الفقر الحقيقي.. فقر القلوب

الفقر الحقيقي.. فقر القلوب

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

 

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيم* صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين (آمين)

الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ

لقد اقتبست هذه الآيات الكريمة من مستهل سورة البقرة. وسأقرأ بعض الآيات الأخرى من السورة نفسها لأربط بين موضوعَين يبدوان منفصلَين في بادي الرأي. فقد قال الله تعالى في الآية العاشرة التي تليها من سورة البقرة:

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ

الم: يعني: أنا الله أعلم. و “ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه” أي إنه لكتابٌ لا مجال للشك والريبة في إطلاقًا. ففي كلمات “ذلك الكتاب” هناك إشارة إلى عظمة القرآن الكريم وإلى الأنباء التي ورد ذكرُها وذكرُ تحققها في القرآن الكريم فكلمة “ذلك” تفيد الإشارة إلى البعيد وتُستعمل لبيان العظمة أيضا، وكذلك تُستعمل للإشارة إلى أمور ذُكرتْ قبل فترة طويلة من الزمن. فالمراد هو أنا الله أعلم، وهذا الكتاب الذي لا يمكن للإنسان ان يتصور سموَّه وعظمته، عظيمٌ جدا. وهو “الكتاب” أي إنه كتاب كاملٌ. “لا رَيْبَ فيه” أي لا مجال للشك والريب فيه، فهذا هو القرآن الذي يُتلى عليكم. وإلى جانب ذلك قال أيضا: إنه نفس القرآن الذي نبأ به الأنبياء السابقون أيضا وظلّوا يَعِدون أُمَمَهم أن كتابا كاملا سوف يُنزل. فها هو ذلك الكتاب قد أُنزل. ثم قال الله تعالى إن الصفة المتميزة لهذا الكتاب هو أنه “لا ريب فيه” أي لا مجال للشك والريبة فيه إطلاقًا. ولكنه قال: “هُدًى للمتقين” سوف يهدي المتقين وحدهم. أما غير المتقين فمهما ارتابوا أو حاولوا خلق الشكوك عن هذا الكتاب فلا بأس، فإن التحلي بالتقوى هو الشرط الأساسي للحصول على الهداية التي جاء بها هذا الكتاب. فإذا كانت القلوب خِلْوًا من التقوى أو إذا كانت فارغة من تصور الصدق الأساسي فلن يتسبب لهم هذا الكتاب في أي نوع من الهداية أبدا.

من هم الذين لهم قلوبٌ مليئة بالتقوى؟ يقول الله تعالى:

“الذين يؤمنون بالغيب” هو: أن ذلك الغيب يغدو حاضرًا بالنسبة لهم. إنهم يؤمنون بالغيب الذي يكون معهم دائمًا وأبدًا ويصحبهم دومًا، رغم عدم مثوله للعيان ظاهرًا. وعندما يؤمنون بالله يوقنون ي قرارة قلوبهم بكونه حاضرًا على الدوام، فيقينُهم هذا سوف يؤدي تلقائيا إلى أمرين اثنين: أولهما: “ويقيمون الصلاة” إنهم لا يصلون متصورين بإله خيالي، بل إن الغيب الذي يؤمنون به يصبح حاضرًا موجودًا بالنسبة لهم ويكون أمامهم عند الصلاة. وهذا ما بيَّنه النبي الأكرم من خلال مختلف المصطلحات بما فيها قوله أن صلاة المؤمن هي، وكأن اللهَ تعالى يراه أو كأن المؤمنَ يرى الله تعلى.

وميزتهم الأساسية الثانية هي: “وَمما رزقناهم ينفقون” أي إنهم ينفقون لا محالة في سبيل الله تعالى مما أعطيناهم.

لا شك ان لمفاسد التي نراها شائعةً في الدنيا ناتجة كلها عن عدم فهم الناس لكلمة “الغيب”. والغيب لبعض الناس يعني أن الله عز وجل لا يحضر في حياتهم إطلاقا – إن صحَّ التعبير – بل يبقى غائبًا، يكون غائبًا حين صلواتهم كذلك عند الإنفاق. إنهم يزعمون أن الله تعالى لا يعلم بما أعطانا، ونحن أعلم بما أُعطِينا، ويظنون أنه ليس هناك رقيب، فيمكننا أن ننفق ما نشاء، ثم لنا أن نعيِّن كما يحلو لنا مقدار ما وهب الله لنا، فإنه عز وجل غيب، فلا يعلم شيئا.. وكأن المعطي غائب عندهم والمُعطَى له حاضر موجود. وبسبب عدم فهمهم هذا “الغيب” ينحط مستوى تبرُّعات هؤلاء الذين يفهمون الغيب بهذا المعنى، حيثما كانوا في العالم. إنهم يستنتجون من “ومما رزقناهم ينفقون” مفهومًا مختلفًا عن المفهوم الحقيقي تمامًا. فتكون تبرعاتهم كلها مبنية على مبدأ أننا أعلم بما أعطينا ولا يعلم بذلك غيرنا. ويزعمون الله غائبا والناسَ أيضا من الغائبين، ويظنون أنه مهما أفقنا – قليلا كان أو كثيرا- يمكننا أن نقول للناس ونريهم إننا ننفق في سبيل الدين. ولكن الحق أنهم لا يوفون بهذا الشرط. ولذلك نجد الله تعالى يلومهم بسبب ذلك بذكر صفتهم الأخرى في السورة نفسها. حين يقول: “يخادعون الله والذين آمنوا” أي إنهم يخدعون الله والمؤمنين أيضا في أمر تبرعاتهم. بمعنى أنهم يحسبون أنهم تمكنوا من الخداع.

والذين يخفون دخلهم من نظام الجماعة، يعاملهم نظام الجماعة في أغلب الأحيان بحيث لا يبحث في دخلهم وأموالهم بعمق بل يمر بها مرَّ الكرام، وبالتالي يبقَون في الغيب من المسؤولين ويقولون: هذا كلّ ما أعطانا الله تعالى، وها نحن نعيده إليه بالقدر المطلوب. وبذلك يحاولون أن يخدعوا الله والمؤمنين المأمورين على حماية نظام الله تعالى. فالمراد من “آمنوا” في: “يخادعون الله والذين آمنوا” اليوم هم المأمورون للحفاظ على نظام الإنفاق في سبيل الله في الجماعة الإسلامية الأحمدية. إنهم يحاولون خداهم، ولكن “وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون” أي إنهم لا يخدعون ولا يستطيعون ذلك إلا أنفسَهم هم. ثم إنهم بعد موتهم – تكون فرصة الإنفاق قد فاتتهم – سوف يعرفون من كانوا يخدعونه؟

وكيف كانوا يخدعون؟

فهناك نبأ آخر عن مثل هؤلاء الناس وهو: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا”. إن الذين يبخلون من الإنفاق في سبيل الله عز وجل تظل حالتهم تتحول دائمًا من سيئة أسوأ. ولكن بأي معنى تتدنى حالتهم؟ هذا موضوع يحتاج إلى شرح طويل، وقد ذكرت بعض الأمور في هذا الصدد بمناسبات أخرى أيضا بما فيها فقدُهم السكينةَ القلبية أوّلا وقبل كل شيء، إذ يفلت أولادهم من أيديهم ولا يستطيعون أن يجلبوا من أموالهم الفوائد التي من شأنها أن تهب لهم السكينة والإطمئنان. إنهم يظلّون عرضة لحُرقة داخلية على الدوام تدفعهم لكسب الأموال واكتنازها أكثر فأكثر، ولكن الحقيقة ان هذا الإكتناز هو كصوت جهنم التي تصرخ “هل من مزيد؟”.. كلما سُئلت. إن الله تعالى يخبرنا على سبيل الإستعارة أن جهنم سوف تطلب مزيدًا من الحطب وتقول: هل من مزيد؟ أي إذا كان هناك مزيد من الحطب فَأَلقوه فيَّ أيضا. فهؤلاء الضالون في حبِّ الأموال أيضا يرفعون دائمًا صوتًا يقول هل من مزيد؟ إذ يحاولون أن يكتنزوا ما استطاعوا – بأساليب شرعية أو غيرها – ولو بغصب أموال الحكومة أو الناس أو الجماعة.لا يزالون يزدادون في حب الأموال يوما إثر يوم. يقول الله تعالى: “ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا بكذبون” أي سوف يكون لهم عذاب أليم لأنهم يكذبون مع أنفسهم وأولادهم والناس جميعًا.

لقد جعلتُ هذه الآيات موضوعَ خطبتي اليوم بمناسبة نهاية السنة المالية الحالية للجماعة الإسلامية الأحمدية. ولقد طلب مني بعضُ الفروع الفروع من الجماعة أن أدعو لهم أن يوفقهم الله لإيفاء بمجيع الوُعود المالية التي قطعوها على أنفسهم. ففي هذا الصدد استعرضت أحوال أفرادٍ من الجماعة في الولايات المتحدة يُفترض أن يكونوا من الأثرياء. ولَشَدَّ ما كانت دهشتي إذ وجدت أن هناك عددًا لا يستهان به من الذين نتطبق عليهم هذه الآيات وهم لا يعلمون أيةَ سفينة يركبون. ألا إنها لسفينةٌ قُدِّر لها أن تغرق. ومن الواجب عليّ أن أنبِّههم ثم الأمر إليهم، سيعاملهم الله كما يشاء. وإلى جانب ذلك قد أخذتُ قرارًا في هذا الصدد سوف أتحدث عنه بالتفصيل فيما بعد، إن جميع هؤلاء الذين أعلم عنهم يقينًا- بحيث أستطيع أن أحلف على انهم كاذبون – ان الله تعالى أعطاهم أكثر بكثير، وذلك لأن المِهن التي اختاروها تؤكد لا بد أن يكون لهم دخل أكثر بعشر مرات مما يُبدونه. وهذا ما وجدته حين استعرضت دخلَ بعض زملائهم المخلصين وتبرعاتِهم الذين قد اختاروا المهن نفسها والذين أستطيع أن أقول حلفًا بالله إنهم ما خانوا في أمر الجماعة قط. وكلما دفعوا التبرعات حاولوا أن يدفعوها سرًّا. أما الذي دفعوها علمًا فكان أضعافًا كثيرًا مما دفعه زملاؤهم هؤلاء هؤلاء الذن كانوا في المهنة نفسها. حتى إن تبرعاتِ هؤلاء المخلصين في سنة واحدة زادت كثيرًا على تبرعات زملائهم الآخرين التي دفعوها في عشر سنوات. وعندما استفسرتُ هؤلاء المخلصين عن الإحصائيات وجدتُ أن الله تعالى قد وهب لبعض المحترفين هنا أموالا بحيث لو أن جميع الإخوة حذوا حذوَ هؤلاء المخلصين الذين لا يكذبون في سبيل الله، لكان من الممكن أن تكفل التبرعاتُ الإلزامية وحدها جميعَ حاجاتِ الجماعة في أمريكا، بل من شأنها أن تكفل قضاء حاجات جماعتنا هناك المتعلقة بعمارة البنايات إلى عدة سنوات، ناهيك عن حاجاتها الحالية، بل سوف تتوفر للتبشير ونشر دعوة الإسلام أيضا أموال كثيرة لدرجة لم تكن حسبانكم كيف أن الله تعالى يهيئ لكم أموالا بهذه الكثرة حتى لن تُعْزكم الأموال مهما أنفقتموها في هذا السبيل. وسأذكر بعض الأمور الأخرى في هذا الصدد في نهاية الخطبة بإذن الله.

والآن أقدم إليكم بعض الأحاديث التي لها علاقة وثيقة بهذا الموضوع. الأمر الأول هو أن الله سبحانه وتعالى يراقب عباده الذين ينسبون إليه أنفسهم. فالزعمُ أنهم يبقون في خفاء منه زعم باطل ونابع عن الغباوة يدحضه الرسول . ولفهم هذا الحديث لا بد من أن نفهم هذا الأمر جيدا. ليس المراد ان الحديث ينطبق على جميع الناس الذين يكسبون الأموال في الدنيا وإنما ينطبق الحديث على الذين ينفقون في سبيل الله والذين يُتوقع منهم أن ينفقوا من كل ما يرزقهم مِن فضله، لأنهم يُراقَبون صباحَ مساء.

فقد ورد في الحديث الشريف:

“عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضى الله عنه ـ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ:‏ “‏مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا”. (صحيح البخاري، كتاب الزكاة)

وبطبيعة الحال ليس المراد هنا أن الملائكة يدعون لكُلِّ مُنفقٍ، وإنما لأولئك الذين سبق لي أن قلتُ إنه يجب عليهم أن ينفقوا في سبيل الله تعالى والذين فعلا ينفقون بسخاء. يقول أحدهما: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا” من المعروف أن المراد هنا هم العباد الصالحون دون غيرهم، ومن الطاهر أيضا أن خداما صالحين بُخلَقُون شيئًا فشيئًا برؤية سيرة هؤلاء الصالحين. وهناك قدرٌ إلهي للذين يُخلَقون أن الله تعالى يأمر الملائكة أن يدعوا لهم ويهيئوا ظروفا مواتية لخلق خدامٍ آخرين  مثلهم. وهذا ما جدته من خلال تجربتي الواسعة النطاق. إن الذين يبذلون أموالهم لخدمة الدين بسخاء يخلق الله تعالى دائمًا معهم أناسًا آخرين مثلهم الذين لا يترددون أبدا في بذل الأموال فحسب، بل لا يترددون في بذل الأوقات أيضا متبعين دائما أسوة من سبقهم في الخيرات. وهذه في الحقيقة من أهم حاجات الجماعة الإسلامية الأحمدية التي يجب علينا أن نسدَّها. ففي الوقت الراهن نحن بأمس الحاجة إلى كثير من المتقين المنفقين في سبيل الله الذين يبارك فيهم قدْرُ الله سبحانه وتعالى. والذين سوف يُبارَك في نفوسهم وأموالهم وأعمالهم الصالحة. وبذلك بتيسر للجماعة الخدام المخلصون من كل نوع. وهذا ما يجري على أرض الواقع حاليا، غير أنني أريد أن يتسع نطاق هذه البركة أكثر وتستفيد منها جماعتنا بأمريكا أيضًا.

يقول المَلَك الآخر: اللهم أَعطِ مُمْسكًا تلفًا: أي دمِّرْ مال البخيل وثروته. لا يمكن أن يكون هذا الدعاء أيضا على بخيل عادي دنيوي. فمن الواضح الجلي أن الذين قد يحسبون أنفسهم أنهم عباد الله والذين كان من واجبهم أن ينفقوا في سبيل الله بسخاء، فإِنْ هم بخلوا ولم يفقوا فليتذكروا أن دعاء الملائكة سوف يقع عليهم إذ يقول المَلَك: اللهُمَّ أَعْطِ مُمسكًا تلفًا، أي دمِّره ودمِّر أمواله.

لقد شاهدنا نحن أيضا في كثير من الأحيان تدميرَ مثل هذه الأموال بشتى الطرق. إنني شخصيا أعرف أناسا – ولا حاجة للخوض في تفاصيلهم ولن أذكر أسماءهم بطبيعة الحال ولكن هناك فئة معينة من الناس يمكنكم أن تروهم حولكم – الذين كسبوا أموالا طائلة وادّخروا ثرواتٍ كثيرة ثم خطر ببالهم أن يستثمروها في التجارة، ولكن حدث في معظم الأحيان أن تجاراتهم تعرضت للركود ولكساد وهكذا أفلت من يدهم كلُّ ما كانوا قد ادخروه من الأموال والثروات الطائلة ولم يبق في يدهم شيء قط. فدعاءُ الملائكة المذكور آنفًا لا يذهب سدًى إذ يقولون: اللهم أَعطِ ممسكًا تلفًا. إذًا فما الفائدة من إمساك الأموال التي لا تجدي شيئا؟

وهناك حديث آخر يقول:

“حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رضى الله عنه ـ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ ‏ “‏ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى”.

أي لو أنفقت في سبيل الله وأنت في ضائقة مالية لكان ذلك أفضل أنواع الإنفاق. ثم قالنبي – “ولا تُمْهِل حتى إذا بلغت الحُلْقُومَ قُلتَ: لفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا وقد كان لفلانٍ”. (صحيح البخاري، كتاب الزكاة).

فالذين يبخلون من الإنفاق يجب أن يتذكروا هذا التحذير جيدا. فيدّخروا بقدر ما يريدون وليفعلوا ما يشاؤون ولكن لا بد أن يأتي يوم حين تبلغ النفوسُ الحلقومَ وعندها لن تنفع الوصايا ان أَعطُوا فلانًا كذا وفلانًا كذا، أَعطُوا الإبنَ كذا وأَعطوا البنتَ كذا، لأن رسول الله يقول إن المال في ذلك الحين لم يعد مِلككم، فكيف توزعون على الأبناء والبنات والأقارب أو الأصدقاء ما لا تملكونه حين تبلغ النفوس الحلقوم؟ لن ينفعكم عملكم هذا كما لن ينفع أولئك الذين توزِّعون عليهم بسخاء من المال الذي لم يعد ملكًا لكم بل أصبح كله لله سبحانه وتعالى.

يضرب سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام مثلا لبعض أصحابه الذين كان مسلكهم مختلفا تماما. لا شك أنه توجد روايات تذكر ظروفا مالية صعبة أيضا في زمن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام، والسبب هو أن الجماعة في تلك الأيام كانت فقيرة بشكل عام، وكان يصعب على أبنائها حتى دفع مليم واحد في بعض الأحيان. ولكن الظروف الآن قد تغيرت تماما، غير أنها تغيرت بصورة مؤلمة. إن كثيرًا من أبناء الجماعة يزدادون غنًى من الناحية المادية ولكنهم يزدادون فقرًا من الناحية القلبية. لقد قال النبي في إحدى المرات ما معناه: ألا إن الفقر فقر النفس.. أي إن الفقر الحقيقي هو ذلك الذي يحل بالقلب، وإلا إذا كان الإنسان يملك أموالا طائلة وكان سخيًّا أيضا في الظاهر فلا فائدة منها لأن الفقر القلبي هو الذي يحول دون إنفاقه فلا يبقى الإنفاق لله. قد يكون للرياء ولكنه لا يكون لله سبحانه وتعالى.

لقد ذكر المسيحُ الموعود عليه السلام حضرةَ نور الدين رضي الله عنه – الذي كان الخليفة الأول بعده عليه السلام – بكلمات الحب والوُدِّ أكثر من غيره لدرجة يغبطه الإنسان عفويًّا بسماعها. وكيف لا نغط شخصًا يغبطه المسيح الموعود عليه السلام؟ هناك أقوال كثيرة في هذا الصدد ولكنني اقتبست مقتبسا واحدا ووجيزا كنموذج فقط لأخبركم ما هو الإنفاق في سبيل الله في الحقيقة. يقول عنه سيدنا أحمد عليه السلام:

“لو سمحتُ له  لضحى كل شيء في هذا السبيل ولأدى حقَّ الرفقة الجسدية والبقاء في الصحبة في كل لحظة مثل رفقته الروحية معي” .

والواضح الجلي أن الأمر الوحيد الذي كان يعرقل طريق حضرته رضي الله عنه في هذا الصدد هو عدم سماح المسيح الموعود عليه السلام له رضي الله عنه. وهكذا قد اطلعنا على أدب كان يتحلى به حضرة الخليفة الأول رضي الله عنه وهو أنه كان يدرك أن بذل كل شيء في سبيل الله تعالى أمنية قلبية ولكن يجب ألا تُنفَّذ هذه الأمنية أيضا دون الإذن من الإمام. يا لها من كانة سامية!! إذ إنه يمتنع من الإنفاق رغم رغبته القلبية للإنفاق. ولا شك أن ما بذله حضرته رضي الله عنه كان كثيرًا وكثيرً جدًا، ومع ذلك كان يكنُّ عنه في القلب رغبة جامحة لإنفاق ما لم يبذله بعد، والعائق الوحيد في هذا السبيل هو عدم الإذن لا غير. فاحترام الإمام وإِذْنُه يحظيان بأهمية كبيرة عند حضرته رضي الله عنه.

يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام:

“أقدم غلى القراء الكرام بضعة أسطر من رسائله كنموذج”. أقول إن هذه الرسائل طويلة ولطيفة وجميلة جدا تبعث الرِقَّة في النفوس لدرجة كلما حاولتُ قراءتها على الناس لم أتمكن من أن أتمالك نفسي بل انجرفتُ مع العواطف كل مرة حتى يتهدج الصوت فلا أستطيع قراءتها جيدا، إلا أنني سوف أحاول أن أقرأ عليكم مقتبسًا وجيزًا كنموذج. يكتب حضرة الحكيم نور الدين، الخليفةُ الأول رضي الله عنه إلى المسيح الموعود عليه السلام: “فدت نفسي في سبيلكم، كلُّ ما هو لديَّ ليس لي بل هو لكم كلُّه. يا مرشدي ومطاعي أقول بكامل الصدق والحق…”

الحقيقة أنه لم تكن له حاجة للقول: “إني أقول بكامل الصدق والحق”، لأن حضرته رضي الله عنه كان صِدِّيقًا وكان المسيح الموعود عليه السلام يعرف جيدا أن كلامه لا يحتوي على شيء إلا الصدق والحق، ولكنه مع ذلك يقول مندفعًا بحماسه المفرِط: “إنني أقول بكمال الصدق والحق إنه لو بُذِلتْ أموالي وثروتي كلّها في سبيل نشر الدين لفزتُ بالمرام”.

إن كلمة “لو” في جملة “لو بُذِلتْ أموالي وثروتي” هي التي تحدثت عنها قبل قليل أن العائق الوحيد في هذا السبيل كان عدم الإذْن لذلك من قِبل الإمامِ المهدي والمسيحُ الموعود عليه السلام، لأنه لم يرغب في أخذ أموالِه كلِّها. وهذا أسلوب من الأدب الذي يجب على أبناء الجماعة أن يأخذوه بالحسبان دائمًا. بعض الناس يقدمون الأموال ومنهم من يقول أيضا أن آخذ كل ما لديهم ولكن قلبي لا يسمح بذلك. وهذا القرار لعدم السماح قد خوَّلنيه سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه إذ كان حضرته أيضا في بعض الأحيان لا يسمح بذلك، ليس لأن حضرته عليه السلام كان يشك (والعياذ بالله) في إخلاص المعطي، وإنما لأن حضرته عليه السلام كان يعرف أن أخذ جميع الموال قد يؤدي إلى بعض الأضرار أيضا، منها مثلا أنه يكون هناك كثير مِن الذين سوف ينكشف إفلاسهم على الآخرين. كما يكون هناك من يدفع كل ما لديه، ويكون هناك مَن يمسك كثيرا لنفسه أيضا، وهكذا يتعرض مثل  هؤلاء الناس لشعور الدونية إزاء الآخرين. هذا رأيي الشخصي، وقد تكون هناك حِكَمٌ أخرى أيضا لعدم قبول سيدنا المسيح الموعود جُلَّ أموالهم.

في هذا الصدد أقدم لكم رواية لحضرة الشيخ محمد أحمد مظهر رحمه الله، سمعها من أبيه منشي ظفر أحمد رضي الله عنه ثم حاول أن يرويها ف يكلماته بالضبط. هذا يعني أنه كان هناك كثير من الصلحاء الآخرين ما عدا حضرة المولوي نور الدين رضي الله عنه، الخليفة الأول للمسيح الموعود عليه السلام، الذين كانوا يُكِنُّون في قلوبهم الأمانيَ نفسها. فيروي حضرة الشيخ محمد أحمد مظهر عن أبيه ما مفاده: في إحدى المرات حين كان المسيح الموعود عليه السلام في مدينة “لدهيانه” حضرتُ أنا (منشي ظفر أحمد) عنده، فقال حضرته ما معناه: هل تتحمل جماعتُكم – إنفاقَ ستين روبية لنشر إعلان ضروري”؟ لاحِظوا الأوضاع في تلك الأيام حيث اضطر حضرته عليه السلام لطلب المساعدة قدرها ستين روبية فقط كان بحاجة إليها، ولكنه كان يعرف جيدا ممن يجب أن يطلب.

فيقول المنشي ظفر علي خانْ: فأجبته بالإثبات، وإثر عودتي إلى مدينة كفورتهله بِعتُ حليةً من حُلَى زوجتي – وبيعُ تلك الحلية مقابل ستين روبية في تلك الأيام يعني أنها لا بدَّ أن تكون ثقيلة الوزن وغالية الثمن – ولم أذكر ذلك لأحد من أبناء الجماعة عندنا، ثم طِرت بالنقود إلى المسيح الموعود عليه السلام، ما أجمله من تعبير “طِرتُ” هنا، أي ذهبتُ بالنقود إلى المسيح الموعود عليه السلام فرحا مسرورا على قدم الإستعجال. قم حدث أن حضر السيد منشي أرورا المحترم أيضا مدينةَ لدهيانة بعد بضعة أيام – إن السيد منشي أرورا رضي الله عنه أيضا كان يملك روح التضحية الخارقة وكان دائما يتحين الفرص ويتطلع إلى انتهازها لخدمة الجماعة بأية صورة ممكنة – فذكر سيدُنا المسيح الموعود عليه السلام ذلك الأمر للسيد منشر أرورا رضي الله عنه، ظنًّا منه أنه لما كان قد طلب هذا المبلغ من جماعة “كفورتهلة” فتكون الجماعة كلها قد دفعته، وشَكَرَ الجماعةَ قائلا: “إن جماعتكم قد قدمت المساعدة في وقت ضرورة ملحة. كنت بحاجة إلى ستين روبية فوصلتني على الفور”. فاستاء السيد منشي أرورا رضي الله عنه كثيرًا عند اطلاعه على أن حضرة المنشي ظفر أحمد قام لوحده بتقديم المبلغ المطلوب ولم يخلره بطلب سيدنا المسيح الموعود عليه السلام المساعدة المالية من جماعة كفورتهله وبذلك فاتته فرصة الخدمة. ويقول المشي ظفر علي خانْ: “إنه لم يسامِحْني طيلة حياته هذا التقصير الذي جعل فرصة التضحية تفلت منه”. على أية حال شعر سيدنا أحمد عليه السلام بأنه كان من الخطأ إخباره بذلك وحاول أن يُزيل عنه الغضب، فقال للسيد منشي أرورا خانْ بتودُّد متزايد: “لا تقلق: ستكون هناك فرصٌ كثيرة للخدمة”. ولكن الراوي يقول: “إن السيد منشي أرورا – رغم ذلك – ظلَّ ساخطًا عليّ”. ومما لا شك فيه أنه انتهز فرصًا كثيرة للخدمة.

والآن أقدم إليكم بعض المقتبسات لسيدنا أحمد عليه التعلقة بالتبرعات. يقول حضرته: “إذا كان أحد لا يعقد الميثاق، فيجب طردُه (من الجماعة). إنه منافق”.

والمراد من الميثاق هنا هو: انه عندما يُوفَّق أحد للإنضمام إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية وبالتالي يكون على معرفة بما وهبه الله تعالى من خير وفضل، وماذا يتوجب عليه تقديمه في حضرته عز وجل، فهذا يُعتبر نوع من الميثاق بين الله وعبده. وإذا كان أحد لا يعقد الميثاق فهو منافق. سيدنا أحمد عليه السلام: “إذا كان أحد لا يعقد الميثاق، فيجب طردُه (من الجماعة) إنه منافق وقلبه مسودٌّ لا نقول إطلاقًا أن تدفعوا مبلغا معينا كل شهر لا محالة، وإنما نقول أن تدفعوا بعقد ميثاق لا تنقضونه أبدا”.

ثم يضرب حضرته لهذا الميثاق مثلا ويقول: “إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا قد أُخبِروا أوّلا”.. أي بكيفية الميثاق. يقول حضرته: “إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا قد أُخبروا بذلك أولا أنكم “لن تنالوا البِرَّ حتى تُنْفِقُوْا مِمَّا تُحِبُّونَ”. أي إنكم لن تعرفوا البِرَّ ما لم تنفقوا من المال الذي أُشرِبتم حبَّه. فكل هؤلاء الذين يقيم كثير من أمثالهم في أمريكا لا يمكن لهم أن يتصوروا البِّرَ لأن المال الذي شغفوا بحبه يمنعهم من الإنفاق في سبيل الله. والمراد من “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون” هو: أنكم فقط تتوهمون أنكم سوف تنالون البرَّ، ولكن الحقيقة أنه لا يمكنكم أن تتصروا به. وأنّى لكم ذلك وأنتم لا تنفقون مما تحبون.

وليكن معلوما في هذا الصدد أن الآية تقول إن حب الله تعالى لا بد أن يُعقبه الإنفاق. والعلاج الوحيد للبخل هو حب الله جل جلاله. من المعروف أن الناس العاديين أيضا عندما يحبون أحدًا يُهلكون من أجله أحيانا كلَّ ما يملكون من نفس ونفيس. ولو لم يقبله المحبوبُ لاستاؤوا كثيرًا وتألموا وتعذبوا. ولقد سبق لي أن ضربتُ في هذا الصدد بعض الأمثلة من أبناء الجماعة. فإذا تعلمتم الإنفاق من جراء الحب لَتحليتم بآداب الإنفاق أيضا. ولو لا الحب لَمَا أعقبه إنفاق قط. فالعلاج والحيد لبُخل اللخلاء هو أ، يحاولوا جعْل أنفسهم أسارى لحبِّ الله جل جلاله. يعطون لأقربائهم ويفرحون، فلِمَ لا يعيدونها بدلا من ذلك إلى الذي أعطاهم. إنه تعالى بكل حبٍّ وتودُّدٍ وأمل يستعيد منهم فيقول: “ومما رزقناهم ينفقون”.. أي أعيدوا إليّ قليلا مما أعطيتكم، لا أطلب منكم كل شيء. والحقيقة أنه بقدر ما يزداد الحب بقدر ما يرتفع مستوى “ومما رزقناهم ينفقون”.

لقد حاولت أكثر من مرة إفهام أبناء الجماعة أن الحب ركيزة أساسية للإنفاق. إنكم تنفقون على أولادكم لسبب واحد وهو أنكم تحبونهم. إذا كنتم تحبون أحدا ولو رفض هو تضحيتَكم لتألمتم كثيرا. فمِن هذا النطلق لا بد من وجود حبِّ الله أيضا للإنفاق في سبيله تعالى، وهذا الحب لا سبيل إليه إلا الدعاء. كان النبي كانت أسمى وأرفع بكثير من كيفية قلب سيدنا داوود عليه السلام، ولكن إذا كان هناك عاشقان يحبان حبيبًا واحدًا وكان حُبهما نزيهًا من الحسد بل يكون ناتجًا عن عاطفة الغبطة فلا بد أن يحب بعضهما بعضًا أيضا من جراء حبِّهما لشخص واحد.

كان النبي يدعو بدعاء سيدنا داوود عليه السلام: وحبَّ مَن يحبك، والعملَ الذي يبلِّغني حبَّك، اللهم اجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد”. لا شك أن العطاشى هم الذين يدركون حقيقة حبِّ الماء البارد، وإلا فمن يدري مدى أهميته. فهذه هي العاطفة التي يضمها الدعاءُ الآنف الذكر حيث جاء فيه: اللهم ارزقني حبًّا يرويني لدرجة لا يروي شيء مثل إروائه.

هذا هو الدعاء المتواضع الذي كان النبي يبتهل به إلى ربه بصفة منتظمة. وإنني أيضا ألفتُ أنظار الجماعة أن يبتهلوا إلى الله تعالى بهذا الدعاء لأنفسهم باستمرار، لأنكم لن تفوزوا بشيء بدون نصرة الله تعالى. ولو فزتم بحب الله لزالت المشاكل جميعا. وعندها سوف تنفقون في سبيل الله حسبما يقتضيه الموقف، ومع ذلك سوف تحسبون أن ما أنفقتموه قليل جدا وما استطعتم القيام يجب. كان حضرة المصلح الموعود، الخليفة الثاني رضي الله عنه للإمام المهدي عليه السلام معجبًا كثيرًا ببيتٍ قال فيه صاحبه بالأردية ما معناه: “لقد سلمنا له (أي لله تعالى) نفسنا التي كانت من عطائه جل جلاله أصلا، والحق أننا لم تستطع أن نؤدي الحق”. فكان حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه معجبًا بهذا البيت أكثر من غيره من كآفة أبيات شعر “غالب”، وكان يبتهل دائما في حضرة الله تعالى قائلا: كلَّ ما قدمناه في حضرة الله تعالى لم نأت به من بيتنا بكل ذلك كان من عطائك يا ربَ. كان بإمكاننا أن نضحي بحياتنا ولكن من أين جئنا بها أيضا؟ لا شك أن الحياة أيضا من عظائك يا ربّ، لذا لا نستطيع أن نؤدي الحق. أي لا نستطيع أن نؤدي حق عبادتك وعبوديتك بشكل من الأشكال.

ينيغي أن نفهم هذا الأمر جيدا، ولو فهمتموه لسألتم الله تعالى التوفيقَ وبالتالي تعلمتم أساليب الإفاق في سبيل الله أيضا بفضله تعالى وتوفيقه. وإلا سوف تقضون الحياة عبثًا حتى يأتي وقت تبلغ النفس الحُلْقُومَ ومالُكم لن يبق مِلكًا لكم. ثم المعاملة التي يعاملكم بها الملائكة حينئذ سوف تلقَّون المعاملة نفسها في الآخرة. فهل من المعقولية في شيء أن تضيِّعوا جميع الأموال التي ادخرتموها، وتضيعوا في عدم الشكر نِعَم الله تعالى التي نزلت طوال الحياة حتى تفلت هذه الحياة والآخرة كلتاهما من أيديكم؟

إذًا فهناك حاجة لإفهامكم الأمر، وها أنا أحاول فعل ذلك، ولكن الحقيقة أنه لا يعقل إلا مَن شاء الله له أن يعقل ويتذكر. ويستحيل عليّ أن أُشربكم العقلَ لأنه كان مستحيلا للنبي الأكرم أيضا. فقد أمره الله تعالى أنه ليس عليك إلا البلاغ المبين. أي عليك المثابرة في التبليغ وحاوِلْ أن تبلِّغهم بما أمرك الله به، وإن لم بتَّعظوا فليس هذا خطأك، لأنك قد أديت مهمة التبليغ بكل معنى الكلمة، والآن اترك أمرهم إلى الله تعالى. وإنني لا أقول إن الله تعالى قد وهب لي (والعياذ بالله) مكانة روحية لم يهبها للنبي ، ولا يمكن أن تخطل مثل هذه الفكرة ببالي أيضا بشكل من الأشكال، غير أن المراد من البلاغ – كما فهمتُه من أسوة النبي – هو الشرحُ والإفهام إلى الدرجة القصوى.

وهذه هي الرسالة التي احتلت مقام الصدارة في خطبة النبي الأخيرة. عندما انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى – وكان هناك وقت محدد لرحيله أيضا وكان لا بد من الرحيل – ولكن فكِّروا مليًّا أية فكرة كانت مستولية على قلبه آنذاك!! الفكرة الوحيدة التي أخذت منه كل مأخذ وتمكنت من قلبه وقالبه عندها كانت: فيما إذا كان قد أدَّى حق تبليغ الرسالة التي كلَّفه الله بها؟ فأَشهد النبي على ذلك جميع الموجودين قبل وفاته واستفسر منهم مرارًا قائلًا: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ فشهد الجمعُ الغفير الذي لم يسبق له نظير من قبل بصوت عال وقالوا: نَعَمْ، قد بلَّغْتَ يا رسول الله.

هكذا يعني أنه يجب ألا يُترك أمرُ التبليغ على عواهنه، بل ينبغي على الإنسان المثابرة في أداء هذه المهمة لدرجة يكون آخر همِّه في الحياة فيما إذا كان قد بلَّغ الرسالة أم لا؟ هكذا كانت أسوة النبي ، وإنني أيضا أبلِّغكم الرسالة بهذا المعنى مرارًا وتكرارًا، لأنه يتوجب عليّ – تأسِّيًا بأسوة النبي – أن أحاول قصارى جهدي أن أُرسِّخ هذه الحقيقة في أذهانكم وقلوبكم كما فعل النبي . ولكن – وكما قلت آنفا – لا يحدث شيء إلا ما يشاء الله تعالى، وإن لم يشاء الله لا يُفَّق أحد في عمله.

يقول سيدنا المسيح الموعود عليه السلام ما تعريبه: “إذا كان أحد لا يستطيع يواجهة حاكمٍ بسيط إِثر ارتكابه الخيانةَ في حقه، فأنَّى له أن يواجه أحكمَ الحاكمين بعد ارتكاب الخيانة في حقه”.

ليت الناسَ يفهمون أنهم مضطرون لمواجهة الله تعالى كيفما كانت وجوههم، فلو قضوا الحياة كلها في ارتكاب الخيانة في حقه تعالى، فبأي وجهٍ يحضرون في حضرة الله ويواجهونه؟ لقد نفث سيدنا أحمد عليه السلام روح الحياة في الموضوع كله بهذه الجملة الوجيزة. ولَكَمْ هي مرجفة للقلوب وموقظة للضمائر الراقدة!! إذ يقول حضرته فيها:

“….لا يستطيع أحدٌ مواجهة حاكم بسيط بعد ارتكاب الخيانة في حقه. (وهذا صحيح تماما) فأنَّى له أن يواجه أحكمَ الحاكمين بعد ارتكاب الخيانة في حقه؟”

ثم يقول حضرته عليه السلام ما معناه:

“إذا كنت أؤكد مرارًا على الإنفاق في سبيل الله فذلك بأمر من الله تعالى، لأن الإسلام اليوم في حالة الغدبار. إن القلب بضطرب نظرًا إلى ضعفه الخارجي والداخلي وكونِه عرضة للأديان المناوئة”.

فهذه هي الظروف التي دفعتني لهزَّ ضمير أبناء الجماعة في أمريكا. وقد عقدتُ العزم الآن أن أعامل الذين أعرف أنهم يقومون بمثل هذه الخيانات والخديعات، كما أمر به سيدُنا  المسيح الموعود عليه السلام، بأنهم يجب أن يُطرَدوا من صفوف الجماعة. لسنا بحاجة إلى تبرعاتهم إطلاقًا، كان نوعها. أكانوا يدفعونها باسم بناء الساجد أو باسم التبرعات الإلزامية أو الوصية، فإن نفوسهم تشهد عليهم وشهادتها قد سُجِّلت ضدهم. ثم بعد مماتهم تشهد عليهم جلودهم. ولقد شرح النبي كيفية شهادة الجلود. ولو قرأتم هذه الأمور في ضوء القرآن الكريم لعلمتم أنه لا مجال للشك فيها. ولكن إلى جانب هذا القرار هناك حاجة أيضا إلى ترتيب البرامج لتنشيط نظام الجماعة أيضا.

لقد لاحظت أن المُحَصِّلين (الجباة) في الجماعة بأمريكا يمرون بهذه الأمور مرَّ الكرام. ويحسب المحصِّلون أن كلَّ ما يدفعه المتبرعون حسب رغبتهم – أيا كان مقداره – بشكل عام أنهم يدفعونه حسب المستوى المطلوب. ولقد قُدِّمت إلي بعض السجلات جاء فيها أن جميع هؤلاء يتبرعون بحسب المستوى المطلوب تماما. وعندما استفسرتُ عن كمية البلغ الذي يدفعه متبرِّعٌ معيِّنٌ تبين لي أن الذي زعمه المسؤولون في الجماعة المحلية أنه يتبرع حسب المستوى المطلوب لا يتبرع كما يجب، بل إن مساهمته في بعض الحالات لا تبلغ واحدًا في المائة مما يتوجب عليه، ناهيك عن المستوى المطلوب. ثم عندما بحثت في الأمر وتعمقت أكثر اطلعتُ على كثير مِن الذين أخذتُ في أمرهم إلى جانب بعض الأمور الأخرى قرارًا نهائيًا كنت قد أخذتُه من قبل أيضًا. ولكن لو لم يخبرني المسؤولون عن هؤلاء الناس الخطأ ليس خطئي أنا.

إنني أصرَ دائمًا أنني لن أقبل هديةً شخصية من أيِّ شخص ما لم يؤدِّ هو حق الجماعة بكامله. وبسبب معلومات غير صائبة من قِبل المسؤولين في الجماعة عن بعض هؤلاء الناس ظللتُ مضطرًّا منذ فترة طويلة لقبول الهدايا الشخصية من بعضهم، إذ ما كنتُ مطّلعًا على الحقيقة. على أية حال عندما بحثت في الأمر بعمق تبين لي أنني كنت ولا أزال في غِنًى عن هدياهم، بل وجدتُ في نفسي كراهية شديدة لما قبلتُه من هداياهم من قبل. إذًا فما لم تستَوِ معاملة هؤلاء الناس مع الجماعة لن تخلق هديتهم في قلبي عاطفةَ الحب لهم، ولن تخلق هداياهم في قلبي أي أثر العبء والألم. لذا يجب أن تُسَوُّوا معاملاتكم مع الجماعة، فإنني مُوَجِّهٌ إلى أمير الجماعة تعليمات أن يبحث في أمر مثل هؤلاء الناس بحثًا دقيقًا وألا يتقيد في تقرير سكرتير المال فقط بأنهم يدفعون حسب ما يترتب عليهم، بل يجب أن يستخدم المِهنيين من الأحمدين الذين نعرف عنهم مائة بالمائة أنهم مخلصون ويتبرعون حسب المستوى المطلوب تماما. وينبغي أن يبحث هؤلاء المِهنيون في ميزانيات تبرعاتهم. ثم لو اقتضى الوقف لإعادة تبرعاتهم إليهم التي دفعوها منذ 10 عاما أو أكثر مثلا فليفعل ذلك دون أدنى تردد. أما الذي أضمن لكم أنا فهو أنَّ الجماعة في أمريكا لن تتعرض لأي نقص في الأموال، فهناك كثير من الأحمديين المخلصين بفضل الله تعالى خارجَ أمريكا الذين يرسلون إليّ مبالغ كبيرة جدا لأتصرف فيها كما أشاء. لذا فقد طلبتُ من المسؤءل عن الأمور المالية الذي يرافقنا في هذا السفر أن يقول لأمير الجماعة هنا أن يبدأ بإعادة هذه المبالغ ويطمئن أن جماعة أمريكا لن تتعرض لخسارة مالية ولا بمليم واحد. فإن الجماعة من خارج أمريكا سوف تساعدها. لذا يجب أن تقوموا بهذه التضحية دون أدنى تردد وتعودوا إليهم تبرعاتهم. لسنا بحاجة إليها إطلاقا. إنها بصمة الشؤم على جبين جماعة أمريكا ويجب الا تعود إليها هذه البصمة مستقبلا.

وإنني لَآمَل ان أمير الجماعة في أمريكا لن يتردد أبدًا في البحث في أمور هؤلاء الناس ولا سيما بعد هذا التأكيد. إنني على يقين انه كان منفِّذا بما أمرته لا محالة، حتى لو لم أؤكد له بذلك. لا شك أن تنفيذ هذا النظام سيأخذ بعض الوقت، لذا لا بد أن يكون عند جماعة أمريكا بديلا ريثما بأخذ هذا النظام مساره.

وإنني أؤكد لكم أيضا أنه لو تبرع أولو الفضل والسعة من جماعة أمريكا حسب وسعهم الذي وهبهم الله، لما احتجتم إلى جمع الأموال باسم تعمير المساجد، ومهما بنيتم من المساجد لتكفلت التبرعاتُ الإلزامية وحدها نفقاتِها، بل سوف يتوفر لديكم كمٌّ هائل من النقود لدرجة تسدّ جميع حاجاتكم المتعلقة بالتبليغ. والمشاكل التي تعرقل سبيلكم في هذا المجال سوف تنحل كلها تلقائيا. وهكذا سوف تتوفر لديكم للتبليغ أموال من شأنها أن تحقق جميع أمانيكم القديمة وتحدث تلك الثورة التي نتطلع إليها بشدة. آمل أن الإخوة في أمريكا الذين لهم نفوس غنيَّةٌ والذين هم ذوو ضمائر حية سوف يبدؤون على الأقل سفر حياتهم من جديد مستفيدين من نصيحتي هذه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك