طِيبُ الكلامِ وحُسنُ القول

طِيبُ الكلامِ وحُسنُ القول

محمد طاهر نديم

طُيبُ الكلامِ وحُسنُ القولِ فضيلةٌ قرآنية عظيمة الشأن، لأنّ المرء بأصغريه، قلبه ولسانه يبدو ضعيفاً لا حول له ولا قوة. فإذا رزقه الله تعالى قلباً طاهراً ولساناً طيب القول فقد أكرمه ومنَّ عليه بفضلٍ ورحمةٍ بالغتين. وفي هذا الصدد يقول بعض الأئمة: “طُيبُ الكلام من جليل عملِ البّر”.

لا شكّ في أن طريقة التخاطب أو أسلوب التكلّم يلعب دوراً أساسياً في تنمية المواهب لدى الإنسان كما أنه يساعد على تهذيب أخلاقه، ومن شأنه أيضاً أن يجعل الإنسان، إما محبَّباً إلى الناس أو غير مرغوب فيه عندهم. فلو تفوّه بعبارات لاذعة وكلمات نابية، ودأب على غليظ الكلام، لما وَجَدَ من يستمع إليه ويجالسه ويصاحبه ويرتاح إليه. لكنه إذا كلّم الناس بطيب الكلام وخاطبهم بكل رفقٍ ولين، ولقيهم بوجه طلق ومبتسم فسيجد الناس يلتفون حوله وكـأنهم قد تحولوا إلى آذان صاغية لحديثه.

إن التوفيق للنطق بالكلمة الطيبة إنما هي هبةٌ ربانية عظيمة الشأن، لذلك يقول الناس: الكلمات هبات والكلام هو الترجمان والدليل والبرهان على عقل الإنسان. لذلك قيل:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

إذن، فكلام المرء ولسانه يعبِّران عن شخصيته وعن كل ما يحويه قلبه ورأسه من أفكار وخواطر وما إلى ذلك. وصدق من قال: لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده: فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم.

تحريض الإسلام

لقد دعا القرآن الكريم عباد الله إلى أن يحرصوا على القول الحسن والكلام الطيب، ولقد وردت بهذا الخصوص آيات كثيرة منها قوله تعالى:

لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ (البقرة: 84).

وقوبه تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (الإسراء: 54).

كما أن النبي حثَّ على طيب الكلام وحُسن القول في كثير من أحاديثه منها قوله : “اتَّقُوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تَمرة فإن لم تَجِد فبِكلمةٍ طيِّبة” (1)

ومنها قوله في الصحيحين: “الكلمة الطيِّبَة صَدَقَة” (2)

إن للكلمة الطيبة على الإنسان وقعاً مثل وقع السحر فهي تهدئ من روعه وتريح نفسه وتبعث الطمأنينة والانشراح في صدره. كما أن الكلمة الخبيثة تؤدي إلى إيذاء الآخرين، وإلى تعكير الصفو عليهم. لذلك حين دعا الإسلام إلى طيب الكلام، منع في الوقت نفسه عن كل تصرّف قولي أو فعلي غير لائق يؤدي إلى تجريح مشاعر الآخرين والحطِّ من مكانتهم والانتقاص من شأنهم. فقد قال رسولنا الكريم “المسلم من سَلِمَ المسلمونَ مِنْ لسانِهِ ويدِه” (3)

وقال في حديث آخر:

“مَنْ كانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليومِ الآخرِ فَليَقُلْ خيراً أو فَلْيَصْمُتْ” (4)

إن الخبث والفحش والكلمات الرذيلة غير مقبولة عند الله . وقد أكد على هذا الأمر بقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (فاطر: 11)

إن الانحراف باللسان إلى ما لا يليقُ من الكلام إنما هو من اللغو الذي ينبغي الإعراض عنه. لذلك قال تعالى من صفات المؤمنين:

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (المؤمنون: 4)

فليتورع المسلم المؤمن في النطق كما يتورع في المأكل والمشرب، وليتجنب اللغو ومالا طائل وراءه، كما ينبغي أن يقول الحق الذي يرضيه تعالى، وأن يراقب كل كلمة تخرج من فيه. وقد ورد في الحديث النبوي الشريف:

“إنَّ أحدَكَمُ لَيتَكَلَّمُ بِالكلِمة مِنْ رِضوانِ الله ما يظُنُّ أنْ تَبلُغَ ما بَلَغتْ فَيَكتبُ الله لهُ بِها رِضوانَهُ إلى يومِ يَلْقَاه، وإنَّ أحَدَكُم لَيَتَكلَّمُ بِالكَلِمة مِنْ سَخَطِ اللهِ ما يَظُنُّ أنْ تَبلُغَ ما بَلَغَتْ فَيَكتُبُ الله عليهِ بِها سَخَطَهُ إلى يومِ يَلقاه) (5)

موجب النجاة

يجب على المؤمن أن يختار أجمل الكلام وأحسن الألفاظ أثناء مخاطبة الناس، ويردّ على ما يسمعه منهم بلباقةٍ وتهذيب. وأن يحفظ اللسان ويحبِسه عن المهلكات ويكفّه عن المحرّمات، فهو موجب النجاة. فقد ورد في حديث رسول الله :

عن عقبة بن عامر قال، قلت: يا رسول الله ما النَّجاة؟ قالَ أمسِكْ عليكَ لِسَانَك، ولِيَسَعَكَ بيتُكَ، وابكِ على خطِيئَتِكَ” (6)

وورد في حديث آخر عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، حدِّثْني بأمرٍ أعتَصِمُ به، قال: “قُلْ ربِّي الله ثم استَقِمْ” قلتُ يا رسول الله، ما أخوف ما تخافُ عليَّ؟ فأخذَ بِلِسانِ نفسِهِ ثم قال: هذا.» (7)

الكلام الطيب لونٌ من ألوان الهداية

النطق بقولٍ حسن وكلامٍ طيب فيه دلالةٌ على الهداية كما هو توفيقٌ من الله تعالى حسب قوله :

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (الحج: 25)

فينبغي على المؤمن أن يتحلَّى بطيب الكلام وأن يدعوا الله تعالى ليمنَّ عليه هذه النِّعمة ويزيِّنه بهذه الخصلة الفاصلة لأنها من صفات أهل الاهتداء.

طيب الكلام يستلزم الصدق

طيب الكلام يستلزم الصدق والابتعاد عن الكذب، لأن الكلمة لا تكون طيبة إلا إذا كانت صادقة. والقرآن يشير إلى ثوابٍ عظيم يترتَّب على الكلمة الناطقة بالحق فيقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ  (الأحزاب: 71 -72)

القول الأحسن يتمثّل في الدعوة إلى الله

إن القول الحسن يتمثّل في الدعوة إلى الله تعالى لقوله :

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت: 34)

ومن الواجب على الداعي إلى الله ألا يكون فظَّاً غليظاً، وينبغي أن يَلِين في الكلام ويَلطُفَ في الحوار ويُحسِن في الموعظة لقوله تعالى:

ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: 126)

طلاقة الوجه أثناء الكلام من المعروف

إن من متطلبات الكلام الطيب أن يلقى المؤمن أخاه بوجهٍ طلق بشوش وأن يلتزم الهدوء والابتسام أثناء الكلام وعدم التجهُّم والعبوس في وجوه الناس. فقد قال رسول الله :

“لا تُحَقِّرنَّ مِنَ المَعرُوفِ شيئاً ولو أنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوجهُكَ إليه مُنْبَسِط” (8)

طيب الكلام من موجبات الجنة

إذا التزم المؤمن بطيب الكلام فإنه سيصبح من ورثة الجنة، وذلك لأن الذي يطيب الكلام ويحسن القول، فمن الطبيعي أن هذا الحسن والطيبة ينبعان من طيب القول وصفاء الذهن ونقاء الأفكار، فلا بد أن يعمّ هذا الحسن والجمال جميع تصرفاته وأعماله، مما يجعله في نهاية المطاف من ورثة الجنة. فقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن المقدم عن أبيه عن جدّه أنه لما وَفَدَ على رسول الله قال: أيُّ شيءٍ يُوجِبُ الجنة؟ قال: “عَليكَ بِحُسْنِ الكَلامِ وبَذلِ الطّعام” (10)

وإذا أمعنّا النظر في الحالة  المذكور للمؤمن وجدنا الطيبة والحسن يملآن حياته بحيث لا تختلف أقواله عن أفعاله، ولا تصرفاته عن كلماته، ولا يتَّسمُ ظاهره فقط بالطيبة والحسن والجمال بل وباطنه أيضاً. فهو طيب الظاهر والباطن، وليس من أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون بل من الذين لا تعارُضَ بين قولهم وفعلهم. لذلك أعد الله لمثل هؤلاء غرفة خاصة في الجنة. وإن هذه الغرفة شفافة لدرجةٍ يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها وذلك للدلالة على أن هؤلاء كان ظاهرهم كباطنهم في الحياة الدنيوية. فقد ورد في الحديث النبوي الشريف، قال رسول الله :

“إنَّ في الجنَّةِ غُرفَةً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنهَا وبَاطِنُها مِنْ ظَاهِرِها” فقال أبو مالك الأشعري: لِمَنْ هيَ يا رسُولَ الله؟ قالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ وأَطْعَمَ الطَّعَامَ وبَاتَ والنَّاسُ نِيَام». (11)

أسوة سيدنا محمد المصطفى  

تتجلى صورة عملية رائعة لهذا الخُلق الجليل في حياة النبي . وثمَّة أثرٌ جليل حيث ورد عن ابن عباس: كان لا يُحدِّثُ حَديثاً إلا تَبسَّمَ (12)

هذا كان دأبه ليس مع المؤمنين فحسب بل مع الكافرين الأعداء أيضاً. وقد ورد في حديث

عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: “دخلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهود على رسُولِ الله فقالوا، السَّامُّ عليكم، قالت عائشة: فَفَهِمْتُها فقلتُ: وعَليكم السَّامُّ واللّعنة، قالت: فقالَ : «مَهْلاً يا عائِشة، إنَّ الله يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأمْرِ كُلِّه.» فقلتُ: يا رسُولَ الله أوَ لمْ تَسْمَع ما قالوا؟ قالَ رسُولُ الله : “قدْ قُلتُ وعليكم”

وفي رواية قال:

“مَهْلاً يا عائِشة، عليكِ بِالرِّفقِ وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ” (13)

سيرة سيدنا الإمام المهدي  

يروي السيد عبد الكريم نأنإن القول الحسن يتمثَّل في الدعوة إل ةةةةة

السيالكوتي أن (مير عباس علي) كان يعترض على سيدنا المسيح الموعود في أحد المجالس وكان حضرته يردّ عليه بكل رأفة ولين، إلا أن حضرته كلما التزم اللين والتودد – أثناء التخاطب والرد عليه – ازداد هذا الرجل حدة وحماساً، حتى بدأ يسيء إلى حضرته جهاراً. لكن حضرته بقي يردد قائلاً: “يا السيد مير! أقم معي في قاديان وسوف يُظهر الله لك آيةً ما.”

لاحظوا! كم كان حضرته يضبط أعصابه أثناء تكلمه مع أمثال الرجل المذكور آنفاً.

وهذا كان دأبه اليومي وفي ذلك أسوةً لنا.

ثمة رواية أخرى عن السيد عبد الكريم السيالكوتي يقول: كان حضرته مرةً يعاني من الصداع الشديد وكنت جالساً عنده وقد امتلأ البيت بصخب الأطفال. فقلت: هل يزعجك هذا الضجيج يا سيدي؟ قال: نعم، سوف أشعر بالارتياح إن سكتوا. فقلت: لماذا لا تأمرهم بذلك؟ فقال: قُلْ لهم أنت برفقٍ ولين، أما أنا فلا أستطيع أن أقول لهم شيئاً. (14)

يقول سيدنا المصلح الموعود :

“تعوَّدوا اللين حتى يعاملكم الله تعالى باللين. فإن كنتم تغلظون على خلق الله فستجعلون أنفسكم مستحقين ليغلظ الله عليكم. (15)

ختاماً نسأل الله لنا ولكم التوفيق بطيب الكلام وحسن القول إنه سميعٌ مجيب.

المراجع

  1. صحيح البخاري كتاب الأدب باب طيب الكلام رقم الحديث 5677
  2. البخاري كتاب الجهاد والسيَر باب من أخذ بالركاب ونحوه رقم الحديث 2989، ومسلم كتاب الزكاة باب أن اسم الصدقة يقع على كل شيء من المعروف رقم الحديث 1009
  3. صحيح البخاري كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده رقم الحديث 10
  4. صحيح البخاري كتاب الأدب باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره رقم الحديث 5672
  5. سنن الترمذي كتاب الزهد باب في قلة الكلام رقم الحديث 2324
  6. سنن الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في حفظ اللسان رقم الحديث 2411
  7. سنن الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في حفظ اللسان رقم الحديث 2415
  8. سنن أبي داؤد كتاب اللباس باب ما جاء في إسبال الإزار رقم الحديث 4408 ومسند أحمد بن حنبل ج7 ص359 رقم الحديث 20658
  9. صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء رقم الحديث 2626
  10. المستدرك للحاكم ج1 ص23 دار المعرفة بيروت
  11. المرجع السابق ج1 ص80 كتاب الإيمان والمعجم الكبير للطبراني ج3 ص301 رقم الحديث 3466 دار إحياء التراث العربي بيروت الطبعة الثانية 1984م
  12. كنز العمال ج7 ص140 رقم الحديث 18402
  13. صحيح البخاري كتاب الأدب باب الرفق في الأمر كله رقم الحديث 5678 و 5683
  14. مجلة «تشحيذ الأذهان» الشهرية الصادرة في ربوة بباكستان عدد يوليو 1999م ص31
  15. أنوار العلوم ج5 ص436
Share via
تابعونا على الفايس بوك