التوبة.. مفهومها.. شروطها

التوبة.. مفهومها.. شروطها

هاني الزهيري

  • آمنت بلساني، فماذ بعد؟!
  • نتائج التوبة
  • كيفية تحقق التوبة الحقيقية
  • دور الشيطان لعرقلة التوبة

__

التوبة هي دليل الإيمان باليوم الآخر، ولا يكون المرء مسلماً إلا إذا آمن باليوم الآخر. وهو يوم الحساب، يوم الصراط والميزان، يوم تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه، يوم كان شره مستطيراً. وليس كل من يدعي الإيمان باليوم الآخر فهو مؤمنًا به حقاً، قال تعالى

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (البقرة 9)

والمتدبر في هذه الآية الكريمة من حقه أن يتساءل، كيف يقولون نؤمن بالله واليوم الآخر، وفي نفس الوقت يقول الله بأنهم ليسوا بمؤمنين؟

هل يظلمهم الله عندما ينفي عنهم الإيمان باليوم الآخر؟

والجواب: إن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولكنه نفى عنهم الإيمان باليوم الآخر لأنه لم تظهر فيهم علامات الإيمان باليوم الآخر، ومن أهمها التوبة عن الذنوب.

وحقيقة التوبة أنها ترتبط بالحب الإلهي. فمن وجد اللهَ وعرفه وأحبه، يندفع تلقائياً نحو تعاليمه ليعمل بها. وتعساً للمرء الذي عرف طريق الله ولم يسلك فيه. ومَن لم يسلك في طرق الإنابة والصلاح فما وجد اللهَ ولا عرفه.

يقول المسيح الموعود “والتوبة الحقيقية تجعل الإنسان محبوبًا لدى الله تعالى، وبسببها يوفَّق الإنسانُ للتقوى والطهارة، كما وعد الله تعالى في القرآن الكريم في قوله:

إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ..

أي أن الله تعالى يحب الذين يقومون بالتوبة ويتطهرون مما يدفع إلى الذنوب من أهواء. الحق أن التوبة لو تمت بحسب مقتضياتها الحقيقية لبُذرت في الإنسان لتوِّها بذرةُ الطهارة التي تجعله وارثًا للحسنات. لذلك قال النبي أيضا: التائب من الذنب كمن لا ذنب له”. (الخزائن الدفينة)

ولا يحب اللهُ إنساناً إلا إذا بدأ الإنسانُ بالحب أولاً، قال تعالى

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران 32)

وكلامنا محصور في إطار الرحيمية، بمعنى أن الله يحب الإنسان وينعم عليه من غير جهد من الإنسان، وهذا يُسمى حب الرحمانية، وهو يشمل جميع الناس.

أما الحب المنبثق من الرحيمية، فهو الحب الذي يختص به المؤمنين من الناس، وهذا يأتي بعد الإيمان والعمل الصالح.

كيفية تحقيق التوبة الحقيقية

ولا تتحقق التوبة الحقيقية إلا بقتل النفس، قال تعالى

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة 55)

قال المصلح الموعود اقتلوا أنفسكم أي ليقتل بعضكم بعضًا. وقيل عَنى بقتل النفس: إماتة الشهوات. يقال: قتلت الخمرَ بالماء إذا مزجته به. قتلت فلانًا وقتَّلته إذا ذلّلته. (التفسير الكبير- سورة البقرة)

ومن العوامل التي تساعد الإنسان على التوبة:أولها قتل الغفلة، وهو أن يدرك الإنسان ويقتنع تماماً بأنه سوف يموت في يوم من الأيام. قال تعالى

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (المؤمنون 16-17)

ربما تبدو بداية كلامنا غريبة! وهل هناك مَن لا يقتنع بأنه سوف يموت؟صحيح أن كل إنسان يعرف أنه سوف يموت، ولكن إلى أي درجة استقر ذلك في أعماق نفسه وانعكس على سلوكياته؟

ولذلك نجد تلك اللمحة البلاغية الراقية في قوله تعالى

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ

واستخدامه لأسلوب التوكيد بـ (إن) وللام التوكيد. فقد أكّد إثبات الموت تأكيدين – وإن كان مما لا يُنكر- وكأن المخاطبين يبالغون في إنكار الموت، وذلك لتمادي الناس في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعد الموت. وكأن الله يريد أن يقول إن كنتم موقنين بالموت فكيف تعيشون في هذه الغفلة؟ إن حياة الغفلة والابتعاد لا تتوافق مع الضيف الذي ينتظر الرحيل.ثانيا الاعتراف بالخطأ، فإذا لم يعترف الإنسان بخطئه فعن أي شيء يتوب؟ قال تعالى

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة 103)

فالإنسان الذي لا يرى نفسه على خطأ، ويرى نفسه مصيباً فيما يفعل، فلماذا يتراجع عن الصواب إذاً؟

يجب على الإنسان دائما أن يضع نصب عينيه أنه ربما يكون على خطأ. يقول الله

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ (سبأ 47)

احتوت هذه الآية الكريمة على فكرة الاعتراف بالخطأ، حيث يطلب الله من الرافضين للإسلام أن يتفكروا ويتدبروا وأن يضعوا احتمال كونهم على خطأ ضمن حساباتهم وأن يفكروا بشكل محايد، فإذا تبين لهم صدق محمد فقد رجح احتمال كونهم على خطأ وأصبح حقيقة.

ولا يُشترط أن يكون الاعتراف بالخطأ أمام الناس، يكفي أن يكون بين المرء وقلبه. وكلماتنا في هذه النقطة لا تنطبق على الذنوب المعروفة التي لا يختلف عليها أحد. إنما نتكلم عن تلك الذنوب التي غالبا ما يرى فيها الإنسانُ نفسه على صواب.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك هو قطيعة الرحيم بين الأقارب، فقطيعة الرحم من الذنوب العِظام.

مَن يرتكب هذا الذنب وهو يرى نفسه على خطأ؟

كل طرف يرى نفسه على صواب، والطرف الآخر هو المخط. ولو أن كل طرف عمل بمقتضى هذه الآية الكريمة، ووضع احتمال كونه على خطأ بين يديه، وقام يتفكر، ثم جلس يتدبر، ثم استرجع واستغفر، عندئذ يكشف الله له الحق من الباطل.وهذا مجرد مثال، والأمثلة على ذلك كثيرة. فالإنسان الذي يتعرض لمشكلة ما، ثم يدخل غرفته ويسأل الله أن يهديه سواء السبيل، ويميز له المخطئ من المصيب. لا ريب أن المرء الذي يفعل ذلك، إنما يفعله بما في قلبه من إيمان باليوم الآخر، فإنه يخشى أن يصيب ذنباً فيؤاخذ به يوم القيامة.

ثالثا قتل الكبْر. الكبْر حماقة يرتكبها المتهورون الذين يقتلون أنفسهم من أجل لحظة استعلاء خادعة.

فالمتكبر كأنما يقف على جبلٍ عالٍ، يرى الناس صغاراً، وهم يرونه صغيرًا. والكبْرُ من أعظم الذنوب، كما أنه جلمود صخرٍ على طريق التوبة. يقول الله

فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (النحل 30).

هذا جزاء المتكبرين الممتنعين عن التوبة، الكارهين للحق والتواضع. ومَن يستمر في كبْره يتحول في نهاية أمره إلى إبليس، فالكبْر هو الذي جعل إبليسَ إبليساً، قال تعالى

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (البقرة 35)

ما الذي يريده المؤمن من الحياة؟ أيريد رضا الله؟ أم يريد رضا نفسه؟

إذا استكبر المرء ورفض الاعتراف بالحق، فإنه بذلك يكسب شهادتين، شهادة من الناس وشهادة من الملائكة. فالملائكة التي تكتب الأعمال سوف تكتب في كتابه بأنه استكبر وأبى أن يعترف بذنبه ويتوب عنه. ويوم القيامة سوف يشهد عليه الناس بأنه كان متكبراً لا ينصاع إلى الحق. فبأي حجة يدفع عن نفسه شهادة الشهود؟ حقاً الكبْرُ مفتاح الهلاك.رابعاً قتل اليأس من رحمة الله ، من الأثقال التي يضعها الشيطان على كاهل الإنسان هو اليأس من رحمة الله ، وأن الله لن يغفر له. ولو تُليت عليه الآية الكريمة

قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله ِ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر 54)

لوجدته في ريبه متردداً وكأنه لا يثـق بأن هذه الآية الكريمة مـن كلام الله

قول المسيح الموعود مخاطباً ربه :

تعفو عن الـذنب العـظـيم بتـوبةٍ

تُنجي رقابَ الناس مِن أعبـاءِ

ويقول أيضا:

فلا تقـنطْ مـن الله الرءوفِ

وقُـمْ وبتـوبةٍ نحـوي تعالِ

قرَينا مِن كمال النصح فَاقْبَلْ

قِـرانا بالـتهـلّل كـالرجـالِ

وخيرُ الزاد تقـوى القـلب للهْ

فـخُـذْ إيـاه قبـل الاِرْتحـالِ

وفـكِّرْ في كـلامي ثم فـكِّر

ولا تسـلُكْ كمـرءٍ لا يـبالي

ماذا يريد الله من الإنسان؟

إنما يريد له الخير والصلاح والمحبة، ولا يَكره الله الإنسان بحد ذاته، وإنما يكره سلوكياته الخاطئة، فإذا تخلى الإنسان عن السلوكيات الخاطئة وعمل سلوكاً حسناً، فإن الله يقبله ويعفو عما سـلف.

كل طرف يرى نفسه على صواب، والطرف الآخر هو المخطئ. ولو أن كل طرف عمل بمقتضى هذه الآية الكريمة، ووضع احتمال كونه على خطأ بين يديه، وقام يتفكر، ثم جلس يتدبر، ثم استرجع واستغفر، عندئذ يكشف الله له الحق من الباطل

والشيطان يحب ويعمل على إبعاد الإنسان عن ذكر الله وعن الصلاة، ويحاول أن يأتيك من كل طريق، ويطرق إليك كل باب، فإن لم يجد لك باباً، أتاك من باب اليأس من رحمة الله .

ولو أطعتَ الشيطان ويئستَ من رحمة الله ، فإنك تستمر في طريق الضلال الذي يؤدي بك إلى الهلاك. فماذا ربحت؟

يقول الله

وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (الحجر 57)

لماذا لا يقنط المؤمن من رحمة ربه، بينما يقنط الضال من رحمة ربه؟لأن البناء قائم على معرفة الله ، فالذي عرف اللهَ ، فقد عرف أسماءه وصفاته ، وقد عرف بأن الله إله رؤوف رحيم، غفور حليم، فآمن به على صفاته تلك. لذلك لا يقنط المؤمن من رحمة ربه وعفوه.أما الضال فهو الذي لا يعرف له ربّاً، وإن قال بأنه يؤمن بوجود الله ، فإنه يؤمن بوجود إلهٍ لا يعرفه. ولذلك فإنه يقنط من رحمة الإله الذي لا يعرفه، لأنه لا يعرفه.

صورة الله هي صورتك أمام نفسك

وحقيقة الأمر أن صورتك أمام نفسك، هي هي صورة ربك في عينيك. فالإنسان الذي يرى في نفسه قدرةً على التسامح، والعفو، والمحبة، والعدل. فإنه يرى الله بهذه الصورة.

والذي لا يجد نفسه قادراً على التسامح والعفو والمحبة، فإنه أيضا يرى الله بهذه الصورة. لذلك يقول الله في الحديث القدسي “إنَّ اللهَ تعالى يقولُ : أنا عندَ ظَنِّ عبدي بي ، إن ظَنَّ خيرًا فلهُ، وإن ظَنَّ شرًّا فلهُ” (مسند أحمد)

فمن أحسن الظن بالله قد هُدي إلى صراط مستقيم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك