عن الإسلام العسكري

عن الإسلام العسكري

شيخ منصور

اسأل أي طالب مدرسة في الغرب أو حتى مدرّس مادة الدين عن معرفته بالإسلام، وسيكون الجواب الذي تحصل عليه دائمًا جوابًا واحدًا بسيطًا بشكل مدهش، وهو:

“إن الإسلام الذي وعظ به محمد ، هو دين موجه إلى البدوي وإلى ظروف الحياة البدائية الماضية. ولقد اطلع النبي محمد على تعاليم المسيحية واليهودية وتأثر بهما تأثرًا كبيرًا، ثم ألف كتابًا سمّاه القرآن، كما قام بعد ذلك بنشر الدين الجديد بالسيف، ثم تمكن العرب من التسرب إلى دول مختلفة وحولوا الناس إلى دين الإسلام بالقوة. وإن تعاليم الإسلام تناسب ظروف العصور الوسطى، وعمومًا فإن العلامة المتميزة لتعاليم الإسلام هي أنها تعاليم قديمة بالية لا يمكن تطبيقها في العصر الحديث. والصفة البارزة فيها هي الإيمان الأعمى بالقدر وعدم التسامح الديني بالإضافة إلى الخرافة والتعصب. فالإسلام لا يصلح كدين لبلادنا وزمننا، أو هو على الأقل لا يصلح للقرن العشرين. إن دين الرجال هذا يحتقر النساء ويحدد لهم الموضع الأدنى في المجتمع”.

مثل هذه المعلومات عن الإسلام تنشرها أيضًا الكتب التقليدية للمؤلفين غير المسلمين، وهذه هي أيضًا المعلومات العامة الشائعة لدى الناس العاديين في الغرب.

إن القارئ غير المسلم مدعو للتفكر في هذا الجانب الهام جدًا من جوانب الحياة. ولنتفكر كرجل الأعمال البارع الناجح الذي ليس متدينًا. نجد أنه يعرف بالخبرة أن أفضل طريقة لضمان تعاون بناء بينه وبين موظفيه يقوم على التحفيز والقناعة، وهذا لا يمكن تحقيقه بالقوة، أو بالسلطة المحضة، أو على الأقل، فإنه لا يمكن فرض ذلك لمدة طويلة الأمد. إن رجل الأعمال الذكي يمكن أن يبيع بضاعته أو خدماته إلى زبائنه بشكل أفضل فقط إذا أقنعهم بتناسب النوعية مع السعر. وهذا صحيح لأن البائع الحكيم لا يريد أن يبيع لمرة واحدة فقط، ولكنه يبحث عن إمكانية بناء دائرة واسعة من الزبائن الدائمين.

والآن بالعودة إلى الإسلام، يجب أن يُلاحظ أن الإسلام دين يزعم أن المؤسس له هو الله ذاته، وأن هدفه هو هداية الجنس البشري إلى الخالق الحق. فكيف يمكن إذن لدين يُعلن هذه المثل العليا أن يتبنى استخدام القوة كوسيلة لنشره وإظهاره؟ هل يمكن للقوة المحضة أن تولد ميلاً او حبًا لفكرة أو عقيدة ما؟ وهل تحتاج العقيدة أو الفكرة الجيدة إلى القوة من أجل قبولها؟ إنما تقع الشكوك على حقيقة الدين الذي يسمح باستخدام القوة لنشره. ولذلك فإن خصوم الإسلام الذين ينتقدونه فيزعمون أنه دين الإكراه، إنما يقدمون زعما متناقضًا في حد ذاته؛ فهم غير مستعدين لأن يعزوا إلى الله صفات الحكمة والذكاء والفطنة التي يفترضون وجودها ببساطة وسهولة في رجل الأعمال غير المتديّن.

حرية العقيدة

لايوجد في أي موضع في كتاب المسلمين القرآن أو أحاديث الرسول محمد أدنى إشارة أو تعليم يشير إلى أن استخدام القوة أو الإكراه من أي نوع مسموح به من أجل نشر الإسلام. بل على العكس، فإن الإسلام يطبع في ذهن أتباعه التعايش المسالم مع أتباع جميع الأديان؛ كما وإن هذا التعليم يمتد ليشمل الملحدين أيضًا وعبدة الشمس وعبدة النار وعبدة الأوثان.

وكذلك ليس مسموحًا للمسلمين باستخدام لغة السباب والشتائم في حق أوثان عبدة الأوثان كي لا تُجرح المشاعر الدينية للآخرين، حيث يأمر الله تعالى في القرآن الكريم بقوله:

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأَنعام: 109)،

وفيما يلي بعض الآيات القرآنية التي تدحض الزعم القائل بأن الإسلام يأمر باستخدام القوة أو الإكراه في الدين:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة: 257)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (يونس: 109)

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 30)

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: 100)

إن هذه الآيات من القرآن الكريم تبين كوضوح الشمس ودون أن تترك أدنى ريب أو شك أن الإسلام لا يسمح باستخدام القوة والإكراه لنشر الدين؛ فكيف يصح الزعم إذن بأنه يأمر بهما؟!

إن هذه التهمة باطلة لا أساس لها، وهي محض افتراء لا يمكن أن يصمد في وجه الحقيقة الساطعة. وهي -أكثر من أي شيء آخر- قد جاءت بسبب الكره العميق الجذور للإسلام، ذلك الكره الذي حفز أعداء الإسلام لتلفيق هذا الافتراء الشائن.

ولنتفحص الآن آية أخرى من القرآن الكريم تقلب هذا الزعم الفارغ الذي لا أساس له رأسًا على عقب؛ وهي تشير إلى حالة حرب تم الهجوم فيها على المسلمين من قبل غير المسلمين بغاية إكراه المسلمين على إنكار دينهم والارتداد عنه، يقول القرآن الكريم:

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (التوبة: 6)

ولا شك في أن الله العليم كان يعلم بكل تأكيد أنه سيأتي يوم يتهم فيه أعداء الإسلامِ الإسلامَ باستخدام القوة لنشر الدين؛ وإن هذه الآية بالتحديد تبين التسامح الديني الشامل في الإسلام واهتمامه البالغ في دعم ونصر حرية الدين والمعتقد. إن الحالة التي تبحث فيها هذه الآية الكريمة تستحق منا انتباهًا خاصًا، بحيث نتفكر بما يلي:

جندي عدو يُقاتل المسلمين يقرر أن يهجر جيشه وأن ينضم إلى صفوف المسلمين. وهو بفعله هذا يترك جيش العدو الذي كان قد اضطهد الجماعة الإسلامية الضعيفة الصغيرة في مكة لمدة 13 سنة، والذي كان متعطشًا لدماء المسلمين وحريصًا على جعل حياتهم بائسة في كل شكل من أشكالها؛ وبعد أن كان المسلمون قد غادروا مكة إلى المدينة؛ فإن هذا الجيش كان قد شن عددًا من الحروب العدوانية ضد المسلمين؛ ولهذا فإنه لا يمكن لمرتد من هذا الجيش أن يتوقع من قومه -إذا رجع إليهم- شيئًا أقل من عقوبة الإعدام بسبب فراره من الجيش ولحاقه بالعدو لأي سبب كان. حتى في مثل هذه الحالة فإن القرآن لا يقول بأن على المسلمين أن يحاولوا فرض دينهم (الإسلام) بالقوة على ذلك الفار، الذي لا يكون حقًا في موضع يجعله قادرًا على أن يكون له حرية الخيار بسبب وضعه. فقد كان واضحًا أن ذلك الذي فر من جيشه لم يعد قادرًا بأي شكل من الأشكال على العودة إلى جيشه الذي فر منه. ويأمر القرآن هنا المسلمين بأن أول واجب عليهم هو تأمين الحماية للجندي العدو؛ ثم عليهم أن ينقلوا إلى هذا الهارب رسالة الإسلام؛ وثالثًا -وهذا هام جدًا- أن يقوموا بالترتيبات اللازمة لإيصاله إلى المكان الذي يختاره هو باعتباره مكانًا آمنًا له.

فلو كان الإسلام دين إكراه، ولو أنه كان قد سمح باستخدام القوة؛ إذن لما ترك المسلمون تلك الفرصة الذهبية لتحويل عدو إلى الإسلام بالتهديد والابتزاز والقوة. من المدهش كيف تغافل نقاد الإسلام وخصومه عن هذا المعنى العظيم للآية القرآنية الكريمة! الحقيقة أنه لم تُسجل في صدر الإسلام ولا حتى حادثة واحدة تم فيها إكراه أحد على اعتناق الإسلام.

جزاء المرتد

وربما يكون ثمة من يحتج بقوله: أنه إذا كانت عقوبة الارتداد عن الإسلام في بلد غالبية سكانه من المسلمين هي الموت؛ فإن هذا أيضًا يمكن أن يعد إكراهًا غير مباشر في الدين. والجواب على هذا الاعتراض هو أنه فيما يتعلق بتعاليم الإسلام فإنه ليس ثمة عقوبة دنيوية للمرتد عن دين الإسلام. ويستطيع المرتد الاطمئنان إلى أنه ليس ثمة عقوبة تُقام عليه في أي بلد مسلم، ما دامت حكومة ذلك البلد تلتزم بتطبيق تعاليم الإسلام وأنها لا تفرض معاييرها وأحكامها الخاصة بها.

إن تعاليم الإسلام تجتث الفكرة الخاطئة القائلة بأن عقوبة المرتد هي الموت، من جذورها.

ونذكر فيما يلي آيتين من القرآن الكريم تبينان معارضة ومناقضة هذا المفهوم الخاطئ لروح الإسلام، حيث نقرأ قول الله عز وجل:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (آل عمران: 91)

فإذا كانت العقوبة على الارتداد عن الإسلام هي الموت، فكيف يمكن للذي ارتد عن الإسلام أن يزداد كفرًا؟

وكذلك نقرأ في القرآن قول الله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (النساء: 138)

إن هذه الآية الجلية الواضحة لا يصح فهمها إلا بتفسير واحد حاسم واضح. فهي تتحدث عن المسلم الذي يرتد عن دينه ويُنكر إيمانه، ولكنه بعد وقت يعود فيقبل الإسلام، ثم يعود فيرتد عنه ثانية – وهكذا. فلو كان ثمة عقوبة في الحياة الدنيا تم فرضها في مثل حال هذا الشخص، لتم إعدامه في الفترة ما بين أول إعلان له بالكفر وبين الإعلان الثاني المفترض للارتداد عن الإسلام. وبمعنى آخر فإن القبول الجديد الثاني للإسلام سيكون مستحيلاً. إن التسامح كما يعلمه الإسلام قد جلب تبدلاً رائعًا في شخصية وسلوك الناس الذين كانوا حتى قبل مجيئه جاهلين وهمجيين، فعلمهم القيم العليا واحترام الحياة البشرية والكرامة الإنسانية. وإن هذا التعليم قد وضع الصلات الإنسانية المتداخلة على أسس سليمة حولت الناس غير المتحضرين في زمن الرسول إلى أناس ذوي أخلاقيات سامية رفيعة ذات طموحات روحية نبيلة.

بهذا التعليم القرآني كخلفية وأساس، بالإضافة إلى حقائق التاريخ كشاهد موثق، فإنه لا يمكن لإنسان عاقل أن يشك مطلقًا في أن اتهام الإسلام بالإكراه إنما هو في حقيقته افتراء كاذب وإهانة للذكاء البشري.

إنها لحقيقة راسخة أن الإسلام لم ينتشر منذ 1400 سنة بالقوة؛ بل الحقيقة هي أنه انتشر بالرغم من القوة التي استخدمت لاستئصال تقدمه ومنع انتشاره من الجذور.

في النهضة الثانية للإسلام، تلك التي يتحدث فيها المرء عن يقظة الإسلام ثانية، فإن من القدر المحتوم أن يقهر الإسلام قلوب الناس بطريقة سلمية مؤكدة بحيث لا يستطيع أحد أن يحلم مطلقًا لينسب فكرة العنف والإكراه إلى الإسلام. إننا نشهد اليوم أن الاهتمام بالإسلام يتنامى بشكل ملحوظ بحيث أنه يصير موضوع اليوم في جميع أنحاء العالم. إنها ظاهرة زمننا هذا، وهي لا تحدث كنتيجة لثورة سياسية في مكان ما من العالم، كما أنها ليست بسبب اكتشاف النفط في مكان معين من العالم، بل هي نتيجة ثورة هادئة تأخذ مكانها في قلوب الناس، ويقترب معها وقت تحقيق نبوءة عظيمة للنبي محمد تنبأ فيها أن الإسلام سيظهر ثانية في وقت الحاجة الأشد وأنه سيحل مشاكل العالم في زماننا أيضًا.

إن الإنسان المعاصر، ما لم يكن يملك عقلاً تحليليًا، فإنه سيكون ضحية خطأ جسيم عندما يحكم على مزايا الإسلام، فهو لا يأخذ بعين الاعتبار الحقيقة الأساسية والضرورية لتقييم تعاليم الإسلام ألا وهي سلوك المسلمين الأوائل؛ فتكون النتيجة ارتكاب خطأ كبير في حق الإسلام والمسلمين الأوائل.

الحقيقة الأساسية التي يتجاهلها هؤلاء هي أنه: عندما انتهى -بعد سنين طويلة- الاضطهاد المخطط ضد المسلمين الأوائل، فقد تمكنوا من أن يقيموا في وقت قصير دولة مسلمة عاش فيها أيضًا مواطنون غير مسلمين وكانوا دائمًا يتمتعون بحقوقهم المدنية الكاملة فيها.

خلال الحروب التي فرضها على المسلمين الذين لم يُحاربوا إلا عندما هوجموا من قبل جيش العدو، فإن المحاربين في مخيمات العدو كانوا غير مسلمين كما كانوا أعداء للدولة المسلمة. ولقد حاربوا الجيش الإسلامي بصفتيهم هاتين: من جانب العداء الديني، ومن الناحية السياسية باعتبارهم أعداء الدولة. وإن أية عقوبة تلقوها على جرائمهم الحربية كانت عادلة، وهي تُعتبر عادلة حتى من قبل المجتمعات الحضارية للقرن العشرين. فإن هؤلاء الأعداء لم يتم إخضاعهم أبدًا لأي ضغط كان بسبب عدم إيمانهم، كما أنهم لم يؤخذوا أبدًا أسرى ولم يكن عليهم أن يدفعوا الفدية بسبب كونهم غير مسلمين.

إن مؤتمر جنيف الدولي لزمننا المعاصر حول معاملة العدو المجرم بشن حرب، وحول معاملة أسرى الحرب استطاع تعلم الكثير من سلوك المسلمين في القرن السابع. وإن مفاهيم وثيقة هيئة الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان يمكن أن يتم تقصي عناصرها الأساسية في تعاليم الإسلام.

الجهاد

ولنلق نظرة على فكرة الجهاد في الإسلام التي قد شُوّهت وأسيء فهمها إلى حد كبير؛ وهي ما يُسمى بالحرب المقدسة.

إن كلمة الجهاد في اللغة العربية لا تتضمن معنى القداسة ولا معنى الحرب. وإن ترجمة كلمة جهاد بمعنى الحرب المقدسة، إنما هي ترجمة اعتباطية مقصودة وسخيفة. لأن كلمة الجهاد يمكن تطبيقها على أي نشاط أو عمل يُنجز بجهد شديد ويتطلب المجاهدة الشديدة. فالجهد الأقصى المطبق على أي عمل هو جهاد. والتضحية العظيمة بالوقت أو الثروة أو الشرف والسمعة في سبيل هدف نبيل هو جهاد. ونشر الحقيقة والوعظ بها في ظروف تتضمن المخاطرة بالحياة هو جهاد. والوقوف في وجه طاغية دفاعًا عن ضحايا الاضطهاد هو جهاد. ونضال المرء ضد عيوبه وضعفه وأنانيته هو جهاد. ونضال المرء ضد الانحلال الخلقي للمجتمع وضد الظلم والاضطهاد هو جهاد. ونضال الإنسان ضد العدو المعتدي على الوطن جهاد؛ وكذلك نضاله ضد الإكراه في الدين والمعتقد هو جهاد. ونضاله ضد اضطهاد البريئين من الناس جهاد. جميع هذه الأمور تعد من الجهاد وتقع تحت تعريفه.

وفيما يتعلق بالإسلام، فإن الإسلام لا يسمح بشن حرب عدوانية لغاية التوسع. وكي نفهم مصطلح “الأهداف التوسعية”، يجب أن نعود إلى الظروف التي كانت زمن بداية الإسلام عندما كانت مثل تلك الحروب حالة شائعة ومعروفة بشكل يومي.

وببساطة فإن الإسلام قد أنهى الحروب العدوانية، وسمح فقط بالحرب الدفاعية تحت شروط معينة، وبعد أن تكون جميع الجهود لحفظ السلام قد أخفقت وعندما يكون العدو قد فرض الحرب على الدولة الإسلامية. وإن مثل هذه الحرب الدفاعية قد سُمح بها لغاية حماية حالة السلام والحفاظ عليها، وليس بُغية تشويش السلام. وسيكون هذا أكثر وضوحًا إذا ما ألقينا نظرة على الحروب التي تورط المسلمون الأوائل فيها على كره منهم.

وسنقدم هنا ستة أمثلة لبيان ذلك:

  • معركة بدر

أُخرج المسلمون بالقوة من بيوتهم وممتلكاتهم في مكة؛ وذلك بعد أن تعرضوا، لمدة تزيد على 13 سنة، لاضطهاد ظالم ومعاناة شديدة على أيدي المكيين الطغاة. وطوال كل هذه المدة من الاضطهاد، فإن المسلمين لم يتوجهوا لأحد بالأذى. وأقاموا بعد هجرتهم في المدينة التي كانت تبعد عدة مئات من الكيلومترات عن مدينتهم الحبيبة مكة. وخلال وقت قصير، اضطر المسلمون إلى مواجهة جيش قوامه ألف فارس متمرس مدجج بالسلاح، حيث أرسل المكيون هذا الجيش إلى المدينة لاجتثاث المسلمين في مأواهم الجديد (المدينة). ولمواجهة هذا العدو فإن المسلمين النازحين استطاعوا أن يجمعوا فقط 313 رجلاً، ولم يكن لديهم ما يركبوه للحرب سوى فرسين وبضعة جمال. ومع ذلك فقد نتجت المعركة عن هزيمة نكراء للجيش المكي الفائق كثيرًا في قوته من حيث العدو والعدة.

وينبغي الملاحظة هنا، كما في المواضع الأخرى المتعلقة بهذا الأمر، أن المسلمين لم يذهبوا من المدينة إلى مكة للقتال، بل على العكس، فالمكيون هم الذين خرجوا زاحفين إلى المدينة لمهاجمة المسلمين وقتلهم.

2- معركة أُحد

قرر المكيون الانتقام لهزيمتهم المهينة في معركة بدر. ولذلك فقد زحفوا بعد سنة واحدة بثلاثة آلاف جندي مدجج بالسلاح إلى المدينة. وحتى في هذه المعركة فإن الجيش المسلم كان أيضًا أقل عددًا وعدة بالمقارنة مع المعركة السابقة. كان جيش المكيين يبلغ ثلاثة آلاف جندي، منهم سبعمئة رجل مدرع ومائتا فارس راكب. ومقابل ثلاثة آلاف جندي مكي، كان لدى المسلمين فقط 700 رجل؛ 100 منهم مدرعون، وفَرَسان فقط.

وبعد تراجع جزئي من قبل الجيش المسلم في مرحلة معينة من المعركة، فإن هذه المعركة أيضًا انتهت بهزيمة العدو رغم تفوقه الواضح. وأثناء المعركة فإن الرسول ذاته تعرض لهجوم خطير هدد سلامته، ولكنه أبدى شجاعة غير عادية في مواجهة الخطر الكبير.

وهنا أيضًا يجب ملاحظة أن المكيين هم الذين جاؤوا من بعيد من مكة، وأجبروا المسلمين أن يخرجوا من المدينة ويدافعوا عن أنفسهم. وتُعرف هذه المعركة باسم معركة أُحُد وهو الموقع الذي شهدها.

بعد هذه المعركة بوقت قصير، ضربت مكة مجاعة مهلكة. وبرحمة من رسول الله ، فتح تمويلاً لمساعدة العدو المصاب في ساعة الحاجة والعسرة. وقد كانت هذه بادرة إنسانية واضحة وغير عادية، لأن العدو الذي قرر هو مساعدته، كان قد شن هجومًا ظالمـًا مرتين في حرب عدوانية استهدفت استئصال المسلمين المسالمين، بالإضافة إلى المعاناة والاضطهاد الشديدين اللذين كانوا قد أوقعوهما عليه وعلى أصحابه المؤمنين طوال ثلاث عشرة سنة متواصلة.

  • معركة الخندق

في السنة الخامسة للهجرة، شن المكيون حملة حقد وضغينة عدوانية ضد المسلمين في الجزيرة العربية كلها. فقد انضمت قبائل عربية مختلفة في تحالف جمع قوة قوامها 18000 إلى 20000 من الجنود الأشداء المتحمسين لإبادة المسلمين وإنهاء وجودهم.

زحفت هذه القوات باتجاه المدينة، وكانوا واثقين أنه لا نجاة للمسلمين هذه المرة. كان مجموع سكان المدينة في ذلك الوقت ثلاثة آلاف نفس، يمكن أن يُجمع من بينهم 1200 إلى 1250 جندي فقط. لقد كان على المسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم ضد جيش يفوقهم خمسة عشر ضعفًا قوة وعددًا. وكانت المصيبة المتوقعة، التي لا يُحسد المسلمون عليها، واضحة تمامًا، ولكن الذي حدث، ويشهد له التاريخ، هو أن رعبًا هائلاً قد انفجر في صفوف أعداء المسلمين بعد حدوث بضعة أحداث مفاجئة غير متوقعة عدها المعتدون علامات شؤم، مما دفع جيشهم العدواني المتحالف إلى انسحاب مفاجئ سريع، دون أن يتمكنوا من تحقيق غايتهم في إبادة الإسلام وإفناء المسلمين.

  • الحملة إلى سورية

يبرهن هذا الحدث بشكل واضح مؤكد أن المسلمين لم ينطلقوا إلى ميدان المعركة بمبادرة من عندهم، ولكنهم كانوا دائمًا يُجبرون على ذلك.

أخذت قوات مسيحية على الحدود السورية استعداداتها للهجوم على المدينة؛ وكان قد تم تحريض هؤلاء من قبل قبائل يهودية ومن العرب المشركين. وبعد الانتظار طويلاً وعبثًا على أمل أن ينسحبوا من الحدود؛ ومن خلال اهتمام الرسول الكبير بالحفاظ على أمن المدينة، فقد أرسل جيشًا قوامه 3000 جندي إلى حدود سورية. وبمناسبة هذه البعثة، أصدر الرسول تعليمات تضبط سلوك المسلمين في الحرب. ويجد الدارس لهذه التعليمات أنها تُشرّف مقررات مؤتمر جنيف المتعلقة بالحرب.

أمر الرسول المسلمين أن يحاربوا بكل شجاعة وإيمان شريطة ألا يتخلوا أبدًا عن السلوك الإنساني القويم. كما أمرهم ألا يتعرضوا بالإساءة لأي كاهن أو راهب أو أي عابد يعمل في خدمة الدين والمحافظة على دور العبادة. وكذلك أمر رسول الله جنود المسلمين ألا يقربوا النساء والأطفال والعجائز، وأن يكونوا رحماء بهم وألا يتعرضوا لهم بأي سوء أو أذى، وأمرهم أن يحافظوا على الأشجار وألا يقطعوا شجرة مثمرة، وكذلك أن يحافظوا على البنيان فلا يهدموا البيوت.

وعندما وصل الجيش المسلم إلى الحدود السورية، علموا أن القيصر نفسه قد جاء زاحفًا على رأس مئة ألف مقاتل من جنوده، بالإضافة إلى عدد مشابه من الجنود من القبائل المسيحية.

وليس من الصعب هنا تخيل كيف أن ثلاثة آلاف جندي فقط كانوا يسعون إلى مقاومة وصد مئتي ألف جندي مقاتل تحت القيادة الشخصية للقيصر. لقد كان عليهم بالتأكيد أن يواجهوا دمارًا مؤكدًا. وبدأ القادة المسلمون يتساقطون الواحد تلو الآخر، ولكن الحدث العجيب المدهش هو أن تلك المجموعة الإسلامية الشجاعة الصغيرة انتصرت في النهاية، واضطر الجيش البيزنطي أن يُخلي ميدان المعركة بمعجزة حقيقية تم من خلالها إنقاذ الجيش المسلم.

لقد اتُّهم الإسلام باطلاً بأنه قد انتشر بالسيف، والحقيقة هي أن الإسلام كان قادرًا على الانتشار رغم السيف الذي رفعه أعداؤه لاجتثاثه. ويفيض التاريخ بالبرهان على ذلك.

  • سقوط مكة

في السنة الثامنة لهجرة المسلمين إلى المدينة دخل الرسول ثانية مدينته الحبيبة الغالية وموطن مولده مكة.

كان مصحوبًا بعشرة آلاف من أتباعه المؤمنين. ومع ذلك فإن هذا الجيش العظيم لم يدخل مكة بقصد سفك الدماء، أو أن يقتل أو يسلب، بل رجع إلى مكة ليغفر للعدو ويسامحه، وليعلن بأن النبي قد جاء لينسى جميع اضطهاداتهم ومظالمهم وخطاياهم، وليرحم الذين اضطهدوه ولم يرحموه، وشنوا الحروب الظالمة ضده وضد أتباعه.

إن هذا الدخول إلى مكة بمثل هذه القوة الكبيرة، كان يمكن أن يكون فرصة ممتازة لإكراه العدو المقهور على الدخول في الإسلام. ومع ذلك فلم يُطلب من فرد واحد أن ينضم إلى الإسلام، ولم يُهدد فرد واحد بالرد الانتقامي بالمثل على ما ارتكب من آثام في حق المسلمين.

صحيح أنه دخل في الإسلام في تلك المناسبة عدد من العرب، ولكنهم فعلوا ذلك باختيارهم هم وعن طواعية نفس.

  • معركة حُنين

خلال شهر واحد من سقوط مكة الشهير، اضطر المسلمون ثانية للذهاب إلى أرض المعركة لمواجهة جيش قوامه سبعون ألف مقاتل قُرب حنين. وبعد شيء من الاضطراب داخل الجيش الإسلامي في بداية المعركة، فإن هذه المعركة أيضًا قد اختتمت بالنصر الكامل للمسلمين بعون الله تعالى.

إن هذا الملخص الصغير للاشتباكات العسكرية في أول عهد الإسلام، ليتحدث بكل فصاحة وطلاقة، ويدحض في جميع جوانبه الافتراء الذي طالما يردده خصوم المسلمين، بأن المسلمين قد استخدموا القوة لنشر الإسلام.

على النقاد والخصوم المجادلين للنبي محمد أن يعمدوا إلى الرؤية الصحيحة الحقة عند حكمهم على الإسلام فيُدركوا أن الحقيقة الساطعة التي يُعلنها التاريخ بجميع بياناته هي أن: الإسلام لم ينتشر بالسيف، ولكنه قد انتشر بالرغم من السيف.

(مقتبس عن مجلة Review of Religions, March 1986  )

Share via
تابعونا على الفايس بوك