في عالم التفسير
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (البقرة: 37)

بقي أن نحلّ الجانب الثاني من السؤال القائل: نسلّم أن الشيطان -الذي كان كائنًا آخر غير إبليس- تظاهر لآدم بالإيمان والإخلاص، مما جعل آدمَ ينخدع به، ومع ذلك لا بد أن ما أمره به الشيطان كان مخالفًا لأمر الله تعالى، فكيف أقدم آدم على معصية الله تعالى؟

والجواب أن الإنسان كما يخدع غيرَه بالتنكر له، كذلك يخدعه في الحقائق الدقيقة بتصوير الأمور الخاطئة على أنها صحيحة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأسلوب الخادع متحدثًا عن المنافقين وقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (البقرة:12)، أي أنهم يدّعون للمسلمين بأنهم لا يلتقون الكفارَ إلا لكبتِ حماسهم وثوائرهم ولاستمالتهم إلى المسلمين. فهنا قد قدم المنافقون تبريرًا حسنًا لتصرفاتهم الشريرة ليرغّبوا المسلمين في اتّباع خطواتهم  لإنهاء الفساد والقتال! ويخبرنا القرآن الكريم أن الشيطان أيضًا اتبع مع آدم المكيدة نفسها؛ فحرّضه على مقاربة الشجرة الممنوعة بقوله: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (الأعراف:21). فكأن الشيطان قال لسيدنا آدم : عليك أن تفكر في حكمة الامتناع عن الشجرة بدلًا من التمسك الحرفي بالأمر الإلهي؛ فإنما يريد الله أن تصبح ملَكًا وتنال الخلودَ بالامتناع عن مقاربة الشجرة، ويمكنك تحقيق هذا الغرض نفسه الآن باقترابك منها، فتمسَّكْ بلبّ الأمر الإلهي ولا تتردد في الاقتراب من الشجرة من أجل تحقيق المشيئة الإلهية. وقد أوضح القرآن الكريم هذا المعنى في موضع آخر في قوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (طه:121)، والمراد من قولِه تعالى وَمُلْكٍ لا يَبْلَى أنّ الحياةَ الملائكية لا تقهقُرَ فيها.

فالآية الأولى التي هي من سورة الأعراف تبين أن الشيطان قال لآدم أن الغرض من الأمر الإلهي بالابتعاد عن تلك الشجرة أن تكون ملَاكًا وتنال الحياة الأبدية، أما الآية الثانية التي هي من سورة طه فنجد فيها الشيطان يخدع آدم لكي يقترب من الشجرة بقوله: إنك إذا اقتربت منها نلت الحياة الأبدية، وبالجمع بين هاتين الآيتين يتضح جليًا أن الشيطان -من ناحية- صدّق ما قال الله لآدم متظاهرًا له بالإيمان، وخدعه -من ناحية أخرى- باجتهاده الباطل قائلا إن الظروف قد تغيرت الآن وبوسعه تحقيق الهدف الإلهي بمقاربة الشجرة بدلاً من تجنُّبها؛ لأن العمل بروح ولبّ الأمر هو الأولى والأجدر، وليس التمسك الحرفي بالكلمات، فما دام الهدف الحقيقي يُنال باتّباع هذ الأسلوب فلا بأس في ذلك. وهذا ما أوقعَ آدمَ في خداع الشيطان، فقبِل قوله، فصارت جنّتُه دارَ الأذى. والظاهر أن الخواص -فضلا عن العوام- يمكن أيضًا أن ينخدعوا هكذا في فهم بعض المسائل الدقيقة. ثم إن آدم كان أول الأنبياء، ولم يكن قبله أمثلة كهذه حتى تكون له عبرة. ومن الوارد تمامًا أن الله تعالى أراد وقوع آدم في هذا الخطأ ليكون عبرة لمن بعده.

ورغم وجود مثل هذه العبر في الماضي ينخدع عامة المسلمين بمثل هذه الاجتهادات الخاطئة في أيامنا هذه أيضا؛ فمثلا يخدع بعض “العلماء” التجّارَ وغيرَهم بقولهم بأن الربا الذي حرمه الإسلام هو غير الفائدة التي تعطيها البنوك، وإذا كان أخذ الربا مدمرًا للقوم في الماضي، فإن ترك هذه الفوائد مدمر لهم اليوم، فلا حرج في أخذ فوائد البنوك، بل هي ضرورية من أجل الحياة القومية. وهناك العديد من المسلمين الذي يودون بصدقٍ العملَ بأحكام الإسلام في شأن الربا، ولكنهم ينخدعون بهذه الأقوال ويأخذون الربا.

كذلك يخدع البعض المرأةَ المسلمة قائلا: إن العرب كانوا أمة جاهلة، وكان سفور النساء مدعاة لفسادهن في تلك الأيام، أما اليوم فنحن في عصر العلم والحضارة، فلا حرج في ترك الحجاب، بل إن خروج المسلمات سافراتٍ سوف يعمل على تقوية الإسلام، وقد انخدعت بهذه الأقاويل كثيرٌ من المسلمات المخلصات في حب الإسلام وتركْن الحجاب.

بقي سؤال: ما هو الأمر الذي خدع الشيطانُ بشأنه آدم ؟

والجواب: قد أخفى الله تعالى عنا هذا الأمر لحكمةٍ ما، لذا يكفينا أن نؤمن إجمالًا أن ما عرضه الشيطان على آدم كان أمرًا من المناهي يمكن أن يُخدع فيه الإنسان، حيث وسوس له بقوله بأن الظروف قد تغيرت الآن، فتركُ هذا الأمر ضارٌّ بالدين الآن تمامًا كما كان العمل به ضارًّا بالدين من قبل. وربما دعا الشيطان آدمَ إلى إنشاء العلاقات مع الأعداء، مثلما كان المنافقون يقولون للرسول في عصره. وقد مرّت جماعتنا أيضًا بتجربتين مماثلتين من قِبل أمثال هؤلاء، وفيهما دلالة على أن الشيطان في زمن آدم أيضًا لجأ إلى مثل هذه المكيدة.

ولعل أحدًا يقول هنا: ما دام الله تعالى لم يذكر هنا الأمر الذي خدع فيه الشيطان آدمَ، فما الفائدة من ذكر هذه القصة، وكيف يمكن أن يكون هذا البيان المبهم حجةً على خصوم القرآن؟

والجواب على الجزء الأول من هذه الشبهة أن الفائدة التي أرادها الله لنا بذكر هذه القصة هي أن العدو يريد إغواء المؤمنين متنكرًا بزيّ الصالح الناصح الأمين، ومغلّفًا السيئة في غلاف التبرير الصالح لها، لذا من واجب المسلمين أن يأخذوا الحذر من مثل هذا العدو. وهذا المعنى واضح وضوح الشمس في كبد السماء. ولم يكن ضروريًا أن يذكر الله ذلك الأمر الخاص الذي خدع الشيطان آدمَ بشأنه، لأن الشيطان يتنكر في كل زمان بزيٍّ جديد، فلو ذكر الله تعالى هذا الأمر الخاص لم ينفع ذكرُه المسلمين نفعًا كثيرًا، غير أن ما ذكر الله تعالى من هذه القصة يكفي لتحذير المؤمنين من مؤامرات المنافقين.

أما الجزئية الثانية من هذه الشبهة: كيف ينفع هذا البيان القرآني المبهم خصومَ القرآن الكريم؟ فجوابها أن تعاليم القرآن قسمان: أولهما ما هو للمؤمن والكافر معًا، وثانيهما ما فيه نصح وفائدة للمؤمنين فقط. فأما التعاليم القرآنية التي تحتوي على البراهين العقلية، والمعجزات العامة، والأدلة المستقاة من كتب الديانات المختلفة فهي حجة لكل مؤمن وكافر، أو للمؤمنين وأيضا للكافرين من أتباع أديان شتى. وأما التعاليم المحتوية على الأمور الروحانية المحضة فهي تنفع المؤمنين فقط، ولا يمكن أن تنفع الكافرين إلا بعد إصلاح عقائدهم. ولأن هذه الأمور تخص المؤمنين فقط، فلا بأس إذا لم يدرك الكفار حكمتها. فكما أنه لا يمكن الامتناع عن بيان البراهين الدالة على النبوة بسبب وجود الملحدين بالله تعالى، كذلك لا يمكن الامتناع عن بيان أمورٍ ذات فائدة لأتباع النبي بسبب كفرِ بعض الناس به.

وأخطأ بعض الناس في فهم قوله تعالى اهبطوا ، فظنوا إن معناه أن آدم كان في السماء، فأسقطه الله منها إلى الأرض. لقد بيّنّا لدى شرح الكلمات أن من معاني الهبوط الانتقال من مكان إلى آخر، وهذا هو المعنى المراد هنا، لأن الله تعالى إنما جعل آدم خليفةً في الأرض. وقد ورد الهبوط بمعنى الانتقال في قوله تعالى لبني إسرائيل اهْبِطُوا مِصْراً… (البقرة:62)، أي ارتحِلوا من هنا إلى بلد آخر.

فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة: 38)

شرح الكلمات:

تَلقَّى: تلقّاه: استقبله. وفلان يتلقى فلانا أي يستقبله… و تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ : أي أخَذها عنه، وقيل تعلَّمَها. تلقّى الشيءَ: لقِيه. وتلقّى الشيءَ منه: تلقَّنَه (الأقرب).

فمعنى فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِّه أنه تلقَّن أو تعلَّم بالوحي من ربه عبارات للدعاء.

كلمات: جمعُ كلمة. والكلمة: اللفظة؛ وكلُّ ما ينطق به الإنسان مفردا كان أو مركّبا. والكلمة: الخُطبة؛ القصيدة (الأقرب).

تاب: تاب الله عليه: رجَع عليه بفضله، وهو توّابٌ على عباده (الأقرب).

الرحيم: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (الرحمن الرحيم).

التفسير:

يتضح من القرآن الكريم أنه حين خدع الشيطان سيدَنا آدم وأطلعَه الله على زلّته دعا اللهَ تعالى مبتهلا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الأعراف:24)، ويبدو أن هذا الدعاء هو الذي تلقّنَه آدم من ربه.

لقد نبّهتْ هذه الآية إلى أمر لطيف آخر، وهو أن الأدعية التي يُعلّمها الله بنفسه عبادَه هي الأدعى لاستنزال رحمته وفضله. إن كثيرا من الناس يبتكرون من عند أنفسهم أدعية، وقد تكون ناقصة وعبثية، مما يجعلها تتحول أحيانًا إلى دعاء عليهم. ولا أعني بذلك أن على المرء أن يمتنع من الدعاء بكلماته تمامًا، بل أعني أن عليه أن يسعى لإنشاء صلة قوية مع الله تعالى بحيث إذا حلّت عليه مصيبة أو بليّة علّمه الله بنفسه الدعاء المناسب الذي إذا دعا به استدرّ فضلَ الله تعالى، كما علّم آدمَ وغيره من الصلحاء.

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة :39)

 شرح الكلمات:

إما: مركّبٌ من (إنْ) و(ما) (المغني). و(إنْ) حرف شرط، وما للتأكيد.

هُدًى: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم) وقوله تعالى (هدى للمتقين).

خوف: الخوف انفعال في النفس يحدُث لتوقُّعِ ما يرِد من المكروه أو يفوت من المحبوب. (الأقرب)

يحزنون: حزِن له وعليه يحزَن حَزَنًا: ضدُّ سُرَّ. (الأقرب)

الحُزن: الغمُّ؛ خلافُ السرور. والحُزن: الغمُّ الحاصل لوقوع مكروه أو فوات محبوب في الماضي (التاج).

الحزن… خشونةٌ في النفس لما يحصل فيه من الغم، ويضادّه الفرح (المفردات).

فالفرق بين الخوف والحزن أن الخوف يخصّ المستقبل والحزن يخص الماضي.

التفسير:

في قوله تعالى اهبطوا بصيغة الجمع دلالةٌ على أن آدم وزوجته لم يكونا وحدهما في الجنة، بل كان معهما أتباع آدم أيضًا.

لقد وعد الله عز وجل هنا أنه لن يزال دُعاةٌ يظهرون في ذرية آدم يدعون الناس إلى الهدى والصلاح، وأن الذي يستجيب لهم ويهتدي سيدخل الجنة في هذه الدنيا أيضًا، أي ستكون قلوبهم عامرة بقوة الإيمان بحيث تظل مطمئنة في كل حال، فلن ينتابها الخوف من الأضرار المقبلة، ولا الحزن على ما قد أصابهم من قبل، بل تصبح قلوبهم بمنزلة الجنة لهم، ثم يرثون بعد الموت نعم الآخرة.

لقد بين الله تعالى هنا أن الوحي الإلهي لم ينقطع بعد آدم ، حيث وعد الله تعالى منذ ذلك الوقت بأن وحيه سوف ينزل في المستقبل أيضًا، وستنـزل أفضاله على المؤمنين به بدون انقطاع.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة :40)

شرح الكلمات:

كذَّبوا: كذَّبه: جعَله كاذبًا ونَسَبَه إلى الكذب؛ وقيل: قال له كذبتَ. كذَّب بالأمر تكذيبًا وكِذَّابًا: أنكرَه وجحَده. (الأقرب)

آيات: جمعُ آية، وهي: العلامةُ؛ الدليلُ. والآية: كل قطعة من القرآن فصلتْ عن غيرها بعلامة. (التاج)

خالدون: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون).

التفسير:

أي أن الذين يتنكبون عن طريق الهدى ولا يؤمنون بالآيات التي خلقها الله تعالى لمعرفته في عصرهم سيقعون في النار، ولن يجدوا طمأنينة القلب وسعادة النفس رغم كثرة النعم التي تحيط بهم، كما ينالون العقاب بعد الموت أيضًا.

وأما قوله تعالى هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، فالخلود هو المكوث زمنًا طويلًا، فقد ورد في “كليات أبي البقاء[1]: “الخلود في الأصل الثبات المديد، دام أم لم يدم.” فليس المراد أنهم سيمكثون في النار إلى أبد الآبدين. إن الإسلام لا يقول بالعذاب الدائم غير المنقطع، بل إنه يعدّ جهنم كالمستشفى التي سيدخلها الناس للاستشفاء من أمراضهم. إن إله الإسلام لا يعاقب الناس غيظًا وغضبا وحقدا، بل يبين أن سبب العقاب هو إصلاح الإنسان فقط، فإذا تم الإصلاح زال العذاب، ولذلك ورد في الحديث الشريف: “يأتي على جهنم زمان لا يبقى فيها أحد، ونسيمُ الصبا تحرِّك أبوابها” (تفسير معالم التنـزيل، قوله تعالى: أما الذين شقوا…).

ومع أن هذه الواقعة قد جرت مع أحد أجداد النسل البشري في الزمن القديم، إلا أن الله تعالى قد بيّنها بأسلوب يمثّل موعظة وذكرى لكل مسلم، ولذلك نجد أنه تعالى لم يذكر كثيرًا من أمورها على منوال قصة، بل ذكرها بكلمات يمكن أن تنطبق على أي إنسان. فمثلًا لم يخبر الله تعالى ما هي الأسماء التي علّمها آدم، وما هي الشجرة الممنوعة، ثم في سياق الحديث عن إغواء آدم ذكر الله تعالى اسمَ الشيطان بدلاً من اسم إبليس ليبين أن أظلال إبليس موجودون في كل مكان وعصر، كل ذلك لكي تكون هذه الواقعة نصيحة وعبرة للناس وكيلا يقرأوها كقصة محضة. إن كل إنسان يولد فهو كآدم، ويؤمر الملائكة بمساعدته، لأنهم قد خُلقوا كواسطة لتدبير نظام هذا الكون، وتكون كل الأشياء الخاضعة لتدبيرهم معاونةً للإنسان، وسبب الراحة والسكينة في حياته، بَيْد أن الأشرار من الناس لا يرتاحون لارتياح إخوانهم، فيصبحون كالشيطان ويحاولون إخراجهم من الجنة الروحانية التي ورِثَها كلُّ إنسان منذ ولادته، ويؤذونهم كثيرًا، لكن الذي ينيب لربه كما أناب آدم، طالبًا منه كشف الضر فيفلح في نهاية المطاف، ويتسامى عن متناول كل خوف وحزن، أما الذين لا يقتفون بآثار آدم وتزلّ أقدامهم في الابتلاءات، ويصالحون الشيطان معرضين عن هدى ربهم، فيصيرون عرضة للآلام ويهلكون.

تطلع الشمس في كل يوم لترى تكرار هذا الحادث في الدنيا، ولكن الإنسان الغبي والواقع في أنواع المعاصي الخطيرة يلوم آدمَ على اتّباعه للشيطان؛ مع أن آدم أخطأ ناسيًا، أما هؤلاء اللائمون الذين لا يتورعون عن الاعتراض عليه فلا يدرون أن الشيطان قابع في قلوبهم هم.

إن بعض المفسرين الذين قد جانبوا الصواب قد ذكروا في تفسير هذه الآية قصصًا عجيبة لا دليل عليها من القرآن الكريم ولا من الأحاديث الصحيحة، فلا داعي للتوجه إلى تلك القصص، كما لا يصح أبدًا اعتراض أتباع الأديان الأخرى على القرآن الكريم بسبب تلك القصص الواهية.

وإن قصة آدم المذكورة في الآيات السابقة إذ تذكّر الإنسان بإصلاح نفسه كما ذكرنا آنفًا، فإنها تنبّه أيضًا إلى صدق دعوى النبي بأسلوب لطيف، حيث بين الله فيها الأمور التالية:

  1. إن الوحي الإلهي سببٌ لشرف الإنسان، لأن البشر إنما صاروا أفضل من سائر الحيوانات بسبب الوحي الإلهي نفسه. فالأمم المحرومة من الوحي الإلهي، أو التي لا تقدِّر الوحي حق قدره، ترتكب جريمة تفضيل الحيوانية على الإنسانية، وتعرقل طريق النهضة الحضارية اليوم وستعيقها في المستقبل أيضًا، ولن يدفع عجلةَ التقدم الحضاري إلا الذين يلبّون نداء السماء، وأن الذين لبّوا نداء محمد رسول الله في هذا العصر هم الذين سيؤسسون مَدَنيّة جديدة ونافعة. وهذا ما وقع بالفعل، حيث أصبح أتباع هذه الجماعة الروحانية طِبقًا لسنة الله المستمرة مؤسسين لِحضارةٍ جديدة وعظيمة. إن الحضارة الغربية العصرية، وإن بدت رائعة جدا، إلا أنها مقتَطَفةٌ إلى حد كبير من المدنية الإسلامية، أما النواحي التي تختلف فيها الحضارة الغربية عن الحضارة الإسلامية فإنها لم تساعد على إرساء الأمن والسلام في العالم، بل سببت الفساد وسفك الدماء.
  2. أنه كلما ظهرت حركة إصلاحية جديدة عارضها الناس، لأنها تكون من العظمة والروعة بحيث يفشل في إدراك أعماقها وقوة تأثيراتها حتى الصالحون من عباد الله في بداية الأمر، وكان محتمًا أن يحدث ذلك عند ظهور الإسلام أيضًا، وكذلك حدث.
  3. أما الصالحون منهم فلا يلبثون أن يعترفوا بأخطائهم، ويذعنوا لعظمتها، ويندفعوا إلى تأييدها، أما الأشرار فإنهم يبدأون في مقاومتها، وكذلك جرى للإسلام، وهكذا سيكون في المستقبل أيضًا. وبالفعل قد رأى العالم أن صالحي الفِطرة من الناس تتابعوا في الدخول في الإسلام واحدًا تلو الآخر، وهبّوا لمناصرته، أما أصحاب الطبائع الإبليسية فأبوا إلا التمرد والعصيان.
  4. أنه عندما يخيب الأعداء في مقاومة الجماعات الإلهية علنًا، فإنهم ينضمون إليها نفاقًا، لنسج الدسائس في داخلها سرًّا، كما فعل الشيطان في عصر آدم ، وهذا ما يفعل المنافقون ضد الإسلام الآن وسيستمرون في ذلك، وكما فشل الشيطانُ ضد آدمَ، ولم يستطع أن يضرّه ضررًا حقيقيًا، كذلك لن يستطيع المنافقون أن يضروا الإسلام ضررًا حقيقيًا، بل سوف يتقدم الإسلام ويزدهر رغم عداوتهم ومقاومتهم، وسيذوق أعداؤهم عذابًا دائمًا.
  5. أن الهدْي السماوي ليس مقصورا على زمن دون زمن، بل سوف يرسل الله تعالى هدْيَه وفقًا لمقتضى كل عصر. لو كانت السُّنة الإلهية لإرسال الهدى محدودة لانسدت أبوابها بمجرد ظهور النبي الأول كما يزعم الهندوس مثلا، ولكن هذه السُّنة الإلهية لم تنقطع ببعثة آدم، بل أخبر الله على لسان آدم بنزول الهدى في المستقبل أيضًا. فانقطاع الهَدي السماوي منافٍ لمقتضيات العقل، ومناقضٌ لمتطلبات الوحي السماوي أيضًا.
  6. أن الذين يؤمنون بالهداية السماوية يعيذهم الله تعالى من سيئات أعمالهم السابقة، كما أعاذ آدم ، ويمشون قُدمًا بخطىً ثابتة وتقلّ الأخطار في المستقبل حتى لا يبقى لها أثر. فالمؤمن يصبح جريئا شجاعا مقداما بسبب إيمانه بهذا الوعد، فلا يخاف العواقب عند تقديم التضحيات ليقينه بأن الوحي السماوي هو العروة الوثقى التي إذا استمسك بها نجا من جميع الهموم والآلام، فله إحدى الحسنيين: إما القيادة والصدارة إذا كُتبت له الحياة، أو الشهادة المريحة في أحضان حب الله تعالى، فمم يخاف؟

[1]  لم نجد هذه العبارة التالية في كليات أبي البقاء بل وجدنا في البيضاوي. (المترجم)

Share via
تابعونا على الفايس بوك