نبذة عن حياة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم

حالة جزيرة العرب عند مولد رسول الله

إن حياة نبي الإسلام  كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

فقال أبو جهل دفاعًا عن نفسه: إن أي شخص آخر كان سيفعل نفس ما فعله هو، وأخبرهم أنه لما رأى محمدا واقفًا على بابه، رأى جملين متوحشين يتأهبان لمهاجمته ويقفان عن يمين محمد وعن شماله.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد الأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

وُلد الرسول في مكة في شهر آب/أغسطس سنة 570  ميلادية. وسُمي محمدًا، ومعناه الشخص الذي هو محمود الصفات. ولكي نفهم حياته وأخلاقه، فلا بد من معرفة الظروف التي كانت سائدة في بلاد العرب وقت مولده.

عندما ولد الرسول ، كانت كل الجزيرة العربية مع بعض الاستثناءات هنا وهناك تدين بتعدد الآلهة. ويرفع العرب نسبهم إلى إبراهيم ، ويعلمون أنه كان نبيًّا يُعلّم التوحيد، وعلى الرغم من ذلك فقد كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة، وكانوا مشركين يمارسون عبادة الأصنام. وفي معرض تبرير هذه الممارسات قالوا إن بعض الناس من البشر يتميّزون بخصائص مدهشة في صلتهم بالله تعالى، ولذلك يستطيعون أن يشفعوا لدى الله تعالى نيابة عن الآخرين، وتلقى شفاعتهم هذه قبولاً لديه. ثم إن الله متعال مجيد، ومن الصعب على الإنسان العادي أن يصل إليه، وإنما يستطيع ذلك الإنسان الكامل وحده. ولذلك، فالإنسان العادي يحتاج إلى وسيط من أولئك الأبرار ليتوسط لـه لكي يقبله الله فينال مرضاته وعونه. وبهذه الأفكار استطاعوا أن يجمعوا بين إيمانهم واحترامهم لإبراهيم ، وهو الذي كان موحِّدًا، وبين عقائد تعدد الآلهة لديهم. فإبراهيم كما يقولون، كان رجلاً ربانيًا من الأبرار، وكانت لـه إمكانية الوصول إلى الله تعالى بدون شفاعة وبغير وساطة. وأما أهل مكة العاديّون، فليس لديهم القدرة للوصول إلى الله بغير وساطة من أشخاص آخرين صالحين وربانيين. ولطلب هذه الشفاعة، صنع أهل مكة أصنامًا لكثير من أسلافهم الصالحين، وهؤلاء هم الذين عبدوهم، وقدّموا إليهم القرابين في سبيل إرضاء الله من خلالهم.

كان هذا مسلكًا بدائيًا وغير منطقي، وكان يشوبه الكثير من العيوب والثغرات، ولكن ذلك لم يقلق أهل مكة في شيء، فلم يكن لديهم نبي مُوَحّد لزمان طويل. وإذا ضرب مرض تعدد الآلهة بجذوره في مجتمع، فإنها تمتد فيهم بغير حدود، إذ يبدأ عدد الآلهة في ازدياد، ثم يستمر في التزايد. وقد رُوي أنه عندما وُلد الرسول ، كانت الكعبة وحدها،  المسجد الحرام والبيت العتيق الذي بناه إبراهيم وابنه إسماعيل لعبادة الله تعالى، تحتوي ثلاثمائة وستين صنمًا. ويبدو أنهم قد جعلوا صنمًا لكل يوم من أيام السنة. وفي الأماكن الأخرى، وفي المراكز الكبرى غير مكة، كانت هناك أصنام أخرى. ولذلك، يمكننا القول إن كل أنحاء الجزيرة العربية كانت غارقة في العقائد الوثنية.

كان العرب مخلصين للثقافة الشفاهية، وكانوا يهتمون اهتمامًا شديدا بلغتهم المنطوقة، حريصين على رفع شأنها. غير أن طموحاتهم الفكرية كانت محدودة، ولم يكن لهم علم ولا دراية بالتاريخ ولا الجغرافيا ولا الرياضيات وغيرها. ولما كانوا من سكان الصحراء، كانوا يضطرون إلى التعرّف على طريقهم في تلك الصحارى دون الاعتماد على علامات أرضية مستقرّة، ولذلك نما لديهم اهتمام شديد بالفلك. وفي كل الجزيرة العربية لم تكن هناك مدرسة واحدة، وقد قيل إن حفنة قليلة فقط من أهل مكة كانوا يعرفون القراءة والكتابة.

ومن الناحية الأخلاقية، كان العرب شعبًا متناقضًا. فقد كانوا يعانون من بعض العيوب الأخلاقية الفظيعة، ولكنهم في نفس الوقت كانوا يتّصفون ببعض الصفات الرائعة. فقد اعتادوا الإفراط في شرب الخمر إلى حد الثمالة، ومن الفضائل عندهم، وليس من الرّذائل، أن يسكر الإنسان ويتصرف بجموح تحت تأثير الخمر. وكان الرجل الشهم الكريم في اعتبارهم، هو من يستضيف أصدقاءه وجيرانه إلى حفل للسُكْر، وعلى الشخص الغني أن يقيم حفلا لشرب الخمر خمس مرات على الأقل كل يوم. أما القمار، فكان رياضتهم القومية، ولكنهم حوّلوه إلى فن دقيق. لم يقامروا ليكونوا أغنياء، بل كان على الفائزين أن يستضيفوا أصدقاءهم. وفي زمن الحروب، كانت تُجمع الأموال من خلال المقامرات. وحتى اليوم، نرى مؤسسات اليانصيب تجمع المال لأجل الحرب، وقد انتعشت هذه المؤسسات في عصرنا على يد شعوب أوربا وأمريكا؛ ولكن عليهم أن يتذكروا أنهم في هذا إنما يقلدون العرب قبل الإسلام فقط. وعندما تقع الحرب، كانت القبائل تجتمع وتقيم حفلات المقامرة، وأيًّا كان الفائز فعليه أن يتحمل القسط الأكبر من تكاليف القتال.

لم يكن العرب يعرفون شيئًا عن وسائل الترفيه للحياة المتحضرة، وإنما كانوا يجدون تعويضًا في الخمر والميسر. وكانت التجارة هي مهنتهم الأساسية، فكانوا يرسلون قوافلهم إلى جهات بعيدة للتجارة؛ فتاجروا مع الحبشة والشام وفلسطين، وكانت لهم علاقات تجارية حتى مع الهند. وكان الأغنياء منهم يُعجَبون بالسيوف الهندية إعجابًا كبيرًا، وأما ملابسهم فكانت تأتي أساسًا من اليمن والشام.

كانت المدن هي مراكز التبادل التجاري. أما بقية بلاد العرب، عدا اليمن والأجزاء الشمالية، فكانت بادية، ليس بها استقرار دائم، ولا أماكن ثابتة للسُكنى. وقد قسمت  القبائل المختلفة هذا الوطن فيما بينها، بحيث يستطيع أعضاء القبيلة أن يتجَوّلوا ما يحلو لهم التجوال في المنطقة التي تخصهم من البادية. وعندما يشحّ الماء في مكان ما، كانوا يرتحلون إلى مكان آخر  ليستقروا فيه. رأس مالهم الغنم والماعز والإبل، ومن الصوف والوبر صنعوا الملابس، ومن جلود الأنعام صنعوا الخيام، وما زاد عن حاجتهم باعوه في الأسواق. كانوا يعرفون الذهب والفضة، ولكن مقتنياتهم منها كانت نادرة. والفقراء والعامة من الناس صنعوا الحلي من الوَدع والمواد ذات الرائحة العطرة، كما ثقبوا بذور البطيخ وجففوها بعد تنظيفها، ونظموها معًا ليجعلوها عقودًا وقلائد.

كانت الجريمة والانحرافات الأخلاقية من أنواع مختلفة متفشيةً. السرقة كانت نادرة ولكن السطو والغزو كان شائعا. فالهجوم على الآخرين وسلبهم كان يعتبر حقا مكتسبًا. ولكنهم في نفس الوقت احترموا كلمتهم أكثر من أي شعب آخر، وحين يلجأ إنسان إلى زعيم قوي أو قبيلة طالبًا الحماية، فإن ذلك القائد أو تلكم القبيلة كانت مُلزَمة بحمايته بموجب تقاليد الشرف، وإلا فقدت القبيلة سمعتها في جميع بلاد العرب. وقد تمتع الشعراء بمكانة خاصة بين العرب، فكانوا يلقون الشرف والمجد والإعـزاز كالزعـمـاء الوطنيين. وكان يُنتظر من الزعماء أن يكونوا بلغاء في الحديث، أو أن يملكوا القدرة على نظم الشعر. وكان كرم الضيافة تقليدًا ذا شأن لديهم حتى صار فضيلة عظيمة، وعندما يصل المسافر الغريب إلى رئيس القبيلة، كان يُعامل معاملة الضيف الشريف؛ فتُعد لـه أفضل الذبائح، وتُقدم لـه كل آيات الاحتـرام. لم يكـونوا يهتمون بشخصية الزائر، إذ يكفي أن زائرًا قد وصل إليهم؛ فالزيارة كانت تعني شرفًا للقبيلة ورفعة في المكانة، ومن ثم ينبغي على القبيلة أن تحتفي بالزائر وتكرمه، فإكرامه يعتبر إكرامًا لأنفسهم.

ولم يكن للمرأة في هذا المجتمع العربي مكانة عالية، ولا حقوق مرعية. وكان يُعد وأد البنات عملاً شريفًا لدى بعض العرب. غير أنه من الخطأ الظن أن عادة كهذه كانت واسعة الانتشار في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، لأن تقليدًا كهذا لا يمكن أن يتسع نطاق ممارسته في أي بلد، وإلا أدّى هذا إلى انقراض أهل ذلك البلد. والحقيقة أنه في الجزيرة العربية، كما هو الحال في الهند، وفي كل بلد آخر يمارس قتل الأطفال، كان هذا الفعل محصورًا في أسر قليلة. وكانت هذه الأسر تبالغ في تصوّرها عن تدني وضعها الاجتماعي، أو أنها كانت تعاني من بعض الظروف الصعبة، أو ربما كانوا لا يستطيعون العثور على أزواج  يناسبون بناتهم. وتحت تأثير هذه الأفكار دفعوا أطفالهم للموت. إن قبح هذا التقليد يكمن في قسوته وبدائيته، وليس في نتيجته المؤثرة على تعداد السكان. وقد استُخدمت طرق كثيرة في قتل البنات الوليدات؛ منها خنقهن ودفنهن أحياءً.

كان المجتمع العربي يعتبر أن الأم هي التي ولدت الإنسان، أَمّا زوج الأب فلم تعتبر أُمًّا، ولم يكن هناك مانع يمنع المرء من أن يتزوج مثل هذه الأم عندما يموت أبوه. أما تعدّد الزوجات فكان شائعًا على نطاق واسع، ولم يكن هناك حدّ لعدد الزوجات المسموح بهن للرجل. وكان يمكن للرجل أن يجمع بين الأخوات في نفس الوقت.

وأسوأ أنواع المعاملة كانت تتوقع من الطرفين المتحاربين. وعندما تشتد البغضاء لم يترددوا في تمزيق أجسام الجرحى، بل واستخراج أجزاء منها وأكلها، شأن أكلة لحوم البشر، بالإضافة إلى تشويه جثث الأعداء. وكان من أشكال القسوة لديهم شيوع قطع الأنوف والآذان واقتلاع الأعين.

كان الرق منتشرًا، وكان أفراد القبائل الضعيفة يُؤخذون عبيدًا. ولم يكن للعبد وضع اجتماعي يحفظ كرامته كإنسان، إذ كان السيد يفعل مع عبده ما يشاء. ولم يكن هناك من إجراء يمكن اتخاذه ضد السيد الذي يسيء معاملة عبيده، بل إن السيد يمكنه قتل عبده دون أن يتعرّض للمساءلة. وإذا قام سيد بقتل عبد مملوك لسيد آخر فإنه حتى في هذه الحالة لا يتعرّض لعقوبة القتل، وكل ما كان عليه هو أن يعوّض السيد مالك العبد المقتول بشكل مادّي مناسب. أمّا الإماء فكن يستخدمن في إشباع الشهوات الجنسية. وكان الأطفال المولودون من هذه العلاقة يعتبرون عبيدًا، وكذلك الأم الأمَة كانت تظل أمَة.

وأما باعتبار العلاقات الاجتماعية وتقدم المجتمع الإنساني، فقد كان العرب شعبًا متخلفًا. إذ لم يكن للتعاطف ومراعاة مشاعر الآخرين وجود، وكان للنساء أسوأ اعتبار ممكن. ورغم ذلك، فقد كان العرب لا يزالون يحتفظون ببعض الفضائل؛ فالشجاعة الفردية على سبيل المثال، بلغت أحيانًا مستويات بالغة السمو والرفعة.

ولقد ولد رسول الإسلام بين هؤلاء الناس. مات أبوه عبد الله قبل أن يولد، فتولى جده عبد المطلب رعايته هو وأمه. وتولت إرضاعه امرأة كانت تعيش في مكان بالقرب من مدينة الطائف، وكانت هذه عادة عربية في ذلك الوقت؛ أن يسلموا الأطفال للمرضعات في البادية حيث الخلاء. وحيث يكون من واجبهن تربية الطفل وتعليمه الكلام الفصيح. وهناك يكتسب الطفل جسمًا سليمًا صحيحًا في بداية حياته.

وعندما بلغ الرسول السادسة من عمره، صحبته أمه في رحلة إلى المدينة، وماتت أثناء عودتها حيث دفنت في الطريق، وقامت الخادمة باصطحاب الطفل إلى مكة، وأسلمته إلى جده. ولما بلغ الرسول الثامنة توفي جده كذلك، حيث تولى عمه أبو طالب كفالته من بعده حسب وصية الجد.

ولقد أتيحت للنبي فرصتان أو ثلاث للسفر خارج الجزيرة العربية، الأولى عندما كان في الثانية عشرة، إذ صحب عمّه أبا طالب إلى الشام، ويبدو أن الرحلة وصلت به فقط إلى المدن الواقعة جنوب شرقي الشام، لأن المصادر التاريخية لهذه الرحلة لم تذكر أماكن مثل “بيت المقدس”. وقد ظل في مكة منذ ذلك الوقت إلى مشارف الرجولة.

ومنذ طفولته المبكرة كان يخلد إلى التأمل العميق والتفكير الطويل. ولم يكن ينحاز إلى جانب أحد في المنافسات والصراعات التي تحدث بين الآخرين، إلا أن يتدخل لفضها. ويُرْوَى أن قبائل مكة وما حولها، بعد أن ملّوا الصراعات الدموية التي لا تنتهي، قرّروا أن يعقدوا حِلفًا يهدف إلى مساعدة ضحايا العدوان والمعاملة الظالمة، وعندما سمع به الرسول انضم إليه. وقد تعهد أطراف هذا الحلف بأنهم سوف يساعدون أولئك الذين تعرضوا لظلم، وسوف يردّون إليهم حقوقهم، ما بقيت قطرة من ماء في البحار، وإن لم يفعلوا ذلك فإنهم سوف يُعوّضون المظلوم من مالهم الخاص. (راجع الروض الأُنُف للإمام السُهيلي).

ولا يبدو أن أحدًا من الأعضاء الآخرين في هذا الحلف قد طُلب منه أن يفي بما التزم به في هذا الميثاق الجليل، ولكن جاءت الفرصة بعد أن أعلن الرسول عن رسالته ونبوّته. كان أبو جهل هو عدوّه اللدود، كما كان أيضا أحد الرؤساء الكبار في مكة، وكان يدعو إلى مقاطعة الرسول واضطهاده. وفي ذلك الوقت جاء رجل من البدو إلى مكة، وكان لـه ديْن مالي على أبي جهل، ولكن أبا جهل رفض أن يؤدي للرجل ما عليه من حق، فاشتكى الرجل لبعض أهل مكة. وانتهز بعض الشباب الفرصة لخلق الأذى للرسول ووضعه في موقف صعب، فنصحوا الرجل أن يذهب إلى محمد ليشكو لـه، ظانّين أنه سيرفض مساعدته خوفًا من المعارضة الشاملة التي قوبلت بها دعوته بوجه عام، وخوفًا من معارضة أبي جهل بوجه خاص. فإذا رفض الرسول مساعدة الرجل، فسوف يُقال إنه نقض عهده الذي قطعه على نفسه في حلف الفضول، وإذا لم يرفض وذهب بالفعل إلى أبي جهل لمطالبته بسداد ديْن الرجل، فمن المحتّم أن يطرده أبو جهل باحتقار وازدراء. وقـد ذهـب الرجل إلى الرسول فعلاً وشكا لـه أبا جهل، فلم يتردد الرسول لحظة واحدة، بل نهض في التوّ وذهب مع الرجل إلى أبي جهل ودق عليه الباب، فخرج أبو جهل ورأى دائنه يقف بجانب الرسول . وذكر الرسول موضوع القرض وأمره بسداده. وكأن أبا جهل قد أُخذ على غرّة، فإذا به يقوم بسداد القرض على الفور دون أن يحاول التذرّع بأية حجة لعدم السـداد. وعـندما سمع رؤساء مكة الآخرون بذلك، راحوا يوبّخون أبا جهل ويؤنّبونه على ضعفه البالغ وتناقضه الذي أوقع نفسه فيه، إذ أنه يحضّ الجميع على مقاطعة محمد ، بينما يقوم هو بطاعة أمره ويسدّد القرض الذي عليه. فقال أبو جهل دفاعًا عن نفسه: إن أي شخص آخر كان سيفعل نفس ما فعله هو، وأخبرهم أنه لما رأى محمدا واقفًا على بابه، رأى جملين متوحشين يتأهبان لمهاجمته ويقفان عن يمين محمد وعن شماله.

ونحن لا يمكننا أن نقول شيئًا عن كُنه هذه التجربة. هل كان تجليًا لكشف إعجازي قصد الله به إلقاء الرعب في قلب أبي جهل، أو أنه كان خوفًا أصابه به جلال محضر الرسول فأثار لديه هذه الهلوسة؟ فها هو رجل تكرهه البلدة كلها وتضطهده، ومع ذلك تدفعه الشجاعة أن يذهب هكذا وحده إلى زعيم هذه البلدة، ويأمره بسداد ديْنه. ولعل هذا المشهد غير المتوقع هو الذي أخاف أبا جهل وأذهله للحظات، فنسي قسَمه الذي أخذه على نفسه أن يفعل كل ما هو ضد أمر محمد ، وجعله الآن يفعل ما أمره به (انظر ابن هشام).

زواج رسـول الله مـن السيدة خديجة

عندما بلغ الرسول الخامسة والعشرين من عمره، كانت سمعته قد شاعت في المدينة كلها بالأمانة والصدق والعطف على الناس وكمال أخلاقه. كان الناس يشيرون إليه بأصابع التعجب قائلين: ها هو الرجل الذي يمكن أن نأمنه وأن نثق به. وبلغت هذه السمعة آذان أرملة غنية، فتقدمت إلى عمه أبي طالب ليأذن لـه بقيادة قافلة تجارية لها إلى الشام. وذكر أبو طالب ذلك للرسول فوافق، ولقيَت هذه الرحلة نجاحًا كبيرًا، وحقّقت ربحًا فاق جميع التوقعات. وشعرت السيدة خديجة أن هذا النجاح لم ينشأ عن ظروف السوق في الشام، بل رأت أيضًا أنه جاء بسبب حُسن تصرّف وأمانة وكفاءة قائد القافلة. وسألت مملوكها “ميْسرة” عن ذلك، فأيّد لها ميْسرة وجهة نظرها، وأخبرها أن أسلوب محمد العطوف والأمين في إدارة العمل شيء لم ير لـه مثيلاً من أيّ شخص آخر. وكـان لحديـث ميْسرة تأثير شديد عليها. كانت السيدة خديجة في الأربعين من عمرها، وقد ترمّلت مرتين حتى الآن. فأرسلت امرأة من صديقاتها إلى محمد لاستطلاع ما إذا كان من الممكن إقناعه بالزواج منها. فقامت هذه المرأة بزيارة الرسول وسألته عن سبب عزوفه عن الزواج، فأجابها بأنه لا يملك مالاً يكفيه ليتزوج. فسألته المرأة عما إذا كان يقبل الزواج لو أنه وجد امرأة غنية شريفة. فسأل محمد عمّن تكون تلك المرأة، فقالت إنها خديجة. وهنا اعتذر الرسول قائلاً إنها أعلى من أن تقبل الزواج منه. فقالت المرأة إنها سوف تتكفل بتذليل كل الصعوبات، وحينئذ أبدى الرسول موافقته على الزواج. فأرسلت خديجة بالأمر إلى عمه، وتم عقد الزواج بينهما.

وهكذا فُتح باب عجيب إلى الازدهار ليدخل منه رجل فقير كان يتيمًا في طفولته، ولقد صار الآن غنيًا، ولكن الأسلوب الذي اتخذه إزاء هذا الغِنى صار مثلاً يُحتذى لكل الإنسانية. فبعد الزواج، شعرت السيدة خديجة أنه ليس مما يعزز سعادتها أن يظل هو فقيرًا بينما هي غنية. لذلك عرضت نقل ملكية الثروة التي تملكها إليه، وكذلك مماليكها من العبيد. ولما تأكّد الرسول أنها جادة في قرارها، أعلن أنه حالما تصير إليه ملكية أحد من عبيد خديجة فإنه سوف يطلق سراحه حُرًّا، ولقد فعل. بل هناك ما هو أكثر، لقد وزّع الجزء الأكبر من الثروة التي آلت إليه بين الفقراء. وكان من بين العبيد الذين حرّرهم واحد اسمه زيد، كانت تبدو عليه ملامح الذكاء الحاد واليقظة أكثر من الآخرين. لقد كان ينتمي إلى أسرة محترمة، اختُطف منها طفلاً وبيع كعبد مرارًا حتى بلغ مكة. وقد أدرك هذا الشاب لفوْره، بعد أن نال حريته أخيرًا، أن من الأفضل لـه أن يُضحّي بهذه الحرية في سبيل أن ينال العبودية عند محمد . وعندما أعتق الرسول عبيده، رفض زيد الحرية، وسأله مُلِحًّا أن يستبقيه ليظل إلى جواره. ولقد استجاب الرسول لرغبة زيد، ومع مرور الوقت ازداد تعلقه بالرسول . في ذلك الوقت كان والد زيد وعمه قد اقتفيا أثر الابن المخطوف، وسمعوا أنه في مكة. وهناك تتبعا أثره حتى بيت الرسول ، فأتوا إليه وطلبوا منه أن يعتق زيدًا، وعرضوا عليه أن يدفعوا لـه الفدية التي يطلبها. فقال الرسول إن زيدًا حر، ويمكنه أن يذهب معهم متى شاء. واستدعى زيدًا وقدّمه لأبيه وعمه، وبعد لقاء الأحضان والعناق والبكاء ثم تجفيف الدموع، أخبره أبوه أن سيده الكريم قد وهبه حريته، وأن عليه أن يستعد للعودة معه، فقد تألمت أمه كثيرًا بسبب فراقه. فأجاب زيد: من ذا الذي لا يحب والديه يا أبتاه؟ إن قلبي مليء بحبك أنت وأمي، ولكنني أحب هذا الرجل حبًّا لا أتصور الحياة في أي مكان بدونه. لقد لقيتك وإني سعيد بهذا اللقاء، ولكني لا أطيق مفارقة محمد. وقد بذل الوالد والعم جهدهما لإقناع زيد بالذهاب معهما، ولكن زيدًا رفض. وإزاء ذلك قال الرسول إن زيدًا كان رجلاً حُرًّا قبل هذه اللحظة، ولكنه منذ ذلك اليوم فإنه يُعتبر ابنه، يرث كل منهما الآخر. وأمام هذه الرابطة العاطفية الجياشة بين زيد والرسول ، غادر والد زيد وعـمه المكان عائـدين، وبقي زيد مـع الرجل الذي كان سيُبعث نبيًّا .

رسول الله يستقبل أول بشائر الوحي

عندما اجتاز الرسول الثلاثين من عمره، أخذ حُب الله عز وجل وحُب التعبّد لـه يشتد ويزداد مع الوقت. ولما كانت نفسه تأنف الفساد الشائع في مكة، وتنفر من الآثام وسوء أعمال الناس، اختار بقعة تبعد ميلين أو ثلاثة، يخلو فيها مع نفسه للفكر والتأمل. وكان ذلك في كهف على قمة جبل، وكانت السيدة خديجة تُعدّ لـه ما يكفيه من زاد للأيام العديدة، فيأخذه ويصعد إلى الغار في جبل حِراء، حيث كان يعبد الله نهارًا وليلاً.

وعندما بلغ الأربعين من عمره الشريف، رأى في ذلك الكهف العتيد ظهورًا لشخص يأمره أن يقرأ، فأجاب الرسول أنه لا يعرف كيف يقرأ، فأصر هذا الشخص أن يقرأ، ثم جعله يقرأ الآيات التالية:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَـمِ * عَلَّمَ الإِنْسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق:2-6)

هذه الآيات هي أول ما أُوحي إلى الرسول ، وقد صارت جزءًا من القرآن المجيد، شأنها شأن الآيات الأخرى التي أوحيت إليه فيما بعد. وكانت تحمل معاني عظيمة وعديدة. لقد أهابت بالرسول أن ينهض وأن يكون على أهبة الاستعداد لأن يُعلن على العالم اسم الله الأحد، الخالق الأوحد، الذي خلق الرسول وكل كائن آخر، الذي فطر الإنسان وغرس في طبيعته محبة الله تعالى، كما جعل في فطرته أيضًا حب أبناء جنسه. لقد أُمر الرسول أن يبلغ رسالة هذا الإله الأحد، وتلقّى وعدًا بالعون والحماية من الله تعالى عند تبليغ هذه الرسالة. وتنبأت الآيات بمجيء عصر يتعلم فيه العالم كله جميع أنواع المعـارف بمساعـدة القلم، وسوف يطّلع الإنسـان على علوم لم يسمع بها أحـد من قبل.

ها هو رجل تكرهه البلدة كلها وتضطهده، ومع ذلك تدفعه الشجاعة أن يذهب هكذا وحده إلى زعيم هذه البلدة، ويأمره بسداد ديْنه.

وتُشكّل هذه الآيات خلاصة شاملة للقرآن المجيد. وكل ما تَعلمه الرسول من الوحي اللاحق فهو كامن كالجنين في هذه الآيات. لقد تم فيها وضع أساس عظيم للتقدم والرقي الروحي لم يكن معروفًا حتى ذلك اليوم. إن شرح ومعاني هذه الآيات سوف يأتي ذكرها في مكانه من هذا التفسير. ونحن نشير إليها هنا لأنّ تنْزيلها على الرسول شكّل حدثًا عظيمًا طرأ على حياته، فحينما نزلت عليه الآيات امتلأ قلبه بالخوف من هذه المسؤولية التي ألقاها الله على عاتقه. إن أيّ شخص آخر في مكانه كان سيشعر بالفخر، ويملؤه الإحساس بأنه صار عظيمًا. ولكن الرسول كان أمره مختلفًا، إذ كان يفعل أشياء عظيمة دون أن يفتخر بإنجازه. وبعد هذه التجربة العظمى التي مر بها في الغار، بلغ الرسول منْزله عائدًا وهو شاحب الوجه، يرتجف بقوة. ولما سألته السيدة خديجة عمّا ألَمّ به، قصّ عليها كل ما حدث، ثم أفصح لها عن مخاوفه لأنه كان يعتبر نفسه ضعيفًا، وتساءل كيف يحمل هذه المسئولية التي حمله الله إياها، وأنه لذلك كان يخشى على نفسه. فأجابت السيدة خديجة لتوها:

“كَلاَّ وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا. إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ” (البخاري، كتاب بدء الوحي).

وصحبته إلى ابن عمها ورَقة بن نوفل، وكان نصرانيًا. فلما سمع الخبر صاح قائلاً: “هَذَا النّـَامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى” (البخاري، كتـاب بدء الوحي). ومن الواضح أن ورَقة كان يشـير بكلمته هذه إلى نبوءة سـفر التثـنية (18:18).

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك