أعظم خُلُقٍ من أخلاق سيد الرسل صلى الله عليه وسلم

(الحلقة23 والأخيرة)

إن أعظَمَ خُلقٍ تحلّى به النبي هو ما ذكره القرآن في قول الله تعالى:

قُلْ إنّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام: 163)..

أي أَعلِنْ لهم أن عبادتي وتضحيتي وحياتي وموتي كلها في سبيل الله.. أعني لإظهار جلاله عز وجل، وتقديم الراحة لعباده.. كي ينالوا الحياة بموتي.

وأما ما ذُكِر هنا من الموت في سبيل الله ولخير الإنسانية فلا يجدر أن يُسيء أحد فهمه ويظن أنه كان ينوي – والعياذ بالله – الانتحارَ حقا كالجهال والمجانين، زاعمًا أن قَتْلَه نفسَه هكذا بسلاح ما سوف ينفع الآخرين. كلا، بل كان يعارض بشدة مثلَ هذه الأعمال العابثة، وإن القرآن الحكيم يعتبر من ينتحر هكذا مجرما ارتكب جرما عظيما يستوجب العذاب.. فقال:

وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ (البقرة: 196) ..

أي لا تنتحروا، ولا تتسببوا في هلاككم بأيديكم. والواضح أنه لو كان خالد مثلا يشتكي الوجع في بطنه، فترحّمَ عليه زيدٌ وشجّ رأسَه هو، فلن يُعَدَّ هذا معروفا في حق خالد، وإنما يقال: لقد شجّ رأسه حمقًا وغباءً وبدون جدوى. وإنما يكون المعروف أن يقوم زيدٌ بما يليق وينفع خالدا.. كأن يُحضر له أدوية نافعة ويداويه بحسب المبادئ الطبية. أما أن يشج رأسه هو.. فذلك لا ينفع خالدا بشيء، بل على العكس.. إنما يوجع عضوًا شريفًا من جسمه دون جدوى.

فالمراد من الآية المذكورة آنفا، أن النبي كان قد نذر نفسه لإنقاذ الإنسانية، عن طريق المواساة الحقيقية لهم، وبتحمل المشاق في سبيل ذلك.. متوسلا بالدعاء والدعوة والصبر على الجور والظلم وبكل طريق لائق حكيم.. كما قال الله جل شأنه:

لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (الشعراء: 4)،

وقال:

فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ (فاطر: 9)..

أي هل أنت مهلكُ نفسِك بهذا الغم والمعاناة التي تكابدها من أجل الناس، وهل أنت قاضٍ على حياتك حسرةً على هؤلاء الذين لا يقبلون الحق؟

فالأسلوب الحكيم للتضحية بالنفس في سبيل القوم إنما هو أن يتحمل الإنسان العناء لمصلحتهم، عاملا بالقوانين الطبيعية النافعة، ويَنذر نفسه لاتخاذ التدابير النافعة لهم؛ لا أن يشج رأسه بحجر، أو أن يبتلع سما ويرحل عن الدنيا متأثرًا مما يرى فيه قومَه من بلاء شديد وضلال كبير وموقف خطير، ثم يحسب أنه قد أنقذ قومه بفعلته غير اللائقة هذه. ذلك ليس من شأن الرجال.. بل هو من صفات النساء. فإن من عادة عديمي الهمة أنهم يعمدون دائما إلى الانتحار فورا عند مواجهة مصائب يصعب عليهم تحملها. إن هذا الانتحار، مهما يقال في تبريره بعد ذلك، عارٌ عند العقل والعقلاء بلا ريب.

غير أنه من الواضح أنه ما لم تسنح لأحد فرصة الانتقام من العدو فلا اعتبارَ لِصبره وامتناعه عن الانتقام. فما يدرينا ماذا سيفعل هذا لو قدر على الانتقام؟ إن أخلاق الإنسان لا تظهر أبدا على حقيقتها ما لم يمر بفترة من المصائب، وأيضا بفترة من المقدرة والسلطان والثراء.. إذ من البين أن الذي يموت في حالة من الضعف وقِلة الحيلة وفقدان السلطة، مضروبا بأيدي الناس، وبدون أن يجد أياما من السلطة والحكومة والثروة.. لن يتجلى من أخلاقه شيء. وما لم يحضر ساحة القتال فلن يثبت لنا ما إذا كان شجاعًا أم جبانا. إننا لا نستطيع أن نحكم على أخلاقه.. لأننا لم نعرف منها شيئا؛ فلا ندري كيف كان سيعامل أعداءه لو تمكن منهم؛ وكيف كان سيتصرف بثروته لو صار غنيا.. هل يُمسك المال أم ينفقه على الناس؛ وكيف كان سيفعل في ساحة القتال.. هل يفر من العدو جُبنا أم يسلك سلوك الشجعان؟

بيْد أن الله تعالى قد أتاح بعنايته وفضله لنبينا فرصًا للتحلّي بجميع هذه الأخلاق. فقد صدر منه الجود، والشجاعة، والحلم، والعدل.. كل في محله.. ظهورا يستحيل أن نجد نظيره على وجه البسيطة. ففي الحالتين.. حالة الضعف والفقر وحالة المقدرة والثراء، لقد  أثبت محمد للعالم كله ما كانت عليه ذاته الشريفة من السمو في الشمائل الحميدة. ليس ثَمّة خُلقٌ من الأخلاق الفاضلة الإنسانية إلا أتاح الله له فرصًا لظهورها. لقد تجلت منه الشجاعة والكرم والاستقامة والحلم والعفو وغيرها من الأخلاق الفاضلة.. تجليا يعتبر البحث عن نظيره في الدنيا ضربا من المحال.

نعم، إنه لحق أيضا أن أولئك الذين بلغوا من الظلم منتهاه، وأرادوا استئصال الإسلام والقضاء عليه.. لم يتركهم الله دون عقاب.. لأن تركهم من غير عقاب هو بمنـزلة سحق الصالحين تحت أرجلهم.

 

غاية غزوات النبي

فما كانت غزوات النبي تهدف إلى قتل الناس بدون داعٍ، وإنما لأن الظالمين أخرجوه وأصحابه من ديار آبائهم، وقتلوا الكثيرَ من رجال المسلمين ونسائهم دون ذنب، ومع ذلك كانوا لا يكفون عن الظلم، وكانوا يمنعون تعاليم الإسلام من الانتشار.. لذلك اقتضى القانون الرباني لحفظ الأمن أن يحفظ المظلومين من الفناء، فتمّ القتال بالسيف ضد من شهروا السيف.

فلم تكن حروبه إلا إخمادًا لفتنة القتلة السفاكين.. ودفعا لشرهم عن المظلومين. ولقد قامت الحرب حين كان الظالمون يبغون القضاء على أهل الحق. ولو لم يتخذ الإسلام حينئذ تلك الوسائل حفاظا على النفس، لهلك آلاف الأبرياء من أطفال ونساء بغير حق.. ولقُضي على الإسلام.

 

أغلوطة فاحشة

وليكن معلومًا أنه لَتعنّتٌ كبير من قِبل معارضينا إذ يزعمون بأن هديَ الوحي الرباني ينبغي أن يتسامى عن حثّ الإنسان على مقاومة العدو في كل الظروف والأحوال.. ويجب أن يحضه دائما وأبدا على التحلّي بالحلم والرفق حبا ورحمةً بالعدو. ويحسب هؤلاء الناس أنهم بحصر صفات الله الكاملة كلها في الحلم والرأفة يعظمونه -جل شأنه- تعظيما كبيرا! ولكن المتفكرين في الأمر بإمعان وتدبر.. سوف يدركون بسهولة أن هؤلاء واقعون في خطأ فاحش واضح.

إذا أجَلنا النظر في نواميس الطبيعة تبينَ لنا جليًّا أن الله -بلا شك- رحمةٌ خالصة للدنيا، إلا أن رحمته هذه لا تظهر دائما وفي كل حال بصورة اللطف والرفق، بل إنه بسبب رحمته الواسعة يسقينا -شأن الطبيب الحاذق- شرابًا حلوًا في بعض الأحيان، ويسقينا دواءً مرا أحيانا أخرى. إن رحمته ببني آدم تُشبه رحمةَ أحدنا ببدنه كله. لا شك أن كُلا منا يحب جسده كله، ولئن أراد أحد أن ينتزع منه شعرة واحدة ثار غضبًا. وعلى الرغم من أن حُب أحدنا لجسده موزع على كل أعضائه، إذ كل عضو منه محبب إليه، ولا يريد الضرر بأي منها، إلا أن هذا الحب ليس موزعا على كل الأعضاء بشكل متساوٍ، بل تغلب فينا محبةُ الأعضاء الرئيسة الشريفة التي نعتمد عليها إلى حد كبير في حياتنا. كذلك نحب الأعضاء في مجموعها أكثر من حبنا لعضو واحد بمفرده، ولذلك إذا أصبحت سلامة عضو شريف متوقّفةً على جراحة عضو آخر أدنى منه، أو حتى على كسْره أو بتره.. فإننا نُقدِم على ذلك بلا تردد.. إبقاءً على الحياة. نعم، إن قلوبنا تعاني الألم حينئذ لأننا نجرح أو نقطع عضوا عزيزا من أعضائنا.. ولكن رغم ذلك نُضطر إلى هذا مخافة أن يسري فساده إلى عضو شريف آخر فيتلفه معه.

ومن هذا المثال يمكن أن نفهم أن الله تعالى حين يرى أن عباده الصالحين موشكون على الهلاك بأيدي أرباب الباطل، وأن الفساد في ازدياد.. فإنه يتخذ تدابير ملائمة.. إما من السماء وإما من الأرض.. إنقاذا لأوليائه، وحسما للفساد. فإنه كما هو حكيم، كذلك هو رحيم.

والحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك