تأثير الألوان و منافعها على الناس
  • العلم الحديث وتوصله إلى اختلاف منافع الأشياء بألوانها
  • التعليم الإلهي الواحد ونفعه للجميع
  • كيف سخر الله البحر لمنفعة الإنسان؟
  • دور الوحي في تقديم الحقائق
__
مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (14)

شرح الكلمـات:

ذَرَأَ: ذَرَأَ اللهُ الخلقَ: خَلَقَهم. ذَرَأَ الشيءَ: كثَّره. ذَرَأَ الأرضَ: بذَرَها (الأقرب).

ألوان: جمع لون وهو: ما فصَل بين الشيء وبين غيره؛ صفةُ الجسد وهيئتُه من البياض والسواد والحمرة وغير ذلك؛ النوعُ (الأقرب).

التفسـير:

مِن معاني الذَّرْء الخلقُ كما ذُكر من قبل، إذن فهذه الآية تتحدث عن كل موجود في الكون من حيوان أو نبات أو جماد.

يبدأ من هذه الآية موضوع جديد حيث بيّن الله هنا اختلاف الألوان وتأثيرها ومنافعها للناس. ما أعظمَ كلامَ الله القرآنَ الكريم! فقد بيّن دقائق الحكمة هذه في زمن كان أهله غافلين عنها تمامًا، إذ لم يُكتشف تأثير الألوان على أسس علمية إلا في العصر الحديث، فقد تمكَّن العلماء اليوم إلى حد كبير من علاج الأمراض باستخدام الأشعة البنفسجية وفوق البنفسجية وغيرها مما تم اكتشافه.

إن هذه الأشياء كما تختلف في ألوانها الظاهرة فإنها تختلف كذلك في ألوانها الباطنة؛ وكما أن حوائج الإنسان المادية مختلفة كذلك خلق الله إزاءها أشياء مختلفة الألوان والتأثير…

وقد فتَح علمُ تأثير الألوان بابًا جديدًا في الطب النباتي، فقد شرعوا في علاج الأمراض بمساعدة الألوان، حيث يملئون القوارير ذوات الألوان المختلفة بالماء العادي ويضعونها في الشمس ويحوّلون هذا الماء إلى دواء. لم يقم هذا العلاج بعد على أسس علمية، ولكن لا يمكن إنكارُ بعض منافعه الثابتة بالتجارب.

كما أنه من الثابت المتحقق أن شيئين مماثلين من جنس واحد يُحدِثان تأثيرين مختلفين إذا اختلفا في اللون. خذوا مثلاً ثمر التوت، فإن الأبيض منه يسبب الالتهاب في الحلق، بينما الأسود منه جد نافع في معالجة مرض خطير كالخناق. كذلك الصندل الأسود والأبيض مختلفان في قوتهما وفائدتهما (خزائن الأدوية ج 5 ص 92). والحال نفسه بالنسبة لمئات الأشياء الأخرى. ولا شك أن هناك الكثير والكثير من الأشياء التي لم يكتشف العلماء بعدُ تأثيرَ ألوانها، ومع ذلك فإن ما اكتُشف إلى الآن يؤكد تأثيرَ الألوان بحيث لا يسع أحدًا إنكارُه.

وفي الطب الحديث أيضًا يعالجون بعض الأمراض الخطيرة بمختلف الألوان. فمثلاً وجدوا أن أكريفلافين (acriflavine) الأصفر ناجع في معالجة الجروح الخارجية، بينما مكوروكروم (mercurochrome) الأبيض نافع في الجروح الداخلية؛ وبالنظر إلى لون أكريفلافين (acriflavine) الأصفر خطر ببالي مرة أن اللون الأصفر له تأثير جيد في معالجة الجروح، وربما من أجل ذلك كانوا في القدم يستخدمون الكركم بكثرة لمعالجة الجروح. فقمت باستخراج جوهر الكركم، وآتيتُه أحد الأطباء ليقوم باختباره على مرضاه؛ فأخبرني أنه يماثل أكريفلافين الأصفر في التأثير غير أنه أقل منه قوة وفعالية. فأدركت من قوله هذا أنني لم أتمكن من استخراج جوهر الكركم بالقدر الذي تمكنتْ منه الشركةُ الألمانية التي صنعت هذا الدواء.

وباختصار فإن تأثير الألوان حقيقة ثابتة، وإن كان هذا العلم ما زال في طور التقدم والاكتمال بعد. وقد لفت القرآن الكريم بذلك الأنظارَ إلى أنه ليست الأجرام وحدها التي سخّرها الله للناس، بل سخر لهم ألوان الأشياء أيضًا، وخلَق لرقيهم البدني شتى الأسباب بهذه الطرق الدقيقة؛ فكيف يحقّ لهم الظن أن لا داعيَ أن يهيئ الله تعالى لرقيهم الروحاني أسبابًا مماثلة بل ما هو أدقّ منها وأوسع.

كما أشار بذكر اختلاف الألوان إلى أن الشيء الواحد يمكن أن يكون مماثلاً للشيء الآخر من الجنس نفسه، ولكنه في الوقت نفسه يختلف عنه في نواح أخرى. فمثلاً كل فرد من بني البشر إنسان، ومع ذلك ليس هناك اثنان منهم يستويان شكلاً وكفاءةً. وبالمثل فكل رأس من الإبل يسمى بعيرًا، ولكن لا يوجد بينها بعيران يتشابهان تمامًا من حيث الشكل والقوة. وهذا هو حال النباتات أيضًا، خذوا مثلاً أشجار المانجو، فهي كلها أشجار، ولكن لكل شجرة منها هويتها وشكلها؛ والأمر نفسه ينطبق على ثمارها أيضًا. فكأن كل فرد متحدٌ مع أفراد جنسه الآخرين جدًّا ومختلف عنهم تمامًا في الوقت نفسه. والإنسان إنما يستطيع التمييز بين أقاربه، من أب وأم وولد وزوج وأخ، بفضل هذا الاختلاف في الألوان والملامح التي لولاها لصعب التمييز بين إنسان وآخر. فالله تعالى هو الذي جعل هذه الفروق الكثيرة بين شيء وآخر. وهذه الفروق دقيقة جدًّا، فاللون الأبيض مثلاً على أنواع ودرجات بحيث لا يمكن وصفها، كذلك يتنوع اللون الأسود درجات بحيث يستحيل بيانها باللسان، وإنما هي العين التي تدرك هذه الفروق الدقيقة وتميز بين شيء وآخر، أما اللسان فهو يعجز عن وصفها في معظم الأحيان.

ولقد نبه الله هنا إلى الجانب الروحاني في هذا الفرق وقال: إن هذه الأشياء كما تختلف في ألوانها الظاهرة فإنها تختلف كذلك في ألوانها الباطنة؛ وكما أن حوائج الإنسان المادية مختلفة كذلك خلق الله إزاءها أشياء مختلفة الألوان والتأثير. فلا أحد من البشر يستطيع الإحاطة بحاجات الإنسان المادية بشكل تام، وليس بوسع أحد منهم أن يخلق الوسائل لتغطية تلك الحاجات الإنسانية؛ ذلك لأن كل فرد من البشر يختلف عن غيره مزاجًا وحاجةً؛ فهذا ينفعه الحلو وذاك ينفعه الحامض، وهذا يحب الباذنجان وذاك يكرهه، وهذا يأكل الموز بشهية، وذاك يعاف حتى تذوقه. فطبائع البشر تختلف من حيث المزاج والذوق والحاجة اختلافًا لا حد لـه، وقد خلق الله إزاءها أشياء متنوعة جدًّا بحيث يمكن لكل إنسان أن يجد بينها ما يلائم طبعَه ومزاجه وحاجته. أما البشر فلا يقدرون حتى على إحصاء نواحي الاختلاف في الطبائع البشرية بَلْهَ أن يكونوا قادرين على تلبية حاجات الجميع وفق أمزجتهم المختلفة وأذواقهم المتباينة؛ وإنما الله وحده القادر على ذلك، فهو الذي خلق الناس بألوان وأمزجة وميول شتى، ثم خلق إزاء ذلك أشياءَ ذات أنواع وألوان شتى ليسدّ بها حاجاتهم المتنوعة. ونظرًا إلى هذا فلا تؤخذ كلمة أَلْوَانُهُ هنا بمعناها العادي فقط، بل أيضًا بمعنى الأنواع والأقسام، وقد سُجّل هذا المعنى في شرح الكلمات من قبل.

فالله يلفت بذلك الأنظارَ إلى أنه هو الذي خلق الأشياء صنوفًا وألوانًا ليسد بها حاجاتكم المختلفة مراعيًا شتى رغباتكم وميولكم، وما كان لكم أن تسدّوها بأنفسكم أبدًا؛ فكيف تظنون أن بإمكان البشر أن يخترعوا تعليمًا ينفع الجميعَ على السواء رغم ما يوجد في قواهم الخُلقية من تفاوت واختلاف. كلا، إنما الله وحده الذي يقدر على تلبية حاجاتهم المختلفة، فهو الذي خلقهم بهذه الطبائع والأمزجة والميول المتباينة، وهو الأعلم بحاجاتهم المختلفة. أما ما يخترعه الإنسان من منهج وتعليم فلا بد أن يكون خاضعًا لأهوائه ورغباته هو، وإذا قامت مجموعة منهم واقترحوا أي منهج وقانون فلا بد أن يكون مشوبًا بشوائب أمزجتهم وميولهم فقط. وإنما الله وحده الذي يمكن أن يُنـزل تعليمًا يراعي ميول البشر كافة، ويلبي مقتضيات الفطرة البشرية كلها، ويغطي حتى الحاجات الخفية أيضًا. فثبت أنه لا بد من نزول الوحي لرقي الإنسان روحانيًّا، إذ ليس بوسع البشر أن يلبّوا حاجاتهم الروحانية بمساعدة عقولهم وحدها، وإذا حاولوا ذلك فسيكون في نطاق محدود جدًّا بحيث لن يسد حتى حاجات شخص واحد بشكل كامل، كما لن يلبي بعض حاجات الجميع.

وختم الله هذه الآية بقوله: إن في ذلك لآيةً لقوم يذّكّرون لأن سد حاجات البشر ذوي الألوان المختلفة قضية أخلاقية بحتة، وهي بالطبع وثيقة الصلة بالذكر والنصح.

وقد لا تهدف كلماتُ (يتفكرون، يعقلون ويذّكّرون) الواردة في نهاية كل من هذه الآيات الإشارةَ إلى موضوع كل واحدة من الآيات على حدة، وإنما تكون جميع هذه الكلمات ذات صلة بفحوى الآيات كلها معًا، وجاءت بهذا الترتيب بحسب درجاتها الطبيعية. فقد ذكر الله تعالى التفكرَ أولاً لكونه أول وسائل الإصلاح، لأن الإنسان حينما يميل إلى الخير أو الشر يبدأ في التفكير أولاً؛ وحين ينضج فكره ويكتمل يتولد فيه العقل.. بمعنى أنه يكف نفسه عن ارتكاب الشر، ويشرع في إصلاح أعماله؛ وتليها المرحلة الثالثة أي التذكر حيث يتأصل الخير في الإنسان، فيتذكر واجبَه عند كل خطوة، دون أية حاجة إلى مذكِّر خارجي يردعه عن المعاصي، وإنما يتذكر ويتّعظ تلقائيًّا، ويمسك بمبدأ الخـير دومًا، حـيث تصـبح الصـالحات طبيـعة ثـانية له.

فثبت أنه لا بد من نزول الوحي لرقي الإنسان روحانيًّا، إذ ليس بوسع البشر أن يلبّوا حاجاتهم الروحانية بمساعدة عقولهم وحدها، وإذا حاولوا ذلك فسيكون في نطاق محدود جدًّا بحيث لن يسد حتى حاجات شخص واحد بشكل كامل…

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)

شرح الكلمـات:

طريًّا: طَرِيَ الغصنُ واللحم والثوب يطرَى وطَرُوَ يطرو طَراوةً وطَراءةً وطَراءً: كان طريًّا (الأقرب).. أي كان طازجًا.

حِلْيَة: الحِلية: ما يُزيَّن به مِن مصوغ المعدنيات أو الحجارة الكريمة، والجمعُ الـحُلِيّ (الأقرب).

الفُلك: السفينةُ يذكَّر ويؤنَّث (الأقرب).

مَواخر: جمعُ ماخرة. مخَرت السفينةُ: جرَت تشقّ الماء مع صوت؛ وقيل: استقبلت الريحَ في جَريتها. ومخَر السابحُ: شقّ الماءَ بيديه. والفُلك المواخرُ: التي تشق الماء مع صوت (الأقرب).

التفسـير:

كان الحديث في الآيات السابقة عن النِعم البرّية أو التي يمكن أن ينتفع بها الإنسان وهو في البر، وأما الآن فذكر الله البحر وكونه مسخَّرًا للإنسان.

وهنا أيضًا استخدم الله تعالى كلمة التسخير للبحر، لأنه لا سلطان للإنسان على البحر، وإنما ينتفع به فقط.

وجدير بالملاحظة هنا أنه لدى الحديث عن تسخير الليل والنهار والأجرام السماوية قد أضاف الله كلمة بأمره ، ولكنه لدى الحديث عن تسخير البحر لم يضف كلمة بأمره ! وهذا لا يعني أن تسخير البحر لا يتم بأمر الله ، وإنما سببه أن الإنسان لا يتكبد مشقة ولا عناء في الانتفاع من الأجرام الفلكية، وهكذا تكون هذه الأشياء مسخَّرات للإنسان بأمره تعالى كليةً، وأما فيما يتعلق بالبحر فلا بد للإنسان من بذل المجهود حتى ينتفع من منافعه، كأن يصنع السفينة ويحيك المصيدة، ولذلك لم يقل الله هنا بأمره ، وإلا فأي شك في أن كل شيء يتم بأمره ؟!

إن البحر أيضًا وسيلة كبرى لسد حاجات البشر. إنه يحتفظ بكثير من الكنوز التي لا يمكن أن تظل مصونة بأي طريق آخر. وعلى سبيل المثال يدّخر البحر المياه التي تحملها الشمس بأشعتها على شكل بخار. كما أن البحار تسهّل السفرَ ونقلَ البضائع من مكان إلى آخر، لأن السفر في البحر أقل كلفة إلى حد كبير من السفر على اليابسة، وتستطيع البلاد الواقعة على شواطئ البحار أن تحقق تقدمًا سريعًا وكبيرًا في السياسة والتجارة، لأن البحر لا يقع في قبضة العدو بالسهولة التي تقع بها اليابسة في يده. إذن فالبحر وسيلة لحماية حرية الناس أيضًا.

فقد نبّه الله بضرب مثال البحر أنه خلقه أيضًا ليسد به حاجاتكم العديدة، حيث يغذيكم لحمًا طريًّا من السمك. أفليس عجيبًا أيها الناس أن يزودكم الله بأنواع التسهيلات المادية في رحلاتكم البرية والبحرية، بينما يتغافل عن تسهيل رحلتكم الروحانية؟ ثم أليس من المستغرب أنكم تَقبَلون بكل بشاشة وابتهاج ما يمنحكم الله من المرافق المادية، ولكنه تعالى حين يهيئ لكم المرافق الروحانية ترفضونها قائلين: ما الداعي أن يهيئ الله الأسباب لرقينا الروحاني؟

كما أن هذه الآية تذكّرنا أنه بالرغم من أن الماء يسد حاجات البشر وأنه موجود في الأرض على شكل بحار، إلا أنه ليس بوسع الإنسان أن يستخدم هذا الماء سواء لشفاء غليله أو لسقاء زرعه، ولكن الله يهيئ للإنسان من هذا الماء نفسه غذاء عالي الجودة كالسمك؛ كما أنه تعالى يقوم بتصفية هذا الماء حيث يرفعه بواسطة أشعة الشمس إلى أعالي الجو ليصبح صالحًا لشرب الإنسان. مما يعني أن مجرد وجود الحقائق في الدنيا لا يسمن ولا يغني من جوع، وإنما تنفع هذه الحقائق فقط إذا قام الله بتنقيتها وتصفيتها من خلال الوحي، وجعلها صالحة لاستخدام روح الإنسان.

مما يعني أن مجرد وجود الحقائق في الدنيا لا يسمن ولا يغني من جوع، وإنما تنفع هذه الحقائق فقط إذا قام الله بتنقيتها وتصفيتها من خلال الوحي، وجعلها صالحة لاستخدام روح الإنسان.

ثم قال وتستخرجوا منه حِلْيةً .. أي تتولد اللآلئ التي تلبسونها كحُليّ من هذا الماء نفسِه الذي لا يصلح للشرب؛ كما تمخر فيه السفن التي تسهل بها أسفاركم، وتزدهر بها تجارتكم.

والملفت للنظر أنه تعالى قال من قبل عن الأنعام إنها تحملكم وتحمل أثقالكم، وقد أشار هنا إلى هذا المعنى نفسه لدى الحديث عن السفن. والواقع أن نقل البضائع عبر البحر يتم بتكلفة زهيدة بحيث يستحيل هذا عبر اليابسة، ومن أجل ذلك تجـدون تجارة سكان شواطئ البـحار أكثر ازدهـارًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك