لقاء مع الأستاذ المرحوم مصطفى ثابت (3)

لقاء مع الأستاذ المرحوم مصطفى ثابت (3)

محمد طاهر نديم

  • ثلة من أبناء مصر الأحمديين
  • الوَلع بتعلم اللغات
  • المشوار مع الأستاذ محمد حلمي الشافعي

__

ذكرنا في الحلقة السابقة أن الأستاذ مصطفى ثابت تقدم لـخِطبة ابنة ابن عمه الأستاذ أحمد حلمي الذي لم يوافق على طلبه مبدئيا لأنه ليس أحمديا، وأعطاه بعض الكتب للمطالعة. طالعها الأستاذ مصطفى ثابت واقتنع بصدق دعوى الأحمدية وأمضى البيعة.

بعد بيعتى وافق ابن عمتي الأستاذ المرحوم أحمد حلمي وتزوجتُ ابنته وقضيت معها خمسًا وأربعين سنة إلى أن التحقت بالرفيق الأعلى. والجدير بالذكر هنا هو أن الأستاذ المرحوم كان ثاني مصري زار قاديان وتشرف بمقابلة المصلح الموعود عام 1939. ولدى عودته قامت الحرب العالمية الثانية، فأرسل تلغرافا أخبر فيه أسرته عن المركب التي سوف يستقلها من عدن إلى السويس. ووصلت الأخبار أن قوات المحور (قوات ألمانيا) أغرقت هذه الباخرة. فأُصيبت أمه بصدمة شديدة فأخذت تصلي وتدعو الله قائلة: “يا رب إن كان هذا الشخص الذي ذهب لملاقاته هو فعلا المسيح الموعود وهو حق من عندك فأرجع لي إبني حيّا”. وتقبل الله دعاءها ووصل بعد بضعة أيام تلغرافا آخر نصه: لم أتمكن من امتطاء المركب الذي أخبرتكم بموعده وسوف أستقل مركبا آخر. فكان لهذا الأمر وقع شديد على قلب أمه التي أقرَّت بصدق دعوى سيدنا أحمد وانضمت إلى الجماعة.

ثلة من أبناء مصر الأحمديـين

* الأستاذ محمد بسيوني أمير الجماعة آنذاك شد اهتمامي حيث كان يتولى تعليمنا بطريقة رائعة.

كان يقترح موضوعا ثم نبدأ بمناقشته مثل وفاة المسيح وختم النبوة ومواضيع أخرى ثم يقدم أسئلة اعتراضية ويشجعنا على التفكير والبحث عن الإجابات بأنفسنا، وكان يعترض على إجاباتنا. أُعجبت بهذه الطريقة حيث كانت تثير فيَّ الرغبة للمعرفة. وكان ينصحنا بالبحث والمطالعة إلى حين نتقابل في الأسبوع المقبل ونتناقش. اكتسبت خبرة كبيرة من خلال هذه الطريقة الرائعة وتعلمت كيف أبحث عن المادة العقائدية وأصيغها في شكل إجابات دامغة.

* الأستاذ عبد الحميد خورشيد كان أول مصري يزور قاديان عام 1936 وأذكر أنه كان متزوجا لمنذ خمس عشرة سنة ولم يُرزق بأولاد، وحينما قابل حضرة  المصلح الموعود رضي الله تعالى عنه طلب منه الدعاء. فوعده حضرته أنه سوف يدعو له. ولدى توديعه لأمير المؤمنين قال له حضرته: إنني دعوت الله لك وسوف يرزقك بجلال الدين وشمس الدين وعائشة. ويذكر الأستاذ عبد الحميد أنه طار من الفرحة وكان في شوق شديد للعودة إلى مصر. ولقد ثبَّت الله حضرة المصلح الموعود بالقول الثابت وتم حرفيا ما تنبأ به حول الذرية.

* الأستاذ نور الحق تنوير كان يكبرني ببضع سنوات فكنت أقضي معه وقتا طويلا أتعلم منه. وبفضل مجهوداته عاد النشاط للجماعة في مصر التي أُنشئت في منتصف العشرينات وكان لها مقر في القاهرة. وأثناء الحرب ولعدم وجود أي داعية اضطروا لأغلاق دار الجماعة. ولما قامت حركة الجيش عام 1952 أصدرت الثورة قراراً بحل جميع الأحزاب والهيئات والجمعيات وأعلنوا أن على جميع التنظيمات أن تعيد التسجيل كي يُعترف بها رسميا. ولم تتمكن الجماعة آنذاك من تقديم الطلب وخسرت التسجيل الذى كان معها في الماضي.

الولع بتعلم اللغـات

نويت الهجرة إلى ألمانيا والاستقرار بها فانهمكت في دراسة اللغة الألمانية والتحقت بمعهد “جوتن” للغة الألمانية في مصر ودرست لسنتين وكنت اشتري مجلتين ألمانيتين وأقرأهما بشغف. كنت مولعا بتعلم اللغات لذلك تعلمت الإنجليزية والفرنسية في المدرسة وتعلمت الإيطالية بحكم شغلي في مصر في شركة إيطالية. كان هذا الولع نابعا من اقتناعي ويقيني بأنه كما كان تلاميذ المسيح الناصري يتكلمون بألسنة مختلفة كذلك يجب أن يكون حال أتباع المسيح الموعود.

المشوار مع الأستاذ محمـد حلمـي الشـافعي

تعرفت على الأستاذ الفاضل خلال الشغل في شركة إيطالية في مصر حيث كان يعمل هناك أيضا، وكان ذلك ما بين 1962 و 1967.  كان يعمل في قسم التنقيب عن البترول وكنت أعمل في قسم النقل. بعد أن ينتهي قسم التنقيب من مهامه يُسلم المشروع لقسم النقل الذي يتولى فكَّ الأجهزة ونقلها للمستودع. وهنالك حدث يستدعي ذكره وهو أنني حينما التحقت بهذه الشركة عُينت في قسم الإنتاج ولكن بعد ثلاثة أسابيع فوجئت بنقلي إلى قسم النقل الذي معظم موظفيه من السواق الذين يصعب عليَّ التعامل معهم حيث لم يكونوا بنفس مستوى تعليمي. صمت ثلاثة أيام ودعوت الله لكي لا أُنقل إلى قسم النقل ولكن لم يحصل ذلك، فقررت أن أسعى لعل الله يبارك في سعيي وهكذا يتقبل دعائي. فقابلت مدير الحقول وطلبت منه إلغاء نقلي ولم يوافق وأخبرني أن هنالك أشياء كثيرة جدة مهمة سوف أتعلمها في هذا القسم فغادرت مكتبه سعيدا منشرح الصدر موقنًا أن الله سبحانه لم يتقبل دعائي لأن في هذا الأمر مصلحة عظيمة لي. مبدئيا كنت أظن أن قسم النقل تقتصر مهامه على سيارات نقل البضائع والمعدات ولكن اتضح لي بعد أن تسلمت مهامي أنه يجب  فك جهاز التنقيب وتحميله على الشاحنات ثم نقلها للمستودع ثم إعادة تركيبها عند الضرورة. فهذه عملية فنية دقيقة من النادر أن تجد في مصر من يعرف تفاصيلها بدقة ويتقنها، فتعلمت هذه المهنة وأحببتها جدا ومن خلالها تعلمت اللغة الإيطالية وذلك بحكم احتكاكي بالعمال الإيطاليين وتعرفت هنالك على الاستاذ محمد حلمي الشافعي حيث كان يعمل في أحد أقسام التنقيب. فكنا نلتقي بعد العمل في النادي نتجاذب أطراف الحديث وأحيانا نلعب الشطرنج. ولقد أرسلتني الشركة أنا والأستاذ حلمي لنحضر دورة في القاهرة لأسبوعين عن كيفية تعليم الكبار الذي يختلف تماما عن تعليم الصغار حيث إنك قد تُعلم الكبير شيئا له فكرة مسبقة حولها، فيصعب عليه التخلص من الأفكار المتبناة سابقا، وقد تعلمه شيئا جديدا، فلكلا الأمرين طريقة. المهم خلال الدورة كنا  نطبق عمليا على المجموعة التي تحضر الدورة ويختار كل واحد منا موضوعا يلقنه للآخرين ويلعب باقي الطلاب دور الكبار ويناقشون ويقاطعون بشدة ويجب علينا أن نتعامل معهم بكل لينٍ واحترام. ولقد اخترت موضوعا من الكتاب المقدس وتحديدا عقيدة الثالوث. ولم يتفاعل أيًّا من الحضور معي إيجابا أو سلبا ولكنني  لاحظت أن الأستاذ حلمي كان متضايقا جدًّا وكان يقاطعني ويعارضني بكل جدية لدرجة أنه كان يسأل: فعلا أنت تؤمن بهذا الكلام!! وكنت أرد عليه بالأساليب التي تعلمناها.

لقد فُوجيء الأستاذ حلمي بسماع العقائد المسيحية التي كنت أعرضها حيث إنني تعلمتها من كتابات مولانا أبي العطاء الجالندهري ومولانا جلال الدين شمس وكنت أعرف الرد عليها ولكن أنتظر الأسئلة من الحاضرين. ولكن دهشت أن الحضور لم يحركوا ساكنا. يبدو أنه لم تكن لديهم معرفة بعقائد المسيحية. أما الأستاذ حلمي فكان يعترض بشدة لأنه كان يعرف أنني مسلم ودهش لما سمعه عن المسيحية مني. وهكذا كانت بداية المشوار معه حيث أُثير فضوله حول مصدر العقائد التي كنت أعرضها خصوصا أنه كان على درجة عالية من العلم بأصول الدين ومعارفه حيث إن أباه كان شيخا أزهريا وكان الأستاذ حلمي عضوا في الجمعية الشرعية التي كانت تُعلم الدين بطريقة سلفية. ولقد شعرت خلال النقاشات معه أنني كنت وبطريقة غير مباشرة أستفزه بآرائي وعلى سبيل الذكر لا الحصر كنت أقول له أنه لا فرق بين نبي ورسول فالقرآن الكريم يقول عن سيدنا إسماعيل إنه كان رسولا نبيا. وما كان له أن يقبل هذا الرأي لخلفيته السلفية حيث كان يؤمن بأن الرسول هو الذي أوحى الله إليه بشرع وأمره بتبليغه والنبي هو الذي أوحى الله له بشرع ولم يؤمره بتبليغه. وكان ردي: ما الفائدة من إيحاء الله لنبي بشريعة ولا يبلغها، ثم سألته: أخبرني لـمَّا يزور سيدنا إبرهيم سيدنا إسماعيل عليهما السلام من منهما يتبع شريعة الآخر؟! هذه التساؤلات وأخرى عديدة لم يجد لها إجابات، فكان يغضب لأنني كنت أصغر منه سنا ومع ذلك أضعه في مواقف محرجة، لذلك تفاقم فضوله وأراد أن يعرف مني المزيد حتى وصلنا إلى موضوع وفاة المسيح. وكان قد سمع من أحد زملائي في الشغل أنني أحمدي ولكنه لم يعرف معنى ذلك وظن أنني بهائي.

مرة جاءت زوجتي لزيارتي في مقر الشركة وقابلت الحاج حلمي فقال لها: “أنا أشفق على مصطفى وآسف على الآراء التي يحملها ولكني لن أتركه حتى أعيده إلى الإسلام إذ إنه إنسان مهذب وذو أخلاق عالية وفاضلة وكلامه محترم وكل شيء به جيد ولكن كونه أحمدي هذا ليس جيدًا ولن أتركه ضالا وسأجعله يترك الأحمدية”. فأجابته: “لنرى من سيقنع الآخر؟!!”.  ففي الحقيقة شفقته عليَّ نمَّت صداقتنا.

تطورت علاقتي مع الحاج حلمي فأصبحت أذكر له الرؤى التي ينعم بها الله عليَّ وأقنعته أن الرؤي الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة حسب الحديث النبوي الشريف. فردَّ قائلا أن الوحي قد انقطع وانتهى. فكنت أشد اهتمامه لأن الرؤى التي أذكرها له كانت تتحقق. فقصصت عليه مرة رؤيا مفادها أن إسرائيل احتلت المكان الذي نجلس فيه ولذلك بدأتُ بنقل كل الكتب التي كانت عندي إلى مصر لأنني كنت واثقا من تحقق هذه الرؤيا. وحدث أيضا أنه كان يريد أن يذهب إلى إجازة سنوية لمدة أسبوعين وخلال هذه الفترة أعلنت إسرائيل أنها سترسل باخرة لتمر من قناة السويس. وكان القصد من هذا استفزار وإحراج جمال عبد الناصر الذي أرسل جيشا إلى سيناء ليُشعر العرب أنه مستعد للحرب. فقبل أن يغادر الحاج حلمي لإجازته أرسلت معه آخر دفعة من الكتب وبعض المال للعائلة وقلت له: “يا حج لا أعرف إذا كنا سنتقابل مرة أخرى أم لا؟!” فأجاب:  طبعا سنتقابل. فقلت له: لقد أخبرتك بالرؤيا التي رأيتها. فقال لي: يا أخي رؤاك كلها أضغاث أحلام وسوف أُثبت لك أنها خاطئة. فكان مقررا أن يعود من إجازته السنوية يوم 5 يونيو سنة 1967. فذهب لمقر الشركة في القاهرة وركب سيارة لتأخذه إلى السويس. وفي الطريق كان يقول في نفسه: لدى وصولي سأذهب مباشرة لمصطفى وأخبره أن رُؤاه أضغاث أحلام.. فها أنا قد عدت والتقيت بك والحرب التي قلت عنها لم تحصل. ولدى وصوله للسويس فوجئ حيث مُنع ومن معه من عبور القناة بسبب العدوان الشديد. ولقد أخـبرني فيمـا بعد أن هذه الحادثـة هـزَّت كـيـانـه!!

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك