ضرورة المادة في الحياة و حظ المؤمن منها

ضرورة المادة في الحياة و حظ المؤمن منها

  • فتنة المادة تعم الأرض وتفتك بالبشر
  • سبيل النجاة من جذبات تأثيرات المادة
  • المدى الصحي لارتباط الإنسان بالمادة
  • المنهج القرآني في التوجيه

__

لا شك أن عصرنا الحديث يتسم بالسرعة وتُقاس فيه الأمور بمنظار الربح والخسارة فلا يبالي متخذو القرارات بالقيم والأخلاق وهذا ينعكس سلبًا على الإنسان المعاصر الذي أفرط في تلبية حاجاته المادية وهمَّش حاجاته الروحية. ولا تظن أن هذا الداء متفشٍّ في العالم الغربي فحسب بل إنه وللأسف الشديد قد ألقى بظلاله على كثير من البلاد الإسلامية لإفتتانها بجنّة الدجال الوهمية.

المرء الذي لا يقيِّم نفسه ولا يراجعها ينقاد حتمًا إلى وَحَل الغيِّ والضلال حتى يستعصي عليه أن يفكر في البحث عن مخرج. إنها حقًّا فتنة يتَطَايَرُ شَذاها في الجهات الأربع حيث ألْقَتْ بظلالها على الأرض كلها فقد

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ .

ولا يختلف اثنان في أن للفتن والآفات مضاعفات على بني الإنسان. فالقحط الروحي الذي يشهده عالمنا اليوم هو داء روحي فتاك لا سبيل للوقاية منه إلا بذكر الله الذي به تطمئن القلوب والهجرة إليه . ومما لا شك فيه أننا في أمسِّ الحاجة في زماننا هذا لمعالجة النفس مما يعلق بها من ميول وأهواء، لذلك ينبغي على الإنسان أن ينظر إلى أمراضه الروحية بنفس الجدية التي ينظر بها إلى علله الجسدية التي تفزعه فيهرع مسرعا إلى الطبيب. فالمرض المادي إنما يهلك الجسد وحده بينما الأمراض الروحية تهلك الروح والجسد معا. ولعل أولى الخطوات في هذا المضمار أن يقوم المرء بتحليل ومراجعة علاقاته الشخصية مع محيطه وبيئته، لأن الميول والأهواء غالبا ما تنبعث من مؤثر خارجي أو داخلي فيسري بعد ذلك تأثيرها السام ظاهرا وباطنا، فيؤثر الشيطان  على سلوك الإنسان قولاً وفِعلاً.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو ما السبيل إلى تخليص النفس من جذباتها والرقي بها؟ وكيف يمكن أن يلبي الإنسان حاجاته المادية دون أن يغوص في عالم المادة وهوتها السحيقة؟

إن أولى الطرق لتخليص النفس من جذباتها أن يتحرر الإنسان من عبودية النفس الأمارة التي تستعبده وتجعله يخلد إلى الأرض. فتذهب الأدناس وتتَبَرّأ النفس مِن الأرجاس وتغتسل من الأدْرَانِ والأوساخ  التي طالما حجبت الإنسان عن خالقه. وما لم ينكسر هذا القيد لا يمكن أن يرتقي الإنسان بنفسه إلى الحضرة الأحدية. كما لا يمكن أن تتوطد صلته بالله دون العبودية الكاملة والاستسلام التام.. ومن الطبيعي أن من صفات العبودية أنه من كان عبدا لأحد كان تابعا له، وعبودية الإنسان لربه لا بد لها من طاعة ومحبة. وبالتالي فإن العمل بتعاليم الله تعالى يقتضي عشقه والاصطباغ بصبغته قولاً وفعلاً. فبالعشق ينبعث في نفس المؤمن حماس وجنون لدرجة يهون كل أمر شاق أمامه حتى يصل إلى محبوبه. كما أن العاشق الصادق لا يتوقف عن السعي وراء هدفه ولو أفنى في ذلك حياته، هذا هو حال المؤمن السالك سبيل الوصال بالله!

أما الأسوة العملية فلا بد لها من نموذج كامل يقتدى ويقتفى أثره، فالأسوة لا تتحقق إلا في إنسان كامل بلغ منتهى العروج الروحاني وهذا جلي في شخص سيدنا ومولانا محمد المصطفى   ، الذي قال في حقه

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ .

فلتكن صلتنا بالله وطيدة وليكن سعينا طبق سنته الطاهرة واقتفاء أثره المبارك عليه أفضل صلاة وسلام.

ولفهم كيفية تلبية متطلباتنا المادية دون أن نتركها تؤثر فينا، نود أن نلفت انتباه القارئ الكريم أن ما نود توضيحه ليس دعوة إلى الزهد والتبتل على نهج أدعياء التصوف الذين انقطعوا عن الأخذ بالأسباب فراحوا يتكففون الناس طعامهم وشرابهم! أو أولئك الذين عزفوا عن الزواج وعطلوا النسل رهبانية ابتدعوها. إن الزهد ليس معناه أن يُهمل الإنسان حاجاته ودنياه، إذ لا بد أن تكون صلة بين الإنسان والمادة لأنه يستحيل عليه أن يعيش ويحيى وهو مقطوع الصلة بالعالم المادي الذي خُلق منه.. ويكفي أن نعلم كيف أن رسل الله وأنبياءه كان لهم أيضا اتصال بالجوانب المادية في الحياة حيث كانت لهم أزواج وذرية وأنهم عليهم السلام على عظيم قربهم من الله كانوا أيضا يراعون متطلبات الرزق، فكانوا يمشون في الأسواق لقضاء حوائجهم ويختلطون بالناس.. وما كان لكل هذه الجوانب المادية هدفا وغاية تبعدهم عن الغاية المثلى التي هي مدار خلق الإنسان، وإنما كانت صلتهم بعالم المادة بما يتيح لهم فقط سداد متطلباتهم الأساسية الطبيعية للحياة، ولم تكن الماديات هدفا أو غاية لهم يحيون من أجلها!..

فالمادة فضيلة لمن خاف مقام ربه وأنفقها في ما يرضيه عز وجل. وهي في حد ذاتها رذيلة لمن أساء إنفاقها في ما يغضبه .

فمن الحكمة أن تكون صلة الإنسان بالمادة في الحياة تماما كصلة السفينة بالماء، لما يوجد بينهما من تلامس سطحي،  حيث تكون العبرة أنه لا يمكن تصور سفينة من غير ماء، كما لا يمكن تصور حياة الإنسان دون أن يحتك بالمادة. كما هنالك إشارة لطيفة في هذا التشبيه وهي أن تكون صلة الإنسان بالحياة المادية أيضا سطحية بحيث لا تغمره وتغرقه في ماديتها وأن يكون حظه منها مقتصرا على ما هو ضروري ولا بد منه لقضاء الحاجة الملحّة والحفاظ على النفس.

وفي ضوء القرآن الحكيم نجد هذا المنهج جليا في آيات كثيرة تحث على الوسطية والاعتدال في المأكل والمشرب وغيرهما، كما نهى القرآن عن التبذير والفساد بشتى صوره وأشكاله كما حث على اكتساب الخيرات لكن مع استيفاء حقوقها من زكاة، وبالإنفاق من كل ما رزقنا الله من نِعم، وكأن ذلك كله ترويض للنفس لفهم العلاقة بين ما هو مادي وروحي وما يجب أن يكون بينهما من توافق وانسجام دون أن تغوص النفس في سطوة المادة .. فالمادة فضيلة لمن خاف مقام ربه وأنفقها في ما يرضيه عز وجل. وهي في حد ذاتها رذيلة لمن أساء إنفاقها في ما يغضبه .

هدانا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وآخر دعوانا أن  الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد المصطفى الصادق الوعد الأمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك