التاريخ لا يصنع أديانا

التاريخ لا يصنع أديانا

هاني الزهيري

  • ما الأساس الذي تبنى عليه الحضارات؟
  • وما الأساس الذي ينشأ عليه الدين؟!
  • ما الهدف الأساس من الشعائر الدينية؟

__

من الممكن أن تقوم حضارةٌ على مبادئ الهُويـة والتـاريخ والاستمرارية. أي من نحن؟ ما هي الذكرى التي نتمسك بها؟ وما الذي سوف ننقله لأجيالنا؟. ولكنّ الدين لا يمكن أن يقوم على هذه المبادئ، لأننا جميعا سواسية في عين الله فليس هناك هُوية تميزنا أمام الله ، والدين يأتي من خارج العالم وليس من داخله فلا يرتبط بحادث تاريخي معين، والذي يجب أن ننقله لأجيالنا هو الطريق الموصل إلى الله .

ويظهر التدخل البشري في الرسالة السماوية في إقحام هذه المبادئ الثلاثة فيها. ولو توقف الأمر عند حدود الهُوية الإيمانية لما كان هناك مشكلة، أما أن تتخذ هذه الهُوية الإيمانية وليجة لبث الكراهية والعنصرية. ويُتخذ التاريخ مادة لاختراع العقائد والشعائر وتفسير النصوص المقدسة، مما يُفقد الدين جوهره ويؤدي إلى ضياع القيم الروحية فيه. وهذا يؤدي إلى أننا ننقل لأجيالنا مجرد حوادث تاريخية لم تؤثر في روحانيتهم شيئا.

إنما يقوم الدين على العلاقة بين الله والإنسان، عن طريق الأخلاق والروحانية، فالدين هو رسالة الله إلى الإنسان، وهو مجرد من حدود الزمان والمكان، بمعنى أن العقائد الإيمانية والشعائر والطقوس لا ترتبط بحوادث تاريخية معينة، لأنها وسيلة الوصول إلى الله .

وحقيقة الأمر أن هذا الربط والتفسير خاطئان تماماً، فالله لا يُشرّع شعائره من أجل تذكرة الأحداث التاريخية. لأن الشعائر الدينية هدفها هو رفع الحالة الروحانية للإنسان وليس تذكيره بما حدث في الماضي.

فالعقائد الإيمانية في الإسلام هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وأركان الإسلام هي الشهادتان والصلاة والصوم والزكاة والحج. كلها أمور مجردة، وبالتالي فإن أي تفسيرٍ يربطها بحادث تاريخي معين فلم يصب القيمة الروحانية المقصودة بها.

والإنسان منذ بدء الخليقة محاط بالأشياء من حوله، وهو يبحث في تصوراته عن الهدف من استعماله لها، وهذا البحث يشمل الأشياء المادية والروحانية. فالإنسان يبحث في العالم المادي عن الهدف من وجود الأشياء المحيطة به، وكذلك في العالم الروحاني أو الديني يبحث عن الهدف وراء قيامه بالطقوس والشعائر. ونجد في العهد القديم ما يبين هذه الفكرة، حيث ورد في سفر الخروج 12/26-28:

“وَيَكُونُ حِينَ يَقُولُ لَكُمْ أَوْلاَدُكُمْ: مَا هذِهِ الْخِدْمَةُ لَكُمْ؟ 27أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: هِيَ فِصْحٍ لِلرَّبِّ الَّذِي عَبَرَ عَنْ بُيُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ لَمَّا ضَرَبَ الْمِصْرِيِّينَ وَخَلَّصَ بُيُوتَنَا”.

وورد في سفر الخروج 13/14-15:

“وَيَكُونُ مَتَى سَأَلَكَ ابْنُكَ غَدًا قَائِلاً: مَا هذَا؟ تَقُولُ لَهُ: بِيَدٍ قَوِيَّةٍ أَخْرَجَنَا الرَّبُّ مِنْ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ”.

فهذا مثال على ربط الدين بالتاريخ في الديانة اليهودية، ففي عيد الفصح الذي يدوم سبعة أيام، يذبح اليهود الخراف، ويأكلون الخبز المر لكي يتذكروا مُرَّ العيش الذي ذاقه أسلافُهم في دار العبودية، ويقومون بتلاوة نصوص دينية معينة.

وفي الإسلام نجد هذا واضحاً أيضاً، حيث يربط المسلمون بين عيد الأضحى وقصة الذبيح إسماعيل ، ويقولون هذا العيد تذكاراً لما حدث لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

وحقيقة الأمر أن هذا الربط والتفسير خاطئان تماماً، فالله لا يُشرّع شعائره من أجل تذكرة الأحداث التاريخية. لأن الشعائر الدينية هدفها هو رفع الحالة الروحانية للإنسان وليس تذكيره بما حدث في الماضي.

وعندما يغيب عن العقول أن جوهر الدين هو الوصول إلى الله ، يظهر كل شيء فيه بشكل دنيوي، تُفسَر نصوصه بحرفية، ولا تؤثر شعائره في الروح الإنسانية، لأنها فقدت معناها الحقيقي والهدفَ الصحيح من أدائها.

لذلك تجد الفاقدين لجوهر الدين يبحثون في أمور جسدية بحتة، ويُفصّلون فيها تفصيلات تصل إلى حد الثرثرة. ويسألون عن طهارة الجسد ولا يسألون عن طهارة الروح. ونحن لا ننكر هذه الأمور من الدين، ولكننا نقول أن هذه الطقوس والشعائر يجب أن تكون في خدمة الروح.

وهذا الجنوح إلى التاريخ وربطه بالدين ليس نقصاً في الفكر الإنساني، بل هو ما يسميه (روتهاكر) الحاسة التاريخية ويُعرّفها بأنها غريزة فطرية عند جميع البشر، تدفع لتثبيت أحداث وشخصيات الماضي، وتدعو للتذكر ولرواية الأحداث. (كتاب الذاكرة الحضارية تأليف يان أسمن)

والشيعة على سبيل المثال مصممون على ربط الدين بالتاريخ، وقد استمدوا ما هم عليه من معتقدات وطقوس من أحداثٍ تاريخية، الله أعلم بصحتها.

ولو أنهم فهموا جوهر الدين وحقيقة الإيمان لنظروا إلى القرآن الكريم على أنه مصدر الهداية، وليس سواه إلا عمل البشر. ولكنّ فقدان حقيقة الدين تفسح المجال للحاسة التاريخية لأن تعمل عملها.

وهذا المعيار يصلح أيضا للتمييز بين الدين الإلهي والدين البشري، والتفسير الصحيح والتفسير الخاطئ.

فلو نظرنا إلى المسيحية، ولأنها من وضع البشر، نجد أن كل عقائدها الأساسية، وطقوسها مرتبطة بأحداث تاريخية معينة.فعقيدة الخطيئة الموروثة التي تُبني عليها حتمية التجسد والفداء مرتبطة بحادث تاريخي وهو خطيئة آدم ، فلو افترضنا أن آدم لم يعص الله لما كانت هناك ديانة مسيحية.

والصلوات المسيحية السبعة الموجودة في كتاب (الأجبية) نجد أن كلها مرتبطة بجزء من حياة المسيح . فصلاة باكر مُصممة لتُصلى عند ظهور النور الحقيقي، أي السيد المسيح. وهي تتحدث عن لانهائية الله، وتجسده، وقيامته من الأموات.

أما صلاة الساعة الثالثة فتعني هذه الصلاة بتذكيرهم بثلاثة أحداث رئيسة: محاكمة يسوع عن طريق بيلاطس البنطي، وصعود السيد المسيح إلى السماوات، وحلول الروح القدس الذي يُطهر قلوبهم ويُجدد حياتهم.

أما صلاة الساعة السادسة فتذكرهم هذه الساعة بصلب السيد المسيح وآلامه، طالبين أنه من خلال آلامه المقدسة، يُنقذ عقولهم من الشهوات، ويحول أفكارهم لتذكُر وصاياه، ويجعلهم نورًا للعالم وملحًا للأرض.

وهكذا كل الصلوات المسيحية تشير إلى حادث تاريخيّ معين، مما يؤكد على أن الله لم ينزل هذه الصلوات، ولم يقم المسيح بأدائها.

أما الصوم في المسيحية فلا يخرج عن هذه القاعدة أيضا فهناك صوم الأربعين وهو يذكر بالأربعين يوما التي صامها المسيح . وصوم الأربعاء فهو تذكار للتآمر على المسيح ، وصوم يوم الجمعة تذكار لصلبه. وهناك صوم الرسل، وصوم عيد الميلاد المجيد، وصوم نينوى ومدته ثلاثة أيام وهو تذكار لتوبة أهل نينوى. إلخ…

وهكذا نجد الصوم أيضا مرتبطاً بحوادث تاريخية معينة، مما يدل على أنه لم يأت من عند الله .وكذلك الحج أيضا ما هو إلا زيارة للأماكن المقدسة استذكاراً بتاريخ الخلاص الذي تحقق بمجيء المسيح .

يظهر لنا من هذا العرض المختصر أن العقائد والطقوس المسيحية قد جاءت من داخل العالم وليس من خارجه، أي أن مصدرها هو التاريخ وليس الله .

ولكننا لا نجد هذا الأمر في الإسلام، فليس هناك صلاة للتذكير بغزوة بدر مثلاً، أو معراج الرسول .

ولكنْ حدث الربط بين الدين والتاريخ في التفسير والاحتفالات، فنجد تفسيرَ شعائر الحج مرتبطة بقصة إبراهيم النبي . والاحتفال بليلة القدر والنصف من شعبان والإسراء والمعراج والهجرة النبوية ويوم عاشوراء، وهذه الاحتفالات لم تنزل من عند الله ، ولا نقول بأن هذه الاحتفالات محرمة، بل نسوقها كمثالٍ على كيفية تدخل البشر في الدين وكيفية ربط الإنسان بين الدين والتاريخ.

ولو أنهم فهموا جوهر الدين وحقيقة الإيمان لنظروا إلى القرآن الكريم على أنه مصدر الهداية، وليس سواه إلا عمل البشر. ولكنّ فقدان حقيقة الدين تفسح المجال للحاسة التاريخية لأن تعمل عملها.

عظمة المصلح الموعود

وتتجلي عظمة ذلك العبقري الفذ، المستمدة من المسيح الموعود ، في التفسير الكبير، حيث ابتعد عن ربط آيات الكتاب العزيز بحوادث التاريخ إلا فيما يتعلق بقصص الأنبياء وجماعاتهم وهذا أمر طبيعي، واستطاع أن يصل إلى القيم الروحانية الكامنة فيها. ولذلك يرفض الفاقدون لجوهر الدين تفسيراته ويعتبرونها هرطقة أو تفسيراً باطنيّا.المتمسكون بحبل التاريخ يستمدون منه معتقداتهم وشرائعهم، ويلفونه حول أعناقهم حتّى كاد يشنقهم لولا أن نزل المخلّص المسيح الموعود . فعندما تتكدر عين الروح بشوائب الصفات السيئة والخطايا، يستحيل عليها الاتصال بالروح الأعظم وهو الله .فإذا وجــدت دينــا يقوم على التاريخ فاعـلم أنه ليـس من عند الله، وإذا وجدت تفسيراً لنـص مقـدسٍ يقوم على التـاريخ فاعلم أنه بعيد عن المعــنى الحقيــقي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك