتهم معه أقوى، ومنهم مَن لا تدرك الدنيا طبيعة علاقتهم معه، ولا يصل كنهَها عقل. إنهم يغرقون في حب محبوبهم الأزلي فلا تبقى ذرة من وجودهم. وكل هؤلاء الحائزين على تلك المراتب لا يسبقون دائرة قواهم الفطرية بحسب الآية: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فلا يقدر أحد على أن ينال نورا أكثر من قوته الفطرية ولا يسعه أن يعكس في نفسه صورة روحانية للشمس النورانية أكثر من قوته الفطرية. والله تعالى يُري كل شخص وجهَه بحسب قدرته الفطرية، فيصغر هذا الوجه مرة ويكبر أخرى بسبب النقص أو الازدياد في القوى الفطرية. فمثلا إن وجها كبيرا يبدو صغيرا في مرآة مقعرة، والوجه نفسه يبدو كبيرا في مرآة محدّبة. ولكن سواء أكانت المرآة مقعرة أو محدّبة فإنها تُري كافة ملامح الوجه. والفرق الوحيد هو أن المرآة الصغيرة لا تستطيع أن تُري أبعاد الوجه كاملة. فكما يحدث النقص أو الزيادة في حالة المرآة المقعرة أو المحدّبة كذلك تحدث التغييرات في الله تعالى – مع كونه قديما غير متبدّل – بحسب قدرة (الاستقبال) لدى مختلف الناس. وتظهر للعيان فوارق كبيرة من حيث ظهور صفاته فيبدو كأن الله الذي هو إله زيدٍ هو غير إله بكر وأن إله خالد يختلف تماما عن إله زيد وبكر. والحق أن الإله واحد وليس هناك ثلاثة آلهة، لكن يظهر شأنه بصور مختلفة بسبب تجلياته المختلفة. إن إله موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام إله واحد وليس ثلاثة، ولكن الإله نفسه يظهر في ثلاث صور من حيث تجلياته المختلفة. ولما كان نطاق قدرة موسى مقصورا على بني إسرائيل وفرعون فقط فقد اقتصر تجلي القدرة الإلهية أيضا على هذا الحد. ولو كانت نظرة موسى ممتدة إلى كافة بني آدم في ذلك الزمن والأزمنة المستقبلية كلها لما كان تعليم التوراة محدودا وناقصا كما هو الحال الآن. (حقيقة الوحي، الترجمة العربية ص 22 إلى 24)

Share via
تابعونا على الفايس بوك