لماذا سمي المسيح الموعود بعيسى ابن مريم

وإن اشتقتَ أن تكتنه حقيقةَ هذا السرّ، وتطلّع على أسبابه على وجهٍ أظهرَ وأَجْلَى، فأَصْغِ أبيّن لك ما علّمني ربي في هذا الأمر من أسرار الهدى. وهي أن الله وجد في هذا الزمان غلبة المتنصّرين وضلالاتهم إلى الانتهاء، ورأى أنهم ضلّوا وأَضلّوا خَلقًا كثيرًا، ونَجّسوا الأرضَ بشركهم وكفرهم، وأكثروا فيها الفسادَ، وأشاعوا في الناس كذبهم، وفريتهم وتلبيساتهم، وفتحوا أبواب المعاصي والهوى. ففارت غيرة الله تعالى عند رؤية هذه الفتنةِ العُظمى. فأنبأ الرَّبّ الغيور كَلِمتَه ونبيَّه مِن فتن أُمّته ومما أفسدوا في الأرض ومما يصنعون صُنْعا. وكان هذا الإخبار من سنن الله ولن تجد لسنن الله تَحوّلا ولا تبديلا. ولما سمع المسيح أن أُمته أهلكَتْ أهل الأرض وأرادت أن يستفزّهم جميعًا، وبَغتْ أمام ربّها بغيًا كبيرا، فكثر كربه وقلقه حسرةً على أُمّته، وأخذه حزن ووَجدٌ كمثل الذي يهمّه إغاثة الملهوفين أو يجب عليه إعانة المظلومين، واستدعى من الله نائبا، وقضى أن يكون نائبه متحدًا بحقيقته ومتشابهًا بجوهره، ومقيمًا في مقام جوارحه لإتمام مراداته، ومظهرًا لظهور إراداته، فصرف لهذه المُنْية عِنان التوجه إلى الثرى. فاقتضى تدبير الحق أن يهب لـه نائبًا تنطبع فيه صورتُه المثاليةُ كما تنطبع في الحياض صُور النجوم من السماوات العُلى. فأنا النائب الذي أرسلني الله في زمان غلبة التنصّرِ غيرةً من عنده، وإراحةً لروح المسيحِ، ورأفةً بعامة خَلقه، وترحّمًا على حال الورى. فجئت من الله لأكسر الصليب الذي أُعلِيَ شأنُه، وأقتل الخنـزير فلا يُحيا بعده أبدا. واختارني ربي لميقاته، إن ربي لا يُخلف ميعاده ولا ينقض عهدا. وقد كان وعده إرسالَ المسيح عند تطاول فتنة الصليب وغلبة الضلالات العيسائيةِ، وإن كنتم في شك مما قلنا فتدبّروا في قول نبيه.. أعني قوله: “يكسر الصليب”، يا أرباب النُهى. وافتحوا أعينكم وانظروا نظرًا غامضًا إلى زمانكم وإلى قومٍ جاءوا بفتن عظيمة، ثم اشـهدوا لله.. هل أتى وقت قدومِ كاسر الصليب أو ما أتى؟

والله، إني قد أُرسِلتُ من ربي، ونُفِث في روعي من روع المسيح، وجُعلتُ وعاءً لإراداته وتوجهاته، حتى امتلأت نفسي ونسمتي بها، وانخرطتُ في سلك وجوده، حتى تراءى شَبَحُ رُوحِه في نفسي، وأُشْرِبتُ في قلبي وجودَه، وبرِق منه بارقٌ فتلقّتْه روحي أتم تلقٍّ، ولصقت بوجوده أشدَّ مما يُخيل، كأني هو، وغِبت من نفسي، وظهر المسيح في مرآتي وتجلّى، حتى تخيّلتُ أن قلبي وكبدي وعروقي وأوتاري ممتلئة من وجوده، ووجودي هذا قطعة من جوهر وجوده، وكان هذا فعل ربي تبارك وتعالى. وكان هو في أوّل أمري قريبًا مني كالبحر من القاربِ، ثم دنا فتدلى، فكان مني بمنـزلة الماء في القربة، وتموج في جسدي روحه، فصرتُ كشيء لا يُرَى. ووجدته كقَنْدٍ اختلط بماءٍ لا يتميز أحدهما من الآخر، وأدركتُ بحاسة روحي أنه اتّحد بوجودي، وصرت في نفسه ملتفّا، وصرنا كشيء واحدٍ، يقع عليه اسم واحدٍ، وغابت طينتي في طينته العُليا. هذا ما عُلّمنا من رَبِّنا، فاقضِ ما أنت قاض، واتق الله، ولا تُخلِد إلى أهواء الدنيا.

وأما الكلام الـكُلّي في هذا المقام، فهو أن للأنبياء الذين ارتحلوا إلى حظيرة القُدس تدلّياتٍ إلى الأرض في كل بُرهةٍ من أزمنةٍ يُهيج الله تقاريبها فيها، فإذا جاء وقت التدلّي صرف الله أعينهم إلى الدنيا، فيجدون فيها فسادًا وظلمًا، ويرون الأرض قد مُلئت شرًّا وزورًا، وشركا وكفرًا، فإذا ظهر لأحد منهم أن تلك الشرور والمفاسد من بغي أمّته، فيضطر روحه اضطرارًا شديدًا، ويدعو الله أن يُنـزله على الأرض ليهيئ لهم من وعظه رشدا. فيخلق له الله نائبا يشابهه في جوهره، وينـزل روحه بتنـزيل انعكاسي على وجود ذلك النائب، ويرث النائب اسمه وعلمه، فيعمل على وفق إراداته عملا. فهذا هو المراد من نزول إيليا في كتب الأوّلين، ونزول عيسى ، وظهور نبينا محمد في المهدي خُلقًا وسيرة. وما من محدَّث إلا له نصيبٌ من تدلّيات الأنبياء، قليلا كان أو كثيرًا. ومن تجرَّدَ عن وسخ التعصّبات فلا يتردّد في هذا، ويجد السّنة والكتاب مبيّنَينِ لها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك