في رحاب القرآن
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (129)

شرح الكلمات:

مسلميْن-المسلم: المطيع؛ المنقاد (الأقرب).

أمّة-الأمة: الجماعة (الأقرب).

أرِنا-الرؤية تكون بالعين والقلب، والمراد هنا كلتاهما، ولوجود كلمة (مناسك)بعدَها يكون المعنى: أظهِر لنا أو علِّمنا مناسكنا.

مناسك-جمع منسك وهو العبادة؛ أو كل الحقوق التي يجب أداؤها لله (الأقرب).

التواب-التوبة من العبد تعني رجوعه وإنابته بصدق القلب إلى الله. والتوبة من جانب الله تعني رحمته على عبادة.

والفرق بين التوبة والرحمة أن الرحمة بتوفيق من الله إلى الترقيات الروحانية بسبب اتجاه الإنسان إلى فعل الخيرات. أما التوبة فتدل على ترقيات روحانية بسبب التخلص من المعاصي. فصفة التواب تُستخدم عموما لدفع السيئات والتقصيرات، وصفة الرحيم لخلق الكفاءات والطاقات الروحية. فكلتاهما تشير إلى فعل خاص مستقل عن الآخر: الرحيم للارتقاء والزيادة، والتواب لتلافي النقص. كأن الإنسان عندما يتطهر من أخطائه ويتدارك نقصانه ويميل إلى الارتقاء الروحي.. فإن صفة (الرحيم) تؤدي دورها.

التفسير:

يدعو إبراهيم ربَّه: إن عمران هذا البيت منوط بعبادك، ولكن مجرد وجود السكان لا يعني شيئا، بل المهم أن يكون المنتسبون إلى هذا البيت من الصلحاء. فندعوك نحن الاثنين أن تجعلنا مسلميْن لك..مطيعين لك متمثلين لقولك، وأن تكون من ذريتنا طائفة مطيعة لك على الدوام، ونبتهل إليك أن تدلنا على طرق للعبادة تناسب حالتنا. ذلك أن الإنسان مهما كان مخلص القلب طيب القصد.. إذا لم يعرف كيف يعمر البيت فهو معرض للخطأ، لذلك يدعوان ربهما أنه لا يكفي أن تملأ قلوبنا بالإيمان فحسب. .بل يا رب دُلَّنا من وقت لآخر كيف نعمر هذا البيت، وما هو الطريق الذي نختاره للعبادة حتى ترضى عنا ويبقى هذا البيت عامرا.

وفي هذا الدعاء لم يقل إبراهيم: أرِنا المناسك، وإنما قال: أرِنا مناسكنا، والسبب أن الأحوال تتغير بتغير الزمن، والمؤمن الكامل يسعى لإدراك الفرائض التي تفرض عليه بتغير الأحوال. إن اتباع طريق قديم بدون تدبر وغضِّ النظر عن الأحوال المتغيرة لا يفيد الإنسان شيئا. والأسف أن المسلمين في هذا الزمن لم يدركوا هذا الأمر، وكانت النتيجة أنهم يؤكدون على الجهاد بالسيف فقط، مع أن الزمن لا يتطلب منهم جهادا بالسيف، وإنما يطالبهم جهادا باللسان والقلم، إن إبراهيم يدعو ربه: ربِّ وفِّقنا لعمل صالح مناسب لحالنا، واهدنا في هذا السبيل دائما.

ورد في الحديث أن شخصا سأل النبي : أي عمل أفضل؟ قال: أفضل الأعمال صلاة التهجد. وسأله آخر: أي الأعمال أفضل؟ فقال الجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال. والسبب في اختلاف الجواب أن أهمية الأعمال تختلف باختلاف الأفراد. فالذي لا يقوم بالقتال جهادا في سبيل الله فالجهاد أفضل الأعمال له. والذي امتلأ قلبه بالكِبر والنخوة فأفضل الأعمال له هو التواضع. والذي يُؤثر النوم على أداء صلاة العشاء والصبح في المسجد، فأفضل الأعمال له هو ترك الفراش وأداء الصلاة في المسجد. والذي لا يقوم الليل فأفضل الأعمال له هو أداء صلاة التهجد، والذي لا يقوم بخدمة أبويه فأعظم الأعمال له هو برهما والقيام على خدمتهما. فكل خير يثقل على أحد فإن عمله هو أفضل الأعمال بالنسبة له. وكذلك كل عمل تدعو إليه الضرورة أكثر من غيره هو أعظم عمل. ففي وقت الصلاة تكون الصلاة هي أفضل الأعمال، وفي وقت الصوم يكون الصوم هو أفضل الأعمال. فأهمية وأفضلية الأعمال تختلف باختلاف الأمم والأفراد والأزمان، فكل بِرّ يحتاج إلى القيام به أمة أو فرد أو زمن هو الأفضل بالنسبة لهذه الأمة أو ذاك الفرد أو ذاك الزمن، والعمل به يجعل الإنسان محط رضوان الله.

إن إبراهيم نظرا إلى هذه النكتة يدعو ربه: إلهي، نحن ضعفاء بلا حول ولا قوة، ولا نستطيع عبادتك حق العبادة، فارحمنا ودلنا على طرق لعبادتك تناسب الحال. إننا لن نستطيع حمل هذا الثقل.

وزاد في دعائه (وتُبْ علينا)..أي جُدْ علينا بإلهامك الذي يدلنا على عمران بيتك. نحن عبادك يا رب، وسوف نقع في الأخطاء، لذلك نلتمس منك المغفرة، فغُضَّ النظر عن سيئاتنا. .(إنك أنت التواب الرحيم)، فأنت الذي تقبل التوبة كثيرا لأنك رحيم.

لقد ذكر إبراهيم صفتي التواب والرحيم لأن العبد مهما كان صالح النية في عمله فإنه مع ذلك يقع في الخطأ، وفي هذه الحالة تتداركه صفة التواب. أما إذا عمل عملا صالحا فإن صفة الرحيم تساعده وتعينه.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك