يا حسرات عليهم! إنهم جاوزوا حد التقى

وما أرسلني ربي إلا ليكفّ عنكم أيدي الكفّار، ويهيّئكم لنـزول الأنوار، فما لكم لا تشكرون بل تعرضون عن الهُدى؟ أتعلمون أنكم تُترَكون سُدى؟ وإن مع اليوم غدا. وما جئتكم من هوى النفس، وما كنت مشتاق الظهور، بل كنت أحبّ أن أعيش مكتومًا كأهل القبور، فأخرجني ربي على كراهتي من الخروج، وأضاء اسمي في العالم مع هربي من الشهرة والعروج، ولبثتُ عمرًا كالسرّ المستور، أو القُنْفُذ المذعور، أو كرميم في التراب، أو كفتيل خارج من الحساب. ثم أعطاني ربي ما يُحفِظ العدا، ومنَّ عليّ بوحي أجلى. فاشتعل السُّفهاء وظلموا، وكان بعضهم من البعض أطْغى، وسفَتْ منهم عليّ الأعاصرُ والصراصر العظمى، فرأيتم مآلهم يا أولي النهى. ثم بعدهم أدعوكم إلى الله، فإن تقبلوا فالله حسبكم، وإن تكفروا فالله حسيبكم، والسلام على من اتّبع الهُدى.

يا فتيان رحمكم الله.. ترون انقلابًا عظيمًا في العالم، وتشاهدون من أنواع المعالم. وأشقى الناسِ في هذا الزمن المسلمون. نُهب دُنياهم، وكثير منهم من الدين يرتدّون. لا ينـزل بلاءٌ إلا عليهم، ولا تُهلِك داهية إلا قومهم. ما حدثتْ بدعة إلا ولَجتْ بينهم، وما عرَضتْ عليهم الدنيا عينَها إلا فقأتْ بها عينهم. نرى شبّانهم تركوا شعار الملّة الإسلامية، ومحوا آثار سنن* النبويّة. يحلّقون اللُّحى، ويعظّمون السبال، ويطوّلون الشوارب، مع تلبُّس الحلل النصرانية. فهم في هذا الزمن أشقى مَن أظلّتْه السماء، وآوتْه الغبراء. يعرضون عن فضل الله إذا أتى، ويفرّون من رحم الله إذا وافى. تَنحَّوا عن خِوان الله إذا دنا، واتّبعوا طرقًا أُخرى. لا يخافون حرّ النار واللّظى، ويخافون مرارة هذه الدنيا، والطريق الذي ما نصّفه الشيطان وطئوا كلّه، فسبقوا الخنّاس الأطغى.

ومنهم قوم يقولون إنا نحن العلماء، ويتكلّمون كما يتكلّم السفهاء، يضلّون الناس بغير علم وهُدى، ويعرضون عن الحقّ الذي حصْحص وتجلّى. ويدفنون خيرَ الرسل في التراب، ويُصعِدون عيسى إلى السماوات العلى. فتلك إذًا قسمةٌ ضيزى! يبصرون ثم لا يبصرون، يرون الحقّ ثم يتعامون وهم يعلمون، ويكتمون الحقّ الذي ظهر كشمس الضحى….. أيظُنّونِ أنهم لا يُسألون ويُتركون كشيء يُنسى؟ ألا يرون الآيات من ربي، أو رأوا كمثله معاملة الله برجل افترى؟ ما لهم لا يتركون عادة الإيذاء، والسبّ والازدراء؟ أأقْسموا وآلوا وعاهدوا عليه؟ والله يسمع ويرى. يا حسرات عليهم! إنهم جاوزوا حدّ التُّقَى، وطُبع على القلوب فآثروا العَشا والعمى. يخافون الخَلْق ولا يخافون الله، ولا يتّقون حرّ النّار واللَّظى. وقد أوتوا مفاتيح دار الدين فما دخلوها، وما رضوا بأن يدخلها زمرٌ أخرى. أيُرْجَى منهم أن يؤمنوا بإمام وقتهم، بل يقولون كذّابٌ يُضلّ الورى، أرى نفسَه في زيّ المسلمين ولا يؤمن بالله ورسوله المصطفى. وما شَقّوا صدري، فما أعثرهم على كفر يُخفَى؟ وقد رأوا آياتٍ إن رآها قوم أُهلكوا في قرونٍ أولى ما عُذّبوا في الدنيا ولا في العُقبى. فهذه شقْوتهم.. طلعت الشمس عليهم وأضحى، وهم يختفون في الغار ويؤثرون الدُّجَى. لا يفرّقون بين خائنٍ وأمينٍ، وبين نهارٍ وليلٍ سجى. يريدون أن يطفئوا نورًا نـزل من الله ذي الجلال، والله غالب على أمره وإن كان مكرهم تزول به الجبال. أيحسبون أنهم قومٌ ليس لهم زوال؟ وسيبطل الله كيدهم، وإن كان كيدهم كحليبٍ أَجرَى في الحلوق، وأمضى في العروق، أو كغذاء أخرى هي ألطف وأَحلَى. أيستطيعون أن يردّوا قضاءه؟ سبحان ربّنا الأعلى! إنه يغلِب ولا يُغلَب، وينفّذ أمره من السماء إلى تحت الثرى. فهل من فتى يخافه ولا يطغى؟ وهل من حُرّ يطيعه ولا يأبى؟ أيتّكئون على آراء آبائهم الأوّلين؟ وليس لآرائهم ثبات، وتجدهم فيها مختلفين، وما زالت النوى تطرح برأيهم كلَّ مطرح، فلا يثبت وليس له قرار ويتبدّل كلّ حين. ووالله، إني صادق، وجحدوا بما جئت به بغير علم ولا بُرهان مبين. وإني أعرض نفسي للذبح فما دونه إن كانوا من الصادقين. إن يقولون إلا رجمًا بالغيب، وليسوا على الحق مُعْثرين.

ويقولون إن الزلازل والطاعون ما جاءت إلا بنحوسة هؤلاء، وإنهم قوم منحوسون. انظرْ إلى أقوالهم كيف يهذَرون! يا أعداء الكتاب والرسول، بماذا تَطيَّرون؟ أجاء العذاب بما أرسل الله عبده ليتمّ به حجّته ولينذر قومًا غافلين؟ ويلٌ لكم ولما تزعمون! وقد أنبأ الله بها قبل ظهورها ثم أنتم بالله ورسله تستهزئون. وإن الله يرى كلّ ما تصنعون. ترون ليالي الكفر وظُلماتها، وتُحسّون حاجةَ مرسل وأماراتها، ثم أنتم تعرضون كأنكم قوم عمون. وإذا ابتسم ثغرُ صبح الإسلام، وأراد الله أن يجيح الشرك بآياته العظام، فلكم مكرٌ في آياته، لعل الناس إلى الحق لا يرجعون. وتقرؤون في سورة النور من غير الشكّ والغُمّة، أن الخلفاء كلّهم يأتون من هذه الأُمّة، ثم تلتمسون عيسى الذي هو من بني إسرائيل، وتنسون ما فيهم قيل. وتقرؤون في حديث نبيّ الله: إمامُكم مِنكم، ثم أنتم تتجاهلون.

*  هكذا ورد في الأصل سهوًا، وصُحّح في طبعة “الخزائن”: “السـنن”.(الاستفتاء، الخزائن الروحانية ج 22 –  ص 652 – 655)
Share via
تابعونا على الفايس بوك