الفردوس المفقود

الفردوس المفقود

هاني الزهيري

  • أمل في تصحيح تجربة!
  • القرآن الكرم وطريق الفردوس المفقود
  • رؤيا موسى ورواية التوراة لقصة آدم
  • لماذا نسمى بني آدم؟
  • عناصر وأمثلة إيجاد الفردوس المفقود
  • أساطير المنقذ الوهمية

__

في قلب كل إنسان حنينٌ إلى الماضي السعيد، في نقوش الحضارات القديمة وصفٌ للزمن البعيد، حيث كان الإنسان يحيا سعيداً، لا شقياً ولا حزيناً. حنينٌ يجر قلوبَ المتعبين إلى خيال مفتوح، فيه تسلية وتضميد للجروح. وأملٌ يتجدد في قلوب المؤمنين في أن هذا العصر السعيد سوف يعود عندما يأتي المخلّص، المخلّص الحكيم العادل المصطفى القوي المنُقذ.

يبدو أن دلمون الواقعة عند فم الأنهار، أو اتلاتنس القارة المفقودة، أو مملكة ساتورينا الواقعة في أواسط إيطاليا، أو جنة عدن التي سكنها آدم ، كانت ولا تزال نماذج الحياة الفردوسية التي سادت في الزمن القديم. ذلك العصر الذي توارى بفعل خطيئة معينة.

وفي الأديان الإبراهيمية تظهر قصة آدم النبي على أنها التجربة الناجحة في إقامة الحياة الفردوسية على الأرض، والتي انتهت بخطيئة من إنسان لم يحفظ وصية الله وانساق خلف زوجته التي أغرتها الحية الماكرة.

ولكنّ الإسلام العظيم لا يعيد على مسامعنا هذه القصة التي تثير الغضب والحُنق على آدم حتّى إن موسى في محاججته الشهيرة لآدم قال له أنت الذي أخرجتنا من الجنة، فلم يجد آدم ما يرد به على موسى إلا أن قال أن هذا أمر قد قدّره الله عليه قبل خلق العالم.

إن القرآن الكريم لا يردد قولَ الشاعر حافظ إبراهيم:

جنيتُ عليكِ يا نفسي وقبليعليكِ جنى أبي فدعي عتابي

إن العبرة التي يقدمها القرآن الكريم من خلال روايته لقصة آدم هي أن الحياة الفردوسية ليست مستحيلة، وقد تحققت من قبل على يد آدم النبي ، والقرآن الكريم يوضح الطريق الذي نستعيد من خلاله الفردوس المفقود، فكل نبي هو آدم، وهو فرصة جديدة لاستعادة الحلم الضائع، وكل شيطان يبذل كل جهد لمنع كل آدم من استعادة الفردوس المفقود.

رؤيا موسى

وردت قصة النبي آدم في القرآن الكريم، وفي التوراة أيضا بصورة مجازية، وأصل تلك القصة هو رؤيا رآها النبي موسى ، فقد جاء في كتاب (إبيجرافا وأبوكريفا العهد القديم)، وهو كتاب يحتوي على مخطوط يوناني لقصة حياة آدم وحواء حيث جاء فيه تحت عنوان رؤيا موسى: “هذه هي قصة رواية وحياة آدم وحواء، أول المخلوقات قد أظهرها الإله لعبده موسى، عندما تلقى من يدي الرب ألواح الشريعة بتوصية من الملاك ميخائيل”.

ويتناول هذا المخطوط أحداث قصة آدم كالتي وردت في التوراة ولكن بمزيد من التفاصيل. أي أن قصة آدم بهذه الصياغة هي عبارة عن رؤيا رآها النبي موسى وبالتالي لا يمكن أن تُؤخذ بحرفيتها، وإنما اختصرت الرؤيا قصةَ النبي آدم في صورة مجازية بليغة مختصرة. وعن المجاز في كلام الأنبياء يقول ابن سينا رحمه الله في الرسالة السادسة من رسائله:

“وقيل إن المشترط على النبي أن يكون كلامه رمزاً وألفاظه إيماءً وكما يذكر أفلاطون في كتاب النواميس إنّ مَن لم يقف على معاني رموز الرسل لم ينلْ الملكوت الإلهي”.

لقد عبّر الله عن حال أهل الأرض عند بعثة نبي بحسب الطبيعة الأصلية فيهم. بمعنى أن وصول إنسان إلى أن يصبح صورة الله يستتبع بالضرورة وجود أناس يصبحون صورة للملائكة، ووجود أناس يصبحون صورة للشيطان.

أي أن كلام الله   مع الملائكة وأمره لهم بالسجود للنبي آدم وقيامهم بالسجود له، يعنى أن الناس الذين لهم طبائع ملائكية أو هم صورة للملائكة سوف يسجدون لصورة الله أي سيطيعون نبيهم ويتبعونه.

وأما رفض الشيطان السجود لآدم ، فيعني أن الذين هم صورة للشيطان، سوف يعصون صورة الله وهو النبي المرسل لهم.

وهذه الصور الثلاثة الإلهية والملائكية والشيطانية، أي الأنبياء والمؤمنون والكافرون، مستمرة إلى يوم القيامة. فالأنبياء لن ينقطعوا من الدنيا ولا المؤمنون ولا الكافرون. ومن هنا نستطيع أن نفهم قصة آدم بمعنييها المادي والروحاني.

لماذا سمّانا الله بني آدم؟

إن كل أمة تحن إلى العصر الذي عاش فيه نبيُها وتعتبره عصراً ذهبيًا، ويغبطون مَن عاصره وعاش معه.

إن عظمة النبي آدم تكمن في أنه الإنسان الأول الذي غرس الحياة الفردوسية على الأرض، وجعل آلافاً من الأجيال تحنُّ إلى عصره الذهبي، نحن نحنُّ إلى العصر الذي عاش فيه آدم كما يحنُّ أحدُنا إلى أيام أبيه وأمه عندما كانا على قيد الحياة. وسمّانا الله بني آدم ليلفت انتباهنا إلى الطريق الصحيح لاستعادة الفردوس المفقود، وهو طريق الأنبياء والوحي الإلهي، ولا يمكن استعادة الفردوس المفقود بعيداً عن هذا الطريق.

السبيل إلى استعادة الفردوس المفقود

التعاليم الإلهية هي السبيل للوصول إلى الفردوس، إن كل نبي يرسله الله هو فرصة لاستعادة الفردوس المفقود، وتتكرر معه قصة آدم وعناصرها هي:

إله – إنسان- ملائكة – جنة – شيطان – شجرة محرمة

الإله يصطفي الإنسان ويوحي إليه بالشريعة التي تؤسس الجنة، ويأمر الملائكة السماوية والأرضية بالإيمان به. ويحاول الشيطان وجنوده إفشال مساعي النبي، ولكنّ النبي ينتصر عليه ويؤسس الفردوس.

وبعد فترة من وفاة النبي المؤسس يأكل أتباعه من الشجرة المحرمة ويخرجون من الجنة. عندئذ يخلق الله آدماً جديداً وتبدأ فرصة أخرى لاستعادة الفردوس المفقود.

نوح

لقد كان نوح هو آدم عصره المكلف باستعادة الفردوس المفقود، وقام الشيطان وجنوده بمحاربة آدم الجديد، ولكنّ آدم الجديد-أي نوح – انتصر عليه، وبعد رحلته في السفينة يوم الطوفان، استعاد مجددًا الفردوس المفقود، وعاش قومه في الجنة ألف سنة إلا خمسين عاماً.

ولكنهم أكلوا من الشجرة المحرمة- شجرة الخطيئة والشرك بالله الواحد- وخرجوا من الجنة. فخلق الله آدماً جديداً ليمنحهم فرصة أخرى لاستعادة الفردوس الذي فقدوه.

موسى

وفي موسى مثال آخر، فقد كان هو أيضا آدم جديد، وفرصة جديدة. ونجح موسى في مهمته وتلقى ألواح الشريعة التي تعيد الفردوس لبني إسرائيل مرة أخرى، كما قال

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (المائدة 67).

وأكل بنو إسرائيل من الشجرة المحرمة فبعث الله فيهم آدماً جديداً ثم أدماً جديداً ثم آدماً جديداً، إلى أن فسدوا تماماً ولم تعد فيهم بقيةُ من صلاح، فانتقلت المهمة إلى آدم جديدٍ من أمة أخرى وهو مُحَمّد .

مُحَمّد

الآدم العظيم، والنبي الكريم، دُرّة التاج والنعيم المقيم، تلقى القرآن الكريم واستعاده بكل قوةٍ الفردوسَ القديم، واستمرت الجنة من بعده إلى أن أكل الناسُ من الشجرة المحرمة وقتلوا الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فضاع الفردوس إلى ألف عام أو يزيد.

أفلا يبعث الله فيهم آدماً جديداً ليمنحهم فرصة أخرى كما فعل مع الأمم من قبلهم وهم اتباع خير المرسلين؟

لقد نجح جميع الأنبياء في استعادة الفردوس الذي أسسه آدمُ ولم يفشل منهم واحد. لأن الطريق إلى الفردوس هو الوحي الإلهي.

المحاولات البشرية لاستعادة الفردوس المفقود

لم يخل عصر من العصور من قيام رجالٍ يسعون لاستعادة الفردوس المفقود بدوافع شتى، منها ما هو دنيوي ومنها ما هو ديني، ولن نذهب بعيداً في أعماق التاريخ، ولكننا سوف نكتفي بمثال من العصر الحديث.

كارل ماركس

كارل ماركس الذي وُلد في عام 1818م وأسس الشيوعية الماركسية وأطلق وعوداً بالعدالة الاجتماعية وبمجتمع خالٍ من الطبقات، وبدولة العُمّال. ظهر ماركس كما ظهر جميع المنقذين الأسطوريين في التاريخ، مصطبغا بصبغة العادل والمصطفى والمبشّر.

يقول ميرسيا إلياد في كتابه الأساطير والأحلام والأسرار:

“وإن العذابات والآلآم التي يكابدها المنقذ مدعوة لأن تُحدث تغييراً في البنية الإنطولوجية للعالم. على هذا النحو، فإن مجتمعاً بدون طبقات يدعو إليه ماركس، وما ينتج عنه من زوالٍ للتوترات التاريخية، يجد له السابقة الأكثر صواباً في أسطورة العصر الذهبي”.

فهل نجح ماركس في تحقيق ما قام من أجله؟ هل نجحت أفكاره ونظرياته التي أسسها من أجل سعادة العالم وتحقيق المساواة والحرية بين البشر؟

لم ينجح ماركس في دعوته لأنه لم يكن مؤيداً بالوحي الإلهي.

حسن البنا

والمثال الثاني الذي نضربه على محاولات استعادة الفردوس المفقود بالجهد البشري فقط هو حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين.

حسن أحمد البنا المولود في عام 1906م، رأى أحوال المسلمين المتدهورة من حوله، ورأى في نفسه الرجل الذي يصلح لقيادة المسلمين للخروج بهم من كبوتهم، وعبور اليّم بهم كما عبر موسى اليمَ ببني إسرائيل. أسس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928م ووضع لها أصولا عشرين. كانت أصوله العشرين وخطاباته-في وجهة نظره- تمثل التعاليم التي سوف تقود العالم إلى النور. عاش حسن البنا مرشداً ومعلما لاتباعه حتى تم اغتياله في عام 1949م.

واستمرت الجماعة من بعده، مرشدًا يخلف مرشداً. وهذه التعاليم التي رأى فيها نوراً للعالم، خرج من عباءتها التكفيريون والإرهابيون الذين عاثوا في الأرض فساداً، في رحلة إرهابٍ طال مداها، من أقصى الأرض إلى أقصاها.

إلى أن كانت النهاية في عام 2013م بما توالى من أحداث سياسية أطاحت بهم من قمة السلطة في مصر إلى غياهب السجون.

أساطير المنقذ

من هذين المثالين يتضح لنا أن أسطورة المنقذ الحكيم البطل لم تختفِ من العالم، بل لا تزال تجدد في كل عصرٍ إذا كان بعيداً عن وحي الله . وتنشأ أسطورة المنقذ في نفوس أشخاص يريدون النبوة، ويرون في أنفسهم أنهم يستحقونها، ولكنهم لا يستطيعون منحها لأنفسهم، فينتحلون أدواراً تشبه أدوار الأنبياء، ويحيطون أنفسهم بهالة من القداسة لا تقبل النقد، وهالةٍ من العصمة لا تقبل الخطأ، ويرون أن أفكارهم هي السبيل الوحيد لإنقاذ العالم.

يفعلون هذا وكأنهم قد حصلوا على تفويض إلهي لتنفيذ أفكارهم التي لا تحتمل الخطأ.

إن محاولة استعادة الفردوس المفقود بعيداً عن الوحي الإلهي، يتحول إلى استعادة الفكر الاسطوري حول ظهور البطل الشعبي العادل والحكيم، الذي بقوة سيفه يقضي على قوى الشيطان ويؤسس مملكة الله على الأرض.

قال:

لَقَدْ كَانَ لِسـَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَـاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَـازِي إِلاَّ الْكَفـُورَ (سبأ 16-18)
Share via
تابعونا على الفايس بوك