حكمة ذكر المحافظة على الصلوات بين آيات أحكام الطلاق
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (239)

شرح الكلمات: 

قانتين – القنوت: الطاعة؛ القيام في الصلاة؛ الدعاء؛ الخشوع وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات مِن رَهَب الله (الأقرب).

التفسير: 

في سياق الزواج ذكر الله هنا الصلوات، لأن الناس عموما يتكاسلون عن الصلاة بسبب الزواج. فأولا: يسهرون إلى وقت متأخر من الليل مما يؤدي إلى التغافل عن صلاة التهجد وأداء صلاة الفجر مع الجماعة، وثانيا: تشغلهم أعمالهم اليومية عن الصلوات. فالزواج يؤدي إلى نقص في العبادات، لأن مشاغل الإنسان تزداد بالعلاقات بين الزوجين، وبالرعاية والعناية بالأطفال، وبالكدّ لكسب المعاش، وبالنقصان في الطهارة.. ولكن الله تعالى يقول: مهما زادت مشاغلكم، ومهما بذلتم من جهود إضافية لكسب المعاش، ومهما تشتتت أفكاركم هنا وهناك.. فحذار أن تتكاسلوا عن الصلوات.. وخاصة الصلاة الوسطى.. فحافِظوا عليها دوما.

فما هي هذا الصلاة الوسطى؟ قال البعض صلاة التهجد، وإني أميل إلى هذا الرأي، فهي بين صلاة العشاء والصبح. وقال البعض إنها الصلاة التي تحين وقت انشغال الإنسان بأعماله (الكشاف والبحر المحيط).

وهناك بعض الأحاديث التي تبيّن أن النبي قال: إنها صلاة العصر. فعن سمرة بن جندب أن النبي يوم غزوة الخندق قال: (حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس. ملأ الله بيوتهم وقبورهم وأجوافهم نارا) (البخاري والترمذي، التفسير). ونفس هذا الحديث يثبت أيضا أن الصلاة الوسطى هي التي تحين وقت انشغال الإنسان في عمله، وقد جاءت صلاة العصر يوم الخندق أثناء انشغال المسلمين في القتال، ولعل هذا هو السبب في أن النبي سماها الصلاة الوسطى.

والوسطى تعني أيضا الفضلى والعليا (الكشاف). والواضح أن الصلاة التي يؤديها الإنسان بترك مشاغله الكثيرة هي التي تكون له الوسطى، وسببا في كثرة نزول البركات والأنوار.

وأرى أن كلمة (حافظوا) تشير إلى أمر آخر أيضا. فالمحافظة من باب المفاعلة الذي يدل على الاشتراك. فالله ينصح الرجل والمرأة أنهما بهذا الزواج أصبحا شريكين، ومن واجبهما أن يحافظا معا على الصلاة وخصوصا الصلاة الوسطى.. وهي صلاة التهجد. وقد ورد في الحديث أن الرجل لو استيقظ لصلاة التهجد فليوقظ أهله، وإذا لم تستيقظ فليرش وجهها خفيفا بالماء. أما إذا استيقظت المرأة فلتوقظ زوجها ولترش الماء عليه لإيقاظه إذا لم يستيقظ (المشكاة: الصلاة). فما دام النبي قد أكد على صلاة التهجد، فيمكن أن تقدّر مدى تأكيده على المحافظة على الصلوات الأخرى. والمعنى أن على الزوجين أن يحافظا على صلاة بعضهما، وأن يعملا على رقي كل واحد منهما في العبادة.

قوله (وقوموا لله قانتين) يعني ألا تتشتت أفكارهم أثناء الصلاة، وإنما عليكم بالتفرغ إلى العبادة بإخلاص تام وطاعة كاملة وتبتل صادق. كان الصحابة قبل نزول هذا الأمر أحيانا يتحدثون فيما بينهم أثناء الصلاة، وبعد نزوله امتنعوا تماما من ذلك (الترمذي، التفسير).

 

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (240)

التفسير:

يركز الله هنا على أهمية الصلاة أكثر فيقول: دعك من الحديث عن العلاقات الزوجية، فلو كنتم مطارَدين من العدو، سواء كنتم مشاة أو على ظهور الدواب، فينبغي أن لا تهملوا الصلاة. فكأنه يقول: لا يجوز التغافل عن الصلاة في أي حال..  في الخوف أو في الأمن، حتى لا يجوز لكم ترك الصلاة وأنتم في خطر أشد من الخطر الذي يدعو لصلاة الخوف وقت القتال. فمهما كان حالكم يجب أن تُصَلّوا. ورد في الحديث أن عبد الله بن عمر سئل عن صلاة الخوف، فبيّن طريقتها ثم قال (فإن كان خوف أشد من ذلك صلّوا رجالا قياما على أقدامكم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها). قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله قد ذكر ذلك إلا عن رسول الله (البخاري، التفسير).

فيتبيّن من ذلك أن النبي كان يرى من هذه الآية أنها أشد خطرا من القتال الذي تُؤَدّى فيه صلاة الخوف التي يصلي فيها الناس خلف إمام (النساء: 103). أما في هذه الحالة فلا يجد الإنسان الفرصة ليتوقف ويصلي، وإنما يضطر لأداء الصلاة وهو يعدو. على سبيل المثال.. لو أن أحدا من عيون المسلمين شعر العدو بوجوده، ففر في اتجاه جيش المسلمين يعدو أو راكبا جواده، ويطارده عدد من جنود العدو، فلا يستطيع أن يتوقف ليترجل عن الحصان ويصلي إذا حان وقت الصلاة ، فيدركه العدو ويُحرَم جيش المسلمين من المعلومات التي جمعها والتي أُرسل من أجلها. وما دام من الضروري له أن ينجو ويصل بالمعلومات سالما، لذلك يرخّص له الصلاة على ظهر جواده. وكما يرخّص للمريض أن يصلي وهو مستلق أو بالإشارة في بعض الأحيان، كذلك يرخّص لهذا أن يؤدي الصلاة كما يشاء.. كأن يردد كلمات الصلاة وهو على ظهر جواده، وعندما يركع أو يسجد يحرك رأسه قليلا، ويكتفي بالتسبيح مرتين، ويكمل صلاته هكذا بسرعة..  وتكون صلاته مقبولة حتى ولو لم يكن مستقبل القبلة. نعم، إذا وجد فرصة ليستقبل القبلة عند بداية الصلاة فليفعل، وبعدها تجوز صلاته أينما توجّه. فأداء الصلاة بصورة مختلفة جائز وقت الخوف. سواء أدّاها راكبا حصانه أو بالإشارات فلا بأس. قد يكون منبطحا ومصوِّبا بندقيته إلى العدو وتحين الصلاة فإنه يستطيع أن يصلي وهو في هذا الوضع ويطلق النار على العدو عند الضرورة.

ويمكن أن تؤدّى صلاة الخوف هذه داخل المدن عند الضرورة في حالة الخوف.. كأن يكون هناك قتال بين بلدين.. فيجوز لسكان القرى المجاورة للحدود أن يرددوا كلمات الصلاة وهم قيام يطلقون النار على العدو المهاجم.

وقوله تعالى (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) يبيّن أنه عند زوال الخوف ودخول الأمن يجب أداء الصلاة كما أُمرتم في قوله تعالى (قوموا لله قانتين) أي صامتين ثابتين.

وقوله (كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) أي بالكيفية التي علمكم الله إياها.. أو اذكروا الله لأنه علّمكم ما لم تكونوا تعلمون من قبل. بهذه الكلمات أعلن القرآن الكريم أمام العالم أن الله علّم الناس بهذا الكتاب علوما روحانية لم تذكر في أي كتاب سماوي لأي دين من قبل.

 

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(241)

 التفسير:

في قوله (وصية) هناك فعل محذوف قبلها تقديره “يوصون” أي يوصون وصية لأزواجهم. وهناك أيضا محذوف قبل (متاعا) تقديره: أن يمتعوهن متاعا إلى الحول غير إخراج. فعلى المتوفى أن يوصي أهله الذين سيقومون بتنفيذ وصيته أن يمتِّعوا زوجته بالإقامة في بيته إلى انقضاء سنة كاملة ولا يخرجوها من البيت خلال هذه الفترة. (وغير إخراج) بدل من (متاعا) والمعنى المراد من هذا المتاع ألا يخرجوهن (إملاء ما مَنَّ به الرحمان). حتى وإن كان بيت المتوفى في نصيب أحد ورثته عند تقسيم الإرث، فمع ذلك يترك الأرملة تعيش في البيت لمدة سنة كاملة. ولا يعني ذلك أن الأرملة لا تستطيع مفارقة بيت زوجها المتوفى، بل لها أن تخرج وتترك البيت لمصلحتها إذا رأت ذلك بعد انقضاء العدة. قد فرض على الورثة شرط انقضاء سنة كاملة لمصلحة المرأة المتوفى عنها زوجها وراحتها. فعليها أن تبقى في بيته أيام العدة فقط، وأما بعدها فلها أن تترك هذا البيت لما فيه مصلحتها.

وهناك اختلاف فيما إذا كانت فترة العدة متضمنة في هذه السنة أم لا. وعندي أن نقبل بما فيه صالح المرأة، أي أن السنة الكاملة علاوة على فترة العدة. ولكن الأسف أنه لا يعمل أحد بهذا التعليم. لا أهل المتوفى ولا أرملته. إذا كان للأرملة أطفال فإن الأقارب يصبرون بعض الوقت، وإذا لم يكن له أولاد منها فإنهم بعد بضعة أشهر يطالبون بتوزيع أملاكه وبيته على الورثة، مع أنه من الضروري أن تمكث الأرملة في بيته سنة كاملة، وقد أكد الله على ذلك تأكيدا شديدا.

وقال البعض إن هذه الآية منسوخة بآية الميراث وما ورد فيها من أحكام (تفسير الرازي). ولكن هذا خطأ، فليس هناك أي علاقة بين ما تناله الأرملة من ميراث زوجها وبين موضوع آيتنا هذه. فذلك حكم منفصل مستقل. وإنما الواقع أن الله تعالى قد فرض أن تنال المرأة نصيبها من إرث زوجها.. فضلا عن أن تتمتع بالإقامة في بيته سنة كاملة مع نفقات طعامها ومعيشتها.

وبقوله (فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف) بيّن أنه ليس المراد أن تحتجزوا الأرملة سنة كاملة في البيت، وإنما أن تكون لها حرية كاملة للإقامة في بيت زوجها لسنة كاملة، ولكن إذا تركت البيت قبل انقضاء السنة فلا تمنعوها من ذلك. في أيام العدة خروجها من بيتها محرم عليها، ولكن ليس هناك إثم في أن تغادره بعد انقضاء العدة.

فمن الخطأ إذن اعتبار هذه الآية منسوخة بآية العدَّة أيضا، وإنما الواقع أن في ذلك تأكيدا زائدا على أهل المتوفى بحسن معاملة الأرملة، لأنها لا تستطيع أن تؤسس بيتا جديدا أو تجد زوجا بسهولة. إنها لا تستطيع الخروج قبل أربعة أشهر وعشرا، ولكن بعد ذلك يجب ألا يخرجها أحد لمدة سنة، اللهم إلا إذا أرادت هي أن تخرج، فقد سمح الله لها بذلك إذ اعتبر هذا العمل معروفا في قوله (ما فعلن في أنفسهن من معروف) وكلمة (معروف) تتردد في القرآن الكريم كثيرا، وهي مشتقة من (عُرْف) ومعناه ما يُعرف. وقد كتب الإمام الراغب: المعروف اسم لكل فعل يُعرف بالعقل والشرع حُسْنُه (المفردات).

فإذا عُرف حُسن فعلٍ عند الشرع، فيسمى مطابقا للقانون، وإذا عرف حسنه عند العقل العام فيسمى مطابقا للعادة؛ لأن الأمر الذي يعرف حسنه كل إنسان يصبح مُروَّجًا بين الناس، والأمر الذي يعرف حسنه عند شخص معين فيسمى مناسبا لحاله، لأنه لا يخص فردا من الأفراد من الحسنات إلا ما يكون مطابقا لحاله، فالمعروف هو ما يطابق القانون أو عادات القوم، ولكنه يعني هنا ما هو محبَّذ ومفضّل. والمراد من الآية هنا: سواء تزوجت هذه الأرامل بعد العدَّة أو ذهبن إلى بيوت آبائهن أو أقاربهن، أو توظفن في مكان. فلا اعتراض عليكم، كما لا يحق لكم أن تمانعوهن.

 وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ(242)كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(243)

التفسير:

عند نهاية موضوع الطلاق كرر الله وصيته بحسن معاملة المطلقات. هناك عموما سخط تجاه المطلقات، ولذلك قال عامِلوهن بالحسنى. وبعطف قوله (وللمطلقات متاع بالمعروف) على ما قبله من الآيات بيّن أن المطلقات أيضا لو اضطررن للإقامة في بيوتهم أكثر من فترة العدة فيجب أن تسمحوا لهن بذلك وتمتعوهن متاعا بالمعروف.. فهذا واجب على المتقين. فالواجب ألا تعامَل المطلقة بما يخالف المروءة، ولا تخرَج من البيت بمجرد انتهاء فترة العدة فورا، بل يجب إعطاءها فرصة كافية لتنتقل من هناك براحتها، وذلك على سبيل الإحسان إليها.

والعجب أن المسلمين الذين أمرهم الله أن يُسدوا معروفا إلى المطلقات علاوة على أداء مهورهن.. يهضمون مهورهن أيضا. والواقع أنه لو عمل الناس بهذا التعليم القرآني لتمَّ القضاء على كثير من المفاسد والخصومات، وهذا الطلاق الذي أحله الله على سبيل الاضطرار.. لم يؤد إلى هذه الخشونة التي تحدث بين الطرفين، ولَشَعر الطرفان أنهما ينفصلان مضطرين..وإلا فليس هناك أي خشونة ومرارة بينهما.

ثم قال (كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تعقلون) أي يفصّل الله آياته لمصلحتكم ومنفعتكم ولتتقوا الأخطاء والتقصيرات.

والمعنى العام لكلمة “آية” هو العلامة، ولكن القرآن قد استخدمها حينا في معنى ما يوجه الأنظار إلى الله تعالى؛ وآخر بما يهدي إلى الإيمان؛ وتارة بما يحمي الإنسان من العذاب؛ وأخرى بما يهدي إلى الصراط السوي من المدنية والحضارة (الأقرب). وقد وردت كلمة آيات هنا بمعنى الأحكام التي ترشد إلى المدنية الصحيحة، والمعنى أنه قد لوحظ في بيان الأحكام الشرعية أن يكون هناك تعليم في كل أمر ضروري، وبطريقة تحمي الناس من السيئات والتقصيرات. ويدل على ذلك قوله تعالى (لعلكم تتقون).

Share via
تابعونا على الفايس بوك