لو لاك لـما خلقت الأفلاك

لو لاك لـما خلقت الأفلاك

التحرير

لا يخفى على أحد أن الكثير من مجلدات تاريخ الإنسانية والديانات على حد سواء لم تخطها أيادٍ أمينة فساهم هذا العامل في تسرب كثير من الأكاذيب والمغالطات التي تسببت في تشويه حقائق وتدنيس مقدسات. ولم يتوقف هذا الأمر إلى هذا الحد بل إن أنبياء الله المعصومين دُنس شرفهم وأُلصقت بهم اتهامات شتى. ويا للحسرة فإن خير خلق الله محمد المصطفى الذي انتظره تاريخ التطور الإنساني ليختمه بالطفرة الروحية التي يسعى إليها الإنسان بقدميه، دوِّنت حول شخصه الشريف الكثير من الوقائع بطريقة غير سليمة أو باستقراء خاطئ. محمد الذي كان إذا تحدث عن الله جل جلاله، بدا للناظرين وكأن وجوده كله يذوب في حب عميق له تعالى، وينبض كيانه كله بنشوة إخلاص فريد لله عز وجل. اقرأوا في كتب التاريخ كيف كان ينسل ليلاً فتتبعه زوجه عائشة لتراه في البقيع يدعو لهم طاعة لأمر جاءه به جبريل، أو تجده ساجدًا مستغرقًا في تسبيحة عذبة لله، وكم ليلة ظنت أنه ربما غادر المكان إلى زوجة أخرى، فتلتمسه فتجده قريبًا في حالة ذوبان في حمد وتمجيد لله، فتقول كل مرة: أنا في واد من الفكر وأنت في واد آخر.

لقد تحكم حبه لله تعالى وإخلاصه له في جميع مجالات حياته، ولقد تلونت كل مناحي حياته بصبغة هذا الحب وذلك الإخلاص. ولقد كان يصرف الجزء الأكبر من وقته في الليل والنهار يصلي لله، ويسبح بحمده، رغم كل الأعباء الثّقال التي كان يحملها على عاتقه، والمسئوليات الجسام التي كانت تُطوّق عنقه. وكان يهجر فراشه، ويستأذن زوجه الطاهرة قائلاً: “دعيني يا ابنة أبي بكر أتعبد لربي”، ويكرّس كيانه لعبادة الله تعالى، ويتفكر في بكاء غالب، حتى يحين وقت الخروج إلى صلاة الصبح. وأحيانًا، كان يقف طويلاً في الصلاة من آخر الليل حتى تتورّم قدماه، وكل من شاهده على هذا الحال تأثر به كثيًرا. إنهم يهاجمونه الآن كما لم يُهاجَم إنسان بالتهم الكاذبة، وهو أطهر خلق الله وأصدقهم، وأعظمهم استقامة وشفافية ونظافة وبساطة وتواضعًا ورقة وثباتًا ونزاهة، وانتظامًا على الحمد والتسبيح بمجد الله، وتعقلاً وعطفًا ووفاء، واحترامًا للفقير، وإحسانًا للعشرة، وإكرامًا للنساء والجار والطفل واليتيم والأرملة، وعتقًا للرقيق، وبرًا بالرّحم، وتربية روحية للصحب، وتعاونًا على المعروف، ونقاء للسان، وغوثًا للملهوف، وحفظًا للجميل، وصبًرا على المحن، وضبطًا للذات، وسهولة اللقاء، وصعوبة في قبول الشفاعة عند تطبيق القانون، ونفورًا من التحسس والتجسس والتطفل على ما لا يعنيه وفضح العيوب والقسوة، والهجوم على الأمور بلا تحقيق، وهكذا شهد تاريخه المدون.

إنه محمد .. نبي الله الخاتم، هذا النبي الذي بارك كل من قبله من النبوة والصديقية والرسل، ودافع عن عصمة النبوة ونفى عنها كل تهمة.

لقد أقام الله محاميًا قديرًا أثبت براءته وأعلن حقه  وكان ذلك عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة. هذا المحامي الذي أمضى عمره يجمع الناس إلى الحق ويشحذ الحق من الله. هذا المحامي ليس عربيًا بل هو هندي المولد، آذاه ما سَـمِعَ من سباب النبي والتحامل عليه تحت علم الدراسة والبحث، فقرر أن يخوض بحر الروايات، ويعيد قراءة القرآن ويتفرغ لفهمه، ففتح أسفار التواريخ، وتلقف الملفات، وخاض محيط التفسير المتلاطم ليخرج بجوهرة مكتوب عليها: أن الله ليس كما يفهمون، والرسول ليس كما يتهمون، فما كان الله لينـزل شيئًا لا يليق، وما كان رسله دون المستوى اللائق. إنه الابن البار لحضرة الإمام المهدي عليه السلام والذي شرفه الله عز وجل أن يكون ثاني خلفائه الكرام ألا وهو حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه الذي ألف كتابا تحت عنوان “حياة محمد” تُرجم حديثا للغة العربية والتي ستنشره “التقوى” إن شاء الله عبر حلقات.

إن الدارس لحياة الأنبياء يستخلص إلى أنها عامة تشكو من نقص التسجيل أو الغموض.. ولكن المؤلف يجد حياة قد فاضت عنها الروايات والتفاصيل. ويقول “من الصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والروايات المدونة قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد عليها بحسم، فإن ما تثيره فينا حياة النبي من الإيمان والحب الغامر والتقوى، لا يماثلها فيه حياة أخرى… عندما تتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بردّها إلى القيم الصحيحة الثابتة، فإن حياة مثل هذه لمن المحتم أن تحبب نفسها إلينا وبصورة كاملة وإلى الأبد”. ويشرح المؤلف كيف تؤثر فينا قدوة المصلي الذائب في صلاته كي تجعلنا نعيد اكتشاف الصلاة، فنحيا ما نقرؤه خلالها ونقترب.

«عندما تتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بردّها إلى القيم الصحيحة الثابتة، فإن حياة مثل هذه لمن المحتم أن تحبب نفسها إلينا وبصورة كاملة وإلى الأبد».

لقد رصد المؤلف حياة العرب قبل الإسلام رصدًا مركزًا، يتبين منه على الفور حقيقة الأثر الذي تركه هذا الرجل العظيم على قومه، والمستوى الذي رفعهم إليه. وتحدث عن حالة جزيرة العرب عند مولد رسول الله، وذكر الحالة الخلقية والعقلية والاقتصادية للعرب، وكذلك العلاقات بين الإنسان والإنسان التي كانت متخلفة في جوانب عميقة، متقدمة في جوانب أخرى محدودة.. لقد كانوا في ضلال مبين.

كما ألقى الضوء على زواجه الذي يكشف عن بؤرة مضيئة وسط الظلام، هي بيته الطاهر، أعدت لمهمة عتيدة كي تزيد من مساحة النور تلك لتتسع حتى تبلغ أعماق المكان وأعماق الإنسان وكل الألوان، عندما تلقّى تاج النبوة فتوّجت بذلك أمانته وصدقه، وعزوفه عن الوثنية، وميله الجارف لإغاثة الملهوف، وصلة الرحم، وعتقه للعبيد، وحسن عشرته، حتى ليؤثر زيد بن حارثة أن يكون عبدًا ملازمًا له، على أن يكون حُرًّا وسط بيت أبيه. ما الذي رأته السيدة خديجة حتى وهبته النفس والمال؟ ما الذي رآه زيد حتى فضله على الأب والأم.. ما الذي رآه أهل مكة حتى أجمعوا إجماعًا لم يحدث في تاريخ العرب على إطلاق صفة الصادق والأمين عليه؟ لقد رأوا فيه ما رآه الله وأخبره به:

  وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ،

وتوّج ذلك بالوحي. لقد أنزل القرآن جائزة على رجل عطوف، يُكسِب المعدم، ويقرى الضيف، ويحمل المتعب الكليل، ويعين عند المحنة، فقد كانت كلمات الله تتنـزل دائمًا على رجال مثله، وهذا هو أصل الإسلام الذي ظلموه، والنبي الذي هضموا حقه، ولم يسألوا: ما الذي رآه أبو بكر فيه حتى اكتفى بادعائه النبوة كدليل على صدقه، لأن مثله لا يكذب؟

هذه هي الرؤية الأولى والانطباع الأول للزوج العاقلة، والصديق المتّزن، والخادم الملازم، والجيران والمحيطين الذين لم تتولد فيهم مشاعر الخصام بعد.. إنه الصادق والرؤوف معًا. ولكم أيها القراء الحق أن تسألوا عما رأى النساء والعبيد الأوّلون، والعقلاء السابقون، في دعوة الله وكلامه.. لقد رأوا كرامة وحرية ورحمة وفهمًا.

وما بين الاضطهاد الذي يشيب له الولدان، والمُنْصَبّ انصبابًا على الضعفاء المسلمين الجدد، وحلاوة الإيمان الغلاّبة، وبين الهجرة إلى واحدة من البلاد المسيحية العظيمة وهي الحبشة؛ حيث لم يكن يُظلم الناس بسبب المعتقد، وما بين المقاطعة التامة من أهل مكة للنبي وكل من يقف بجانبه بأي صورة. كما يرصد المؤلف محنة النبي وبحثه عن مخرج، حين أصبح يومًا لا يجد أحدًا منهم يكلمه، ولا يرد عليه أي رد من شدة الكيد، وإزاء ذلك يفكر في الذهاب للطائف – قريبًا من مكة – ليدعوهم.

في المدينة كان هناك تربة صالحة للغرس، كما كان في الحبشة تربة صالحة للّجوء، كما كان في بلاد بعيدة تربة صالحة تنتظر دعوة التوحيد، وكان في الإنسان فرصة للاستئناس.

طرَق النبي الاحتمالات العديدة، وفاز منها احتمال يثرب التي أسلم بعض أهلها.. استمعوا من النبي وسمعوا من أعداء النبي.. كان كلام النبي حجة ناضجة للفهم، وكان أعداؤه يلقون بمطاعن ناضجة للتشويش، تم طبخها على مدى 11 عامًا. واختار عرب المدينة النبي على عدوّه، وقرروا أن يمنعوه كما يمنعون أنفسهم وأعراضهم. وهاجر النبي إليهم يقول: أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. فيا ليت قومنا يفقهون!

كما يبرئ المحامي الهندي موكله في فصل: الأخطار تحوم في المدينة؛ من تهمة إشعال شرارة أحداث الحرب مع أهل مكة بأدلة منصفة، تتبع تفاصيل الأحداث دون تجاهل، فقد كان النبي يضع خططًا للإخاء، ويؤسس نظامًا للقضاء، كي يشتكي المظلوم ولا يتحول إلى جلاد، ويكتب عهودًا بين طوائف المدينة للسلام والتعاون البنّاء والحرية الدينية، ويؤسس حقوق الناس، ويقيم الليل ويملي الكتاب، ويصلح بين المتخاصمين، ويحث على إماطة الأذى عن الطريق، ويدعو بالحكمة لدينه، بينما كان أهل مكة يخططون لإبادته، ويجوسون خلال القبائل المحيطة بالمدينة لتأليبهم ضد النبي وصحبه، ويراسلون منافقي المدينة بالرغب والرهب ليطردوا النبي ومن معه أو يقاتلوهم، “وإلا غزوهم فقتلوا الرجال وسبوا النساء”، وهكذا كانت رسالتهم، وبدأت كراهية القبائل العربية تنمو ومسعر الحرب يشتعل.

ثم يطلب طلبه الأخير: ألا يجعلوه أكثر من إنسان رسول. فلا تملك عقلك من الإعجاب، ولا دمعك من الانسياب، ولا قلبك من نبذ الارتياب، أنه حقًا نبي رب الأرباب.

لم يكن النبي ؛ المسؤول الأمين، بمستسلم للغفلة.. فقام بالأقل الواجب رغم حقه في حرب وقائية، وهذا الأقل الواجب هو الاستطلاع لمعرفة ما يحدث. لقد كانت سرايا الاستطلاع تسمى غزوات من باب التجوّز، وكانت القوافل المسلحة القريبة الممر حينئذ خطرة على المدينة، حتى خرج يومًا في عدد محدود يستطلع قافلة مسلحة، فنتج عنها معركة بدر.

ويهمل كثير من الكتاب والنقاد ما يكمن في معركة بدر من تخطيط إلهي واضح، قاده الله تعالى لإظهار آية محددة، وهي أنه هو الذي أرسل هذا الرسول، وهو الذي أخرجه في عدد قليل هكذا، لا يدرى من سيلاقي، جيشًا أم عيرًا؟ وأراد له الاصطدام بهم هكذا، دون كفاءة عددية أو تسليحية.. ليكون هناك معجزة واضحة للإيمان، يعرف بها أهل مكة أن الله عز وجل هو الذي يقاتل وليس محمدًا في هذا اليوم. ويرد الكاتب بصدق وتدقيق على ما أثير من لغط حول مصير بني قريظة، في ما بعد عاصفة الصحراء لما اجتمع العرب واليهود في مؤامرة لإبادة خضراء المسلمين الوليدة.

ويقص المؤلف من روايات السيرة دلالات على أشكال من حب شخص النبي ، والإخلاص النادر، ومشاهد تثبت أن شيئًا جديدًا في الدنيا يتكون راقيًا، ومولودًا جديدًا يرى النور، سواء في معركة بدر التي انتصر فيها الإسلام ونال فرصته للحياة، أو في أُحد التي انتقم فيها أهل مكة لقتلاهم، ولكنهم لم يقتلوا النبي ولا الإسلام. ورغم فرار الكثير من المسلمين في فوضى المعركة فإنه كان فرارًا لم يضر، وعادوا يصطفون دفاعًا عن مدينتهم، وإصرارًا على الحياة بعد الفرار، وتوبة والتئامًا سريعًا. ويكشف الكاتب وجه الإسلام الناصع في فصل ينم عن فهم استراتيجي عال، وفقه نافذ للقرآن، عندما يسأل بعد واقعة الخندق ومعجزة النجاة منها: هل أراد رسول الله استمرار الحرب؟ ويجيب بما يرضاه الله ويقول: حقًا هذا هو ديني الذي أوحيت. ثم يتبع خط حياة حبيبه محمد حتى يواريه الثرى وهو يهتف بأمته: الصلاة وما ملكت أيمانكم، ثم يطلب طلبه الأخير: ألا يجعلوه أكثر من إنسان رسول. فلا تملك عقلك من الإعجاب، ولا دمعك من الانسياب، ولا قلبك من نبذ الارتياب، أنه حقًا نبي رب الأرباب. تلك هي عزيزي القارئ أهم نفحات هذا الكتاب القيِّم الذى نرجو الله أن ينور بصيرة كل من يقرأه كي يتعرف من خلاله على الشخصية الفذة التي لم ولن يعرف التاريخ مثيلا لها. اللهم صلِّ وسلم على نبي الرحمة وتقبل منا هذا العمل المتواضع تعريفـا ودفـاعا عن أكمل خلقـك الذي قلت في شـأنه وأنت أصـدق القـائلين “لو لاك لما خلقتَ الأفلاكَ.”

Share via
تابعونا على الفايس بوك