نظم اقتصادية ومعاناة إنسانية

نظم اقتصادية ومعاناة إنسانية

التحرير

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (النساء 54)

ليس كل شقاء تعاني منه الإنسانية وليد الطبيعة . فالفقر والجوع والمرض … إلخ مشاكل جلها من نتاج سلوكيات بشرية ظالمة غير منصفة وعلاقات تحكمها المادية الفاسدة التي لا تولي اهتماماً إلا بمصالحها الأنانية ، نافرة من كل سبل الخير والتكافل وتحسين مستوى الحياة . إن التاريخ الإنساني حافل بصراعات ومآسي كان حافز الصراع فيها الاستحواذ على الثروة والسلطة والسلاح ، وعلى هذا الأساس المغري تسابقت الأمم والشعوب لامتلاك أكبر نصيب من هذه المقومات بما يفوق احتياجاتها سعياً إلى تبوء مقعد الزعامة للسيطرة على مصير الآخرين وحاجاتهم وقدراتهم الأساسية التي هي حق من حقوقهم الإنسانية التي كفلها الخالق للبشر على حد سواء . وفي عالمنا المعاصر كان للاهتمام بالاقتصاد ونظرياته وفلسفاته وكيفيات تطبيقها وإشاعتها حيّز كبير من اهتمامات الإنسان الحديث الذي أخذت المادة لباب عقله وتفكيره فاستهوته حتى وصلت به إلى أقصى مدارج الصراع الذي نجم عنه تقسيم العالم وتأزيم العلاقات بين الشعوب على أساس الجدل القائم بين النظريات الاقتصادية المتنافرة الرأسمالية والاشتراكية ؟ وبالرغم من تجربة العالم لكلا النظريتين والمحاولات التي انصبت لترسيخها وتطبيقها فإنها قد اثبتت فشلها وعجزها في تحقيق الحلم بالسعادة والرخاء والسلام وقيم التكافل والتعاضد . ولعل سقوط النظرية الشرعية ما هو إلا تمهيد لسقوط الأطروحة الرأسمالية بدورها أيضا رغم ماتحدده لنفسها من مزاعم النصر والغلبة لفلسفتها إلى أيامنا هذه، فسقوط النظم الاقتصادية العالمية أمر محتوم وخاتمة طبيعية لنظم فرضت بالعنف على البشر بشكل مخالف لفطرتهم مما أدى إلى مشاكل مستعصية سببت أنواعاً من المعاناة التي ألقت بظلالها على شتى مناحي الحياة . فمن منا لا يدري كيف أن أكبر بلاد العالم رأسمالية وحداثة تحوي من السلبيات الاجتماعية والثقافية الهدامة مالا نجده في أفقر البلدان ؟؟ وهذا من المفارقات المثيرة للجدل والتي يتناساها العديد من البسطاء في البلدان الفقيرة الذين تحلم مخيلتهم الساذجة أن دنيا الغرب الرأسمالي حديقة غناء منشودة ، بينما الحقيقة هي شيء آخر تماما . نعم إننا نقر أن تلك البلاد قد شهدت في ظل العلوم والتقنيات والمعارف نجاحات متتالية ، لكن فيما يتعلق بمستوى القيم الاجتماعية النبيلة كالترابط الأسري ومفهوم الزواج والتربية والحياء والعفاف فيخيل عليها الفشل والانتكاس. إن طغيان المادية الرأسمالية الفاسدة أسهم في انتشار موجة الإلحاد وفقدان الشعور بالغيبيات كالوجود الإلهي والحياة بعد الموت حتى الكنائس في الغرب الرأسمالي ورجالاتها يشتكون من هذا المد الإلحادي المادي الذي لم يتمكنوا من حصر نفوذه وآثاره الخطيرة إذ كيف يمكن للمسيحية أن تحاجج هؤلاء وهي على ماهي عليه من ضعف وهشاشة وتضارب بين معتقداتها المخالفة للعقل والمنطق ؟؟ وهذا بلا شُل مما يزيد الطين بلة وفرصة سائحة للماديين الملحدين للطعن في قضية الدين والتدين والتشكيك بها ووسم الأديان بالأسطورة والخرافة. فبالرغم من كل التقدم المظهري للبلاد الرأسمالية وبالرغم من مزاعم إنجازاتها المتفوقة وفوقيتها المادية الهائلة فإن خمس سكان العالم النامي ما زالوا يعانون يومياً من الجوع وربعهم محرومون من المياه الصالحة للشرب وثلثهم ما زالوا يعيشون ما بين الموت والحياة . كل هذا يحدث في الوقت الذي تقوم فيه القوى الصناعية الرأسمالية الكبرى بإتلاف القناطير المقنطرة من منتوجاتها الغذائية الضخمة للاستهلاك والتخلص منها خوفاً من تضخم الإنتاج وركوده وانخفاض أسعاره  ؟؟ خمسة وعشرون مليون نسمة يموتون سنوياً من الجوع وسوء التغذية في العالم ، ولا شك أنهم وصمة عار على العصر او بالتحديد على حضارة امبراطورية رأسمالية لا تحمل أي مشروع إنساني أو حس أخلاقي أو مبدء ديني ، حضارة دينها السوق ومعبدها  بورصات الأسهم والعملات وسدنتها رجال المال والأعمال ! وتستمر هذه المأساة استفحالا لتؤكد فساد النظم الاقتصادية الوضيعة التي ابتدعها الإنسان على اختلاف مسمياتها واتجاهاتها وزخم شعاراتها والتي ستؤول إلى نهاية حتمية بسقوط ذريع وانهيار عظيم كما آلت اليه التجربة الشيوعية . ويخبرنا القرآن الحكيم عن ذلك المصير النهائي لمن جعل المادة غاية وجوده ووجدانه مخاطبا إياهم

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (2) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (3) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (5) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (6) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (7) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (8) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (9)} (التكاثر 2-9)

إن الإسلام هو الحل الوحيد لمشاكل الانسان وهو الضامن للرقي المادي والروحي، فتعاليمه مثلا في المجال الاقتصادي لا تميل لتأييد الرأسمالية أو الاشتراكية أو غيرها لأنه يخالف وينتقد سلبيات وانحرافات النظريات ويكشف مغالطاتها، وهذا يبرز جلياً عند المقارنة بين تعاليمه وأفكار النظريات الأخرى . للأسف الشديد كثيراً ما تقرأ في بعض الكتابات المعاصرة المتهمة بشؤون الفكر الاسلامي أن تعاليم الإسلام في كذا تؤيد هذه النظرية أو تلك إلى درجة صرح فيها هؤلاء  علناً أن الاسلام طبيعته اشتراكية بينما آخرون صرحوا أن طبيعته رأسمالية ونجد هذه الاّراء الغريبة على اختلافها نابعة من كتاب ومفكرين منحدرين من دول اشتراكية أو ليبرالية رأسمالية ؟؟ النظرة الجادة على تعاليم الدين الحنيف بنزاهة وموضوعية والعمل على إشاعة حلوله الاقتصادية ستمكن العديد من الشعوب من اكتشاف القيم العالمية البديعة للإسلام التي بإمكانها إنقاذ كل البشرية وإسعادها ، وبالتالي حل كل المشكلات الاجتماعية المرتبطة بالاقتصاد العالمي . وهذا ليس ادعاءً فارغاً ، كما أوهمت النظريات الاقتصادية شعوب الارض ولكنه حقيقة أكيدة كون فلسفة الاسلام الاقتصادية ليست وليدة فكر الإنسان بل موحى بها من السماء . عندما يتجرد الإنسان من البعد الاخلاقي والعقائدي يصير عبداً لنزواته المادية ويصير الجشع غالباً على ميوله وتصرفاته عندها يبتدئ الشقاء والفساد في حياته، قال تعالى

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (طه 125)

حيثما ولّينا وجوهنا في هذا العالم وجدناه فاقداً للسلم والسكينة . فها هي المجتمعات الرأسمالية الشرية بالرغم من إمكانياتها المادية تنخرها الجرائم والعنصرية والانتحاريات والانحرافات الأخلاقية الشاذة وغيرها من حالات فقدان السلام الاجتماعي او بحسب التعبير القرآني الفصيح الذي أسماه ب (معيشةً ضنكا). لقد خلق الله الإنسان ومنحه من الخيرات بما فيه الكفاية لمأكله ومشربه وملبسه، وهذا منذ بدء الخليقة باستخلاف البشر على الارض. فلا احتكار ولا استغلال ولا استعباد إذ أن ضرورات ومستلزمات الحياة حتى للجميع وهذا ما أكده الله :

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (طه 119).

وفي هذا التصريح القرآني إشارة إلى معنى الحضارة الحقة المدنية الفاضلة القائمة على ضمان ثلاث عناصر هامة للإنسان وهي المأكل – الملبس – المسكن . إن مشكلة البشرية ومسلسل معاناتها المرير هو في غياب هذه المقومات نتيجة علاقات ظالمة ونظم اقتصادية غير عادلة، ولكشف مدى هذا الخلل يجدر بِنَا الإشارة إلى أن ثمانين بالمائة من الموارد الطبيعية للعالم تقع تحت سيطرة واستهلاك عشرين بالمائة من سكان العالم ؟ وهذا ما أكدته العديد من الدراسات . وتستمر هذه الحقائق وتفرض نفسها كحقيقة معاشة في عالم مادي سيطرت عليه القوى الرأسمالية وأجبرته على الخضوع كراهية كي يزداد فيه تقدما والمتأخر تقهقراً وتخلقاً.

إننا عبر منبر “التقوى” نوجه جميع المهتمين بالشؤون الاقتصادية من باحثين وأساتذة وطلبة إلى دراسة فلسفة الاقتصادية الإسلامي الذي في مبادئه تكمن حلول جميع مشاكل العالم. فالعمل من أجل أشاعته وتأكيده كدليل للانعتاق خطوة أولى في الطريق المؤدي إلى المجتمع العالمي السعيد اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقياً.

Share via
تابعونا على الفايس بوك