القصاص في القتلى تعليم قرآني شامل وكامل
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (179)

شرح الكلمات:

القصاص-هو أن يُفعل بالمرء مثل ما فعله من قتْل أو قطْع أو ضرْب أو جرح (اللسان). القصاص القتل بالقتل والجرح بالجرح (تاج العروس).

تخفيف –يعني التخفيف هنا العفو.

التفسير:

يظن البعض جهلا منهم أن القرآن لم يُقدِّم أي تعليم أساسي في صدد القتل، بل أعاد كل ما قيل لليهود في التوراة عن القتل.. مثلا كقوله تعالى (أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) (المائدة: 46).

ولكنه ظن ناتج عن قلة التدبر. إنني أرى أنه ما من مسألة أو قضية في حياة الناس. دينية أو سياسية أو مدنية أو عائلية.. إلا وتناولها الإسلام بتوضيح وصراحة. صحيح أنه يذكر في بعض المواضع ما ورد من تعليم في الأديان السابقة، ولكنه أولا يلقي بنفسه الضوء على تلك القضية، ويقدِّم تعليما كاملا جامعا للناس بشأنها، ثم إتماما للحجة على أهل الأديان الأخرى وإخجالا لهم.. يقدم ما ورد في كتبهم من تعاليم بصددها، ذلك ليوقظ الإحساس في قلوبهم.. كيف أنهم اتخذوا تعاليم دينهم ظهريا رغم انتسابهم إليه.

وهذا هو نفس الحال هنا. فتعليم القصاص الذي يقدمه القرآن هنا لبني نوع الإنسان لم يأت به تقليدا لما في التوراة، وإنما هو حلقة من سلسلة الأحكام التي بدأ ذكرها في الركوع الحادي والعشرين (الآية169)، فقد قال الله في الآيات السابقة إن من علامات المؤمنين الكمّل في الإيمان أنهم الصابرون في البأساء والضراء وحين البأس.. أي أنهم يصبرون في الضائقات من الفقر والمجاعة، كما يتجلدون إزاء الشدائد البدنية والأمراض، ولا يرتعبون من لقاء العدو وإن قُتلوا في الحروب. وينشأ سؤال طبعي: إلام تستمر سلسلة الشدائد هذه؟ حتّامَ يضربنا الناس ونصبر ونسكت ولا نتحرك؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف نعيش؟ فقال الله: أما أنتم فواجبكم الصبر، ولكن هناك آخرون في يدهم مقاليد الحكم والنظام، وهم مسئولون عن الأمن والأمان، ومن واجبهم أن ينتقموا لكم من مظالم الناس وأن يعاقبوهم العقاب الواجب. فقال (كتب عليكم القصاص في القتلى). من واجب الحكام أن يقتصوا لكم وليس لهم أن يعفوا عن هذه الجرائم والمظالم. مع العلم أن الخطاب في قوله تعالى (والصابرين في البأساء) كان موجَّها إلى عامة الناس، أما في قوله تعالى (كتب عليكم) فهو إلى الحكام، وبقوله تعالى (القصاص في القتلى) صرح بأن الجروح لا تندرج تحته.

الحقيقة أن هذه هي الآية التي تذكر التعليم الإسلامي في صدد عقوبة القتل، وتبين أن عقوبة القتل هي القتل. وهذا حكم عام شامل لجميع القتلى بغض النظر عن هوية المقتول أو القاتل أو قبيلتهما.. بدليل قوله تعالى (في القتلى). ولا نجد أي ذكر لعقوبة مادية سواه في أيَّة آيةٍ أخرى من القرآن الكريم على القتل المتعمد. إذنْ فهذه الآية هي الأساس للفقه الإسلامي فيما يتعلق بالقتل. والله تعالى لم يميز بين المسلم وغير المسلم هنا، ولم يذكر آلة أو سلاحا للقتل.. وإنما قرر أن عقوبة القتل هي القتل. بل ثابت من الأحاديث أنه في بعض الحالات قُتل أكثر من شخص في قضية قتيل واحد. فقد ورد في التاريخ أن مجموعة من الناس قتلوا شخصا في صنعاء، فأمر سيدنا عمر بقتل مجموعة القَتَلة كلها البالغة سبعة أفراد، وقال: لو أن كل البلدة اشتركت في هذا القتل لأمرت بقتلهم (الموطأ لمالك، الديّات).

ولكنه ظن ناتج عن قلة التدبر. إنني أرى أنه ما من مسألة أو قضية في حياة الناس. دينية أو سياسية أو مدنية أو عائلية.. إلا وتناولها الإسلام بتوضيح وصراحة. صحيح أنه يذكر في بعض المواضع ما ورد من تعليم في الأديان السابقة، ولكنه أولا يلقي بنفسه الضوء على تلك القضية، ويقدِّم تعليما كاملا جامعا للناس بشأنها، ثم إتماما للحجة على أهل الأديان الأخرى وإخجالا لهم..

وكذلك جاء في رواية لعبد الله بن مسعود: (قال رسول الله : لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارقِ للجماعة) (مسلم، القسامة). وهناك رواية أخرى توضح الرواية السابقة وتقول: (رجل يخرج من الإسلام يحارب الله ورسوله فيُقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض) (النسائي، تحريم الدم).. أي المراد من التارك لدينه المفارق للجماعة الذي يترك الإسلام ويحارب المسلمين.

تبين هذه الرواية أن لا تمييز بين رجل وامرأة، فكل من يَقتل يُقتل.. وأن النفس بالنفس. وفي رواية لابن عمر قال رسول الله : من قتل مُعاهدا لم يَرَحْ رائحة الجنة) (ابن ماجة، من قتل معاهدا).. أي لا يشم رائحة الجنة. وقد وردت نفس العقوبة في القرآن الكريم لمن يقتل مسلما. قال تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) (النساء: 94).

وقد أكد النبي بنفسه على ذلك فقد أُتي برجل من المسلمين قد قتل معاهدا من أهل الذمّة فأمر به فضُرب عنقه، وقال : أنا أولى من وفّى بذمته (شرح معاني الآثار للطحاوي، الجنايات). كذلك هناك رواية عن علي رضي الله عنه أن مسلما قتَل ذميًّا فأمر سيدنا علي بقتله (الطبراني).

يقول البعض: ورد في حديث أنه لا يُقتل مسلم بكافر.. ولكن لو قرأنا الحديث بتمامه لزال التعارض. يقول الحديث (لا يُقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده) (ابن ماجة، كتاب الديات). فالفقرة الثانية توضح المعنى. لو كان المعنى كما يظنون لكانت الفقرة الثانية (ولا ذو عهد بكافر)، ولا يقبل أحد بهذا. فالمراد من كافر هنا الكافر المحارب. ولذلك قال إن الذمي الكافر أيضا لا يقتل بكافر محارب.

وعندما ننظر إلى عمل الصحابة نجد أن الصحابة أيضا كانوا يقتلون القاتل المسلم بقتيل غير مسلم. فقد جاءت رواية القماذبان بن الهرمزان يذكر حادث قتل أبيه الهرمزان، الذي كان من كبار الفرس والمجوس، وكان مظنةَ الاشتراك في قتل سيدنا عمر رضي الله عنه. فثار عبيد الله بن عمر على الرجل بناء على هذه الشُبهة فقتله. يقول القماذبان: كانت العجم في المدينة يَسْتَرْوِح بعضهم إلى بعض [يتزاورون] فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه وقال: ماذا تصنع بهذا في هذه البلاد ذات الأمن والسلام؟ قال: أبُسُّ به.. [أي استخدمه لحث الإبل]، فرآه رجل. فلما أصيب عمر، قال رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز. فأقبل عبيد الله فقتله. فلما وُلِّي عثمان دعاني فأمكنني منه. ثم قال: يا بني، هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله. فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: ألي قتلُه؟ قالوا: نعم، وسبوا عبيد الله. فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبّوه. فترتكه لله ولهم. فاحتملوني. فوالله، ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفِّهم(تاريخ الأمم والملوك للطبري، أحداث السنة 24).

فهذه الحادثة تؤكد أن الصحابة كانوا يقتلون القاتل المسلم بغير المسلم، كما تؤكد أنهم كانوا لا يفرقون بين سلاح وآخر، وأن الحكومة هي التي تقبض على القاتل وتحاكمه وتعاقبه.. فقد رأينا في الرواية أن الخليفة سيدنا عثمان رضي الله عنه –هو الذي أمر بالقبض على عبيد الله وسلمه لابن الهرمزان، وليس أن ورثة الهرمزان هم الذين أخذوه وحاكموه.

هنا سؤال ينبغي الجواب عليه: هل يسلَّم القاتل إلى ورثة القتيل لينـزلوا به العقاب كما فعل سيدنا عثمان. أم أن الحكومة هي التي تتولى عقابه؟

هذه المسألة نسبية وهامشية، وتركَها الإسلام مفتوحة ليعمل الناس بحسب مقتضى عصرهم، ويختاروا أي الطريقين بحسب حضارتهم وأحوالهم. ولا شك أن كل طريقة تفيد في أحوال خاصة.

ثم قال (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) ولا يعني ذلك أنه إذا قُتل حر يُقتل مكانه حر، وإن كان القاتل من العبيد؛ أو أن يُقتل عبد بدل قتيل عبدٍ وإن كان قاتله من الأحرار؛ أو تُقتل امرأة مكان امرأة وإن كان قاتلها أحد الرجال.. لأن التعليم الأساسي في هذا الصدد سبق أن ذكر في قوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى). وقوله تعالى (الحر بالحر) في الحقيقة جملة مستأنفة، والجملة المستأنفة تأتي للرد على سؤال مقدّر في الجملة السابقة وبدون عطف (شرح مختصر المعاني، شرح الكلمات: 3ص54). وجاءت الجملة المستأنفة هنا للرد على سؤال مقدر في الجملة السابقة، وللقضاء على بعض العادات بين العرب. والسؤال المقدر هنا هو: هل الأمر بالقصاص في القتل يُلغي كل العادات التي يتبعها العرب في هذا الصدد؟ فأجاب الله: نعم، وقال: (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) ولقد اكتفى الله بثلاثة منها ولم يذكرها كلها.. وكأنه قال الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى وهلم جرا.

الواقع أن العرب في الجاهلية كانوا يعتبرون بعض الأسر رفيعة المقام وبعضها منحطة رذيلة، ويعتبرون بعض الأفراد أحرارا وبعضهم عبيدا، وإذا ارتكب أحد جريمة نظروا: هل القاتل حر أم عبد؟ فإذا كان عبدا فهل سيده من كبار القوم أم صغارهم؟ هل هو رجل أم امرأة؟ وهل هو أو هي من أسرة كبيرة أم صغيرة، ثرية أم فقيرة؟ كانوا يراعون كل هذه الأمور عند إنزال العقوبة، وكانوا لا ينزلون العقوبة بالأحرار من الرجال أو النساء بمثل ما ينزلونها بالعبيد. وكانوا لا يعاقبون أفراد الأسر الرفيعة بما يعاقبون به أفراد الأسر الدنية. فجاء الإسلام وأعلن: (كتب عليكم القصاص في القتلى)، وكان الأمر شاملا وعاما. فإذا قُتل إنسان كان لا بد من قتل قاتله، سواء كان المقتول رجلا أو امرأة، وسواء كان القاتل رجلا أو امرأة، وسواء كان هذا أو ذاك حرا أو عبدا، وسواء كان القاتل فردا أو جماعة، وسواء كان القتيل مسلما أو معاهدا.

ونشأ هناك سؤال طبعي: هل ينفَّذ القصاص بحسب عادات العرب في الجاهلية أم لا؟ فكان الجواب: كلا، ثم كلا، تُلغى مظاهر التمييز والتفرقة كلها من الآن. ثم ذكر ثلاثة أمثلة من هذه العادات، وترك الباقي منها بحسب أساليب اللغة العربية إذ يذكرون بعض الأمثلة ويعتبرون الباقي ضمنها. فبذكر الأمثلة الثلاثة هنا ذكر الأمور الأخرى ضمنًا. وأمر أن يُقتل القاتل أيًّا كان قصاصا للمقتول أيًا كان.

وهذا ما تؤكده سنة الرسول .. فقد قتل رجلا قصاصا لقتله امرأة(صحيح مسلم، القصاص). وكذلك أمر النبي بقتل الحر قصاصا لقتله عبدا، وفي رواية لسمرة بن جندب(أن النبي قال: من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه) (ابن ماجة، أبواب الديات).

قوله تعالى (فمن عُفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان).. أي لو أراد ورثة القتيل لمصلحة أن يعفوا عن القاتل فلهم هذا الخيار. ويستدل بعض الناس من ذلك أنه لا يحق للحكومة أن تقبض على القاتل أو تعاقبه، بل هذا حق لأهل القتيل. ولكن الاستدلال غير صحيح. كل ما قيل هنا أنه لو عفا ورثة القتيل عن القاتل إحسانا إليه فعلى الحكومة أن تحترم رغبتهم هذه. وباستثناء هذا العفو ليس لورثة القتيل أي علاقة بالقاتل. أما حبس القاتل ومحاكمته ومعاقبته فهذا من اختصاص الحكومة، وهي المسئولة عن ذلك.. لقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى). فقد فُوِّض هنا إلى المسئولين في الحكومة واجبُ التحقيق والمحاكمة وإنزال العقوبة بالمجرم.

وقد يقول البعض عن حق العفو هذا الذي منحه الإسلام لورثة القتيل أن فيه مخاطر ومفاسد ومضار، فمثلا يمكن أن يدبر الأهل لقتل أحدهم بيد شخص آخر ثم يعفوا عن القاتل الذي اتفقوا معه. وهذه شبهة واردة. ولكن الإسلام قد أزال كل هذه المخاطر ووضع لها العلاج. فمن ناحية منح حق العفو للإصلاح بين الأسرتين المتخاصمتين، ولكنه من ناحية أخرى سدّ أبواب الأعمال غير الشرعية كهذه، فقد اشترط في العفو أن يكون فيه إصلاح، ومعنى ذلك أن العفو جائز فقط إذا كانت نتيجته الإصلاح. أما إذا كان العفو سببا للفساد فلا يجوز العفو، وللحكومة أن تعاقب القاتل رغم عفو الورثة. فقد ذكر الطبري حادثا من زمن سيدنا علي –رضي الله عنه –يدل على أنهم منذ بداية الإسلام كانوا يأخذون هذا الاحتياط والحذر. يروي عدل بن عثمان: رأيت عليًا همَّ خارجًا من همدان، فرأى فئتين تقتتلان، ففرَّق بينهما، ثم مضى. فسمع صوتا: يا غوثًا بالله! فخرج يحضر نحوه حتى سمعت خفق نعله وهو يقول: أتاك الغوث. فإذا رجل يلازم رجلا فقال: يا أمير المؤمنين، بعتُ من هذا ثوبا بتسعة دراهم وشرطتُ عليه ألا يعطيني مغموزا ولا مقطوعا (أي معيبا أو ممزقًا) وكان شرطهم يومئذ، فأتيته بهذه الدراهم ليبدلها فأبى، فلزمته فلطمني. فقال علي: أبدله. فقال: بيِّنتك على اللطمة؟ فأتاه بالبيِّنة، فأقعده ثم قال: دونك فأقِصّ. فقال: إني قد عفوت عنه يا أمير المؤمنين. قال: إنما أرد أن أحتاط في حقك، ثم ضرب الرجل تسع درَّات وقال: هذا حق السلطان (تاريخ الطبري: سنة 40). فصحيح أن الإسلام قد منح الحق للمظلوم أو لورثة المجني عليه أن يعفوا عن الجاني، ولكنه أيضا منح الحق للحكومة أنها إذا شعرت أن المجني عليه ضعيف العقل، أو أن العفو عن الظالم سوف يشجعه على ارتكاب الجريمة، أو أن أولياء القتيل لا يعرفون مصلحتهم أو مصلحة المجتمع، أو أنهم شركاء في الجريمة.. فللحكومة إنزال العقاب بالمجرم رغم عفوهم عنه. وهل هناك طريق أفضل من ذلك للإصلاح وتوطيد الأمن في العالم؟ فإذا كان العفو عن المجرم يؤدي إلى مخاطر من ناحية، فإن المجرم أحيانا يرتكب الجريمة، ولكنه يندم عليها وينزعج ورثته ويكونون في حال يرثى لها.. وتقضي الرحمة أن يُعفى عنه. وفي بعض الأحيان يقدِّر أولياء القتيل أن العفو عن المجرم أوْلى. ولمثل هذا الموقف لا تقدم الحضارة العصرية أي حل يشفي غليل الطرفين ويحقق رغباتهم، ولكن الإسلام قام بذلك قبل ثلاثة عشر قرنا ووضع زمن المدنية المظلمة من القرن السابع أساسا لمدنية راقية لا يستطيع أن يقدم لها نظيرًا أحد من حكماء القرن العشرين.

ولكن كما سبق أن ذكرنا.. فالعفو ليس من خصوصيات الحاكم وإنما هو حق لورثة القتيل. نعم، إذا رأى الحاكم أن عفو ورثةٍ يؤدي إلى بعض المضار والمفاسد فله أن يلغي العفو، كما ثبت مما فعل سيدنا علي رضي الله عنه. وإذا أصر الوارث على القصاص فمن واجب الحكام أن يقتصوا له.

وبقوله تعالى (من أخيه) أشار إلى أن القتل لا يقع أحيانا بسبب العداوة والبغض، وإنما بسبب حماس وثورة مؤقتة. فبقول (أخيه) شفع إلى الورثة كي يرحموا القاتل لأنه أخوهم، ارتكب جريمة خطأ، فليتركوه وليعفوا عنه. ومن ناحية أخرى فيه تبكيت ولوم للقاتل يدفعه للندم، وكأنه يقول له: ألم تخجل من قتل أخيك؟

وقوله تعالى (فمن عفي له من أخيه شيء).. أورد كلمة شيء بصورة النكرة التي قد تعني التعظيم أو التحقير. والمراد من (شيء) هنا إما العفو التام أو بعض العفو. أي لولي القتيل ألاّ يطلب القصاص بقتل القاتل بل يكتفي بأخذ الدية أو جزء منها.. أو يعفو عفوا كاملا فلا يطلب إعدام القاتل ولا يأخذ دية. فهو مُخيَّر بين الخيارين. وإذا عفا بعض الورثة ولم يعف الآخرون.. وكأن يكون للقتيل ابنان، فيعفو أحدهما ويرفض الثاني.. فلا يُقتل القاتل. ولكن إذا رأى الحاكم أن للورثة يدًا في الجريمة فعَفَوا، فللحاكم أن يلغي هذا العفو ويعاقب القاتل، ولا حق لهم عندئذ في الإرث أيضا.

وقوله تعالى (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) يعني أن يستوفي أصحاب الدية حقهم بطريقة طيبة، فإذا كان الطرف الآخر مُعسِرا فلا يتشددون في المطالبة وإنما يمهلونه. وعلى المعفي عنه أن يبذل جهدا صادقا في أداء الدية ولا يتكاسل ولا يماطل، بل يسرع ولو تحمّل مشقة.

قوله(ذلك تخفيف من ربكم ورحمة).. أي أن الله قد يسر بذلك لكم الأمور وهيأ الأسباب من رحمته.. فيجب أن تضعوا هذا في الاعتبار وتقدروه حق قدره.

قوله تعالى (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم).. أي لو أن ورثة القتيل أخذوا ديتهم ثم قتلوا القاتل أو أحدا من أسرته فلا يستحقون أي رحمة. بل يعاقَبون بشدة.. أي لا تسمح الحكومة بالعفو عن مثل هذا القاتل حتى لا تكثر مثل هذه الأفعال الهمجية التي تفسد الأخلاق القومية ولا تُبقى سلطة واحتراما.

كل ما قيل هنا أنه لو عفا ورثة القتيل عن القاتل إحسانا إليه فعلى الحكومة أن تحترم رغبتهم هذه. وباستثناء هذا العفو ليس لورثة القتيل أي علاقة بالقاتل. أما حبس القاتل ومحاكمته ومعاقبته فهذا من اختصاص الحكومة، وهي المسئولة عن ذلك..

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(180)

شرح الكلمات:

الألباب –جمع لُبّ وهو ما في جوف الجوزة. والمراد هنا العقل (الأقرب).

التفسير:

يقول الله تعالى: أيها العقلاء، في القصاص حياة لكم، فلا تهملوه أبدا. وهنا سؤال: مات القتيل، وإعدام القاتل لن يحيي القتيل، فكيف يكون في القصاص حياة؟

والجواب: يجب أن نتذكر أنه إذا لم ينزل العقاب بالقاتل فمن الممكن أن يَقتل شخصا آخر غدا، وشخصا ثالثا بعد غد.. لذلك قال: لكم في القصاص حياة.. أي إذا لم تقتصوا من القاتل فإنه يقضي على حياة أحد آخر منكم، ولكنه لو عوقب بالموت فسوف تقل أحداث القتل غدا، وهكذا تُحمى حياة كثير من النفوس.

كما أن قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) يعني أن عقاب القاتل يشفي قلوب ورثة القتيل من البغض والضغينة، ولكن لو لم ينزل العقاب بالقاتل لظلت العداوة والبغضاء كما هي في قلوب أهل القتيل، إذ يرون أنهم قد أهينوا بقتل أحدهم. فالقصاص سبب لتوطيد شرف القتيل وشفاء لنفوس الورثة.

وأرى أن في هذه الآية نبأ يتعلق بزمننا هذا، لأن العرب كانوا عاملين بالقصاص متمسكين به في قوة. لو قُتل أحد لظلوا يطلبون القصاص حتى من حفيد القاتل. فهذا التعليم ليس للعرب فقط، بل إنه في الحقيقة نبأ يُخبر أنه سيأتي يوم يدعو فيه الناس إلى إلغاء عقوبة القصاص، فلتتمسكوا عندئذ بهذا التعليم بقوة ولا تفرطوا فيه. وهذا يحدث في هذه الأيام في بعض البلاد الأوربية حيث تقوم حركات من وقت لآخر داعية إلى إلغاء عقوبة الموت. يقول الله تعالى: يا أيها العقلاء، لا تصغوا إلى هذه الحركات وإلا تكون العواقب وخيمة، ولن تبقى لنفوسكم قيمة. فقال(لعلكم تتقون).. أي أن الهدف من هذا التعليم أن تتقوا من القتل وتنالوا الحياة التي تكون بعد القصاص. ولو تركتم القصاص لانهارت حضارتكم. فحذار أن يختل نظامكم وتنهدم حضارتكم ولا يبقى لنفوسكم حرمة ولأموالكم قيمة.

ولقوله تعالى (لعلكم تتقون) معنى آخر فهَّمني الله إياه. وهو أنه جل علاه بيّن بهذه الكلمات أنكم في حاجة إلى هذه الحياة واستمرارها لكسب مزيد من التقوى. كأنه يقول إن إضاعة الحياة بدون جدوى محظور، لأن الدنيا دار العمل، يجمع فيها الإنسان زادًا للآخرة. فالحفاظ على الحياة ضروري للتزود بالتقوى. فبهذه الكلمات بيّن الله السبب وراء حفاظ المؤمن على حياته رغم إيمانه بالآخرة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك